هل سمعتم مدير مخابرات يقول: «إنني لا أستطيع أن أتجسس على مواطني بلدي خارج القانون والأدلة الملموسة حتى ولو كان من بينهم من تحوم حوله الشكوك»؟ هل سمعتم مدير جهاز تجسس يقول للصحافة «إن القانون لا يسمح لنا بالتجسس على إيميلات ومكالمات المواطنين وحساباتهم وأسفارهم، إلا إذا كانت في حوزتنا أدلة مادية لا شك فيها على تورطهم في أعمال إرهابية أو التحضير لها»؟ هل سمعتم مخبرا يرفع الراية البيضاء أمام القانون، ويقول: «حتى لو أردنا أن نحشر أنفسنا في حياة المواطنين دون مبررات قانونية، لا نستطيع ذلك، لأن هناك أجهزة رقابة أخرى تحمي المواطنين ومعطياتهم الشخصية وحياتهم المدنية»؟ هذا ليس مقطعا من مسرحية، ولا هو حوار في فيلم للخيال العلمي. هذه تصريحات حقيقية، وإليكم التفاصيل. الأسبوع الماضي عقد جيمس كلابر، مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، ندوة صحافية حضرها عشرات الصحافيين في واشنطن من أجل أن يقدم ما لديه من معلومات إلى الصحافة والرأي العام حول تفجيرات بوسطن، التي هزت البلاد يوم 15 أبريل الماضي، وذكرت الأمريكيين برعب 11 شتنبر. فماذا جرى؟ لو كان كلابر مدير مخابرات عربية لألصق تهمة التخطيط لتفجيرات بوسطن، التي راح ضحيتها ثلاثة أمريكيين وجرح العشرات منهم، بالقاعدة، لأن هذا اتهام سهل، وفيه تنصل من 50 في المائة من المسؤولية، لكن كلابر يعرف أن هذا غير ممكن، وأن الأمريكي يقبل كل شيء إلا الكذب عليه. سألته الصحافة: «هل القاعدة من يقف وراء تفجيرات بوسطن؟»، فرد بدقة: «في الوقت الراهن لا أرى أي دليل يثير الشك في وجود مخطط أكبر سواء للقاعدة أو غير القاعدة، لكن مازالت التحقيقات مستمرة، ربما يكونان قد قاما بذلك وحدهما، لكن ينبغي انتظار انتهاء التحقيقات قبل الخروج باستنتاج. هناك عدة فرضيات تفسر اتجاه بعض الأفراد نحو التطرف والعنف، منها الشعور بالغبن على المستوى الشخصي، أو التعرض لتأثير المواقع الإلكترونية للحركات الجهادية». سألته الصحافة عن سبب إهمال الأجهزة الأمنية لمراقبة الأخوين الشيشانيين لأن الروس سبق وأن وحذروا المخابرات الأمريكية سنة 2011 من ميولات إرهابية لدى الأخ الأكبر، فقال مدير المخابرات الأمريكية: «إن التحقيق الذي أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي عن تامرلان لم يسفر عن أي دليل على علاقته بأي منظمة إرهابية يستدعي إدراجه على قائمة الممنوعين من السفر أو الخاضعين لرقابة خاصة. وطبقا للقواعد، تم حذف اسمه من سجل المشتبه في كونهم إرهابيين محتملين». وأضاف كلابر: «لم يكن لدينا أي دليل ضده. كل ما كان لدينا هو استفسار من روسيا. وطلبنا من هذه الأخيرة التوضيح ثلاث مرات لكن لم يصلنا جواب. وأجرى مكتب التحقيقات الفيدرالي فحصا جنائيا شاملا وطلب توضيحا، لكن الروس لم يقدموا معطيات أو أدلة أو معلومات يمكن التأكد منها». وأضاف كلابر: «كان الأخ الأصغر جوهر مواطنا أمريكيا، وكانت الإقامة التي حصل عليها تامرلان تجعله مواطنا أمريكيا، مما يمنح الاثنين معا حماية من مراقبة مكتب التحقيقات الفيدرالي والأجهزة الاستخباراتية الأخرى. هناك حدود صارمة لما يمكن لأجهزة الاستخبارات السبعة عشر التابعة لنا القيام به من أجل جمع المعلومات». سألته الصحافة: «وهل عدم إدراج المشتبه فيهما في قائمة الإرهاب، يمنع من فتح العيون حول أنشطتهما؟ هل أنتم تشتغلون مثل رجال الإطفاء، ولا تتحركون حتى تشتعل النار؟». هنا أجاب المخبر الأول في أمريكا بحدة وعصبية قائلا: «هل يريد الشعب منا أن نكون أكثر تطفلا في مراقبة نشاطهم على الأنترنت، والتنصت على مكالماتهم التي يجرونها بالهواتف المحمولة، أو أسفارهم خارج البلاد؟ هل تريدون منا أن نفعل ذلك معكم؟». لم ينتظر الرد من القاعة التي خيم عليها الصمت (حسب ما نقلت الصحافة الأمريكية والصحافي اللامع في الوشنطن بوست ديفيد أغناتيوس)، وأضاف كلابر: «هذه دولة فيها قانون ومؤسسات وحقوق مدنية، وعملنا الاستخباراتي عليه قيود بلاد ديمقراطية، عليها ألا تضحي بالحقوق المدنية والحريات الشخصية للمواطن الأمريكي، من أجل حمايته من الإرهاب، بل عليها أن تبحث عن كل الطرق التي تحافظ على الأمن والحرية في الوقت ذاته». الذي يقول هذا الكلام ليس مناضلا حقوقيا من اليسار، ولا رئيس منظمة هيومن رايتس ووتش، إنه رجل مخابرات يعرف حدوده، ويعرف أن في البلاد قانونا وحسابا وعقابا. ما الحل لمكافحة الإرهاب في أمريكا يا سيد كلابر؟ سؤال رمته في وجهه الصحافة كعنوان تحدٍّ، رد الرجل بحس سياسي وبيداغوجي مذهل فقال: «الحل السليم في التعامل مع المخططات التي تحاك في الداخل، ليس هو أسلوب المراقبة الذي تتبعه الدولة البوليسية، بل تبني سياسات مجتمعية جيدة وفعالة. لن تتوقف مخططات الأشخاص الذين يجنحون نحو التطرف مثل الأخوين تسارنيف، لكن المهم هو منع التطرف من الاتساع حتى لا يصير ظاهرة في المجتمع». «استراتيجيتنا -يضيف مدير المخابرات الوطنية الأمريكية- تركز بالأساس على التواصل مع المسلمين والجاليات الأخرى، من أجل الحصول على المساعدة في مراقبة أي نشاط إرهابي وعرقلته. الفكر المتطرف، المتمثل في زيارة مواقع إلكترونية أو الحديث عن جماعات إرهابية، ليس فعلا مجرَّما في أمريكا، الحل هو الإدماج، وجعل العائلات الأمريكية تراقب أبناءها، وجعل الجاليات المسلمة تشعر بأن البلاد بلادها والأمن مسؤوليتها». هل أسقط الطائرة في الحديقة، وأشرع في مقارنة ما يجري وراء الأطلسي بما يجري في العالم العربي؟ لا حاجة إلى ذلك إطلاقا، فالقارئ ذكي، وهو يعرف كيف يستخلص الدروس والعبر.
العدد: 1056 الثلاثاء 26 جمادى الثاني 1434 الموافق ل07 ماي 2013