يعتزم اللاجئون الفلسطينيون في الخامس عشر من مايو القادم تنظيم أكبر تحرك جماهيري لهم منذ ثلاثة وستين عاماً يهدف على إعادة الاعتبار لقضيتهم العادلة، وإعادة القضية الفلسطينية إلى مربعها الصحيح، وانتشالها من مربعات التجزئة والتقزيم التي نالتها خلال العقود الماضية لتعود القضية الرئيسية هي قضية شعب طرد من وطنه ويريد أن يعود إليه.. الخامس عشر من مايو هو الموعد الذي تتجدد فيه أحزان الذاكرة كل عام إذ يستحضر الفلسطينيون ما حل بهم في هذا التاريخ عام 1948 حين طردوا من ديارهم، وجاء أقوام غرباء من أشتات العالم فحلوا محلهم في أكبر مأساة تحل بشعب من الشعوب في العصر الحديث، لكن الشعب الفلسطيني ببراعته قرر أن يحيل المحنة إلى منحة، وأن يجعل من الركام جسراً للعبور، وأن يوظف هذه الذكرى الحزينة هذه المرة في جهد إيجابي يتجاوز به حالة الندب والبكاء إلى خطوات نضالية نوعية فعالة تقربه من استعادة حقه في العودة إلى دياره المغتصبة. الفكرة هي أن يخرج اللاجئون الفلسطينيون في مسيرات حاشدة تنطلق من كافة أماكن تواجدهم وتتجه صوب الحدود مع فلسطينالمحتلة عام 48 وتعتصم بشكل سلمي وترفع شعارات تنادي بحق العودة.. الفلسطينيون بهذه المسيرة بعد ثلاثة وستين عاماً من تهجيرهم من ديارهم يرسلون رسالةً قويةً إلى العالم بأنهم لم ينسوا حقهم، وأن نظرية الاحتلال بأن الكبار يموتون والصغار ينسون قد باءت بالفشل الذريع، فها هي أجيال ولدت وماتت، وكبر الصغار، وكبر أبناؤهم وأحفادهم دون أن يتسرب إلى الذاكرة شيء من النسيان. الفلسطينيون قرروا أن يأخذوا زمام المبادرة بأيديهم بعد أن تواطأ العالم ضدهم خلال كل هذه السنوات، أو على الأقل صمت على مأساتهم وتغافل عنها، هم لا يطلبون أكثر من حقهم في العودة إلى ديارهم وهو الحق المكفول في كافة الشرائع والقوانين. هذه المسيرة بالإضافة إلى التأكيد على طابعها السلمي فهي مسيرة قانونية لأنها تأتي تطبيقاً للقرار الصادر عن الأممالمتحدة رقم 194، وغيره من القرارات التي توجب السماح بعودة اللاجئين إلى ديارهم، وفعل المشاركين في هذه المسيرة لا يزيد عن كونه محاولةً لتنفيذ قرار أممي، لذا فإن أي قمع لهذه المسيرة هو خروج على القانون الدولي. بالتأكيد ستكون إسرائيل في مأزق غير مسبوق في مواجهة هذه المسيرة، فهي مسيرة سلمية وقانونية، وإسرائيل تدرك أكثر من غيرها نقطة ضعفها القاتلة، فهي لم تكن تراهن طوال عمر وجودها على الأرض المغتصبة على شرعيتها الأخلاقية، بل كانت تراهن على نسيان العالم للجريمة التي اقترفتها، وحين ينبعث أصحاب الحق بعد ثلاثة وستين عاماً ويقفون على الحدود أمام مرأى العالم وهم يطلبون الإذن بدخول وطنهم والعودة إلى ديارهم سيتبين حينها حجم المأزق السياسي والأخلاقي الذي تعاني منه إسرائيل. إسرائيل تسير في عكس اتجاه التاريخ لأن أساس بنيانها باطل، فهي في حالة تناقض صارخة، إذ كيف لدولة أسست من أول يوم على الظلم والقهر والقتل أن تنسجم مع عالم يمضي بخطىً متسارعة نحو مبادئ الحرية والديمقراطية، بينما الفلسطينيون في نضالهم المشروع يسيرون في اتجاه التاريخ ويعمل الزمن لصالحهم، لذا فإن معركتهم مهما طال الأمد فهي مضمونة النتائج. تستمد مسيرة العودة المرتقبة أهميتها من أنها تفاجئ الاحتلال الإسرائيلي بما لم يكن يحتسب له، وتضرب في نقطة ضعفه القاتلة، وتنبه إلى طريق ثالث متحرر من ثنائية إما مقاومة بالصواريخ والرصاص وإما استجداء بالمفاوضات، فبينما أثبتت المفاوضات عجزها عن تحقيق أي اختراق مهما كان شكلياً، وتيقن المفاوض أنه كان يلهث وراء سراب خادع منذ عشرين عاماً ، فإن المقاومة العسكرية تبدو أيضاً عاجزةً ومشلولة القدرات ومكبلة بالقيود والحسابات السياسية، والمزاج العالمي والعربي الحالي يصب في مصلحة المقاومة الشعبية السلمية، لذا فإن مسيرة العودة تأتي لتخليص الحالة الفلسطينية من حالة الجمود وانسداد الأفق السياسي، وتأتي انسجاماً مع الروح الجديدة التي تسري في العالم العربي. ما أثبتته الثورات العربية هو أن إرادة الشعوب أقوى من كل إجراءات القمع والاستبداد، وأن كل أشكال القوة هي أضعف من أن تقتل إرادة شعب، وكل ما يمكن أن يمارسه نظام استبدادي أو احتلالي من إجراءات قمعية هي إجراءات مؤقتة لا تنال الشعوب إلا بأذى "لن يضروكم إلا أذى" فلا تنفذ إلى الروح لتقتلها، وفي نهاية المطاف يحق الحق ويبطل الباطل فتزول هذه الأنظمة الظالمة وتبقى الشعوب متجذرةً، وعبثاً يفعل من يحاول أن يمد هذه الكيانات الظالمة بأسباب الدعم والقوة، لأن كل دعمه لن يحول دون سقوطها المحتم "كان ذلك في الكتاب مسطوراً". ما دامت الأنظمة القائمة على الظلم زائلة، لا محالة والشعوب هي الباقية فإن مصلحة العالم الحقيقية هي بالاصطفاف إلى جانب حقوق الشعوب، لا إلى جانب المعتدين الظالمين، ولأن العالم لا يفهم سوى لغة المصالح فإننا نخاطبه باللغة التي يفهمها، فنقول له:حسناً إن أردتم مصالحكم، ولكن ينبغي أن تعرفوا أين هي مصلحتكم الحقيقية، إنها ليست في دعم الاستبداد والاحتلال، بل إن المصلحة الحقيقية لكم هي بدعم حقوق الشعوب في الحرية والكرامة، فالاستقرار لا يكون إلا بالعدل، وما دامت هناك شعوب تحت الاحتلال فإن الاستقرار العالمي كله في خطر. الشعوب أذكى مما يتصور الكثيرون، وهي تعلم جيداً صديقها من عدوها، فمن يقف إلى جوار الشعوب من الآن فإنه سيكسبها وسيكسب مصلحته بذلك، لا أن تظلوا على مواقفكم الداعمة لقوى الظلم فإذا انتفضت الشعوب عليها ركبتم الموجة وقلتم إننا نحترم إرادة الشعوب. إن العالم مطالب من الآن خاصةً بعد أن تبينت له الآيات في الثورات العربية أن يراجع مواقفه وأن يؤمن بأنه لا استقرار حقيقي في العالم إلا بتسوية عادلة لأوضاع كافة المقهورين في أنحاء العالم.. مصلحة العالم الحقيقية ليست في دعم إسرائيل لأن إسرائيل تسير في عكس اتجاه التاريخ التقدمي، ومع الأيام تزداد عزلتها وانحسار مشروعها، وكما يذكر لنا التاريخ بأن دولة أشور ماتت مختنقةً في دروعها فإن إسرائيل تختنق الآن في ترسانتها النووية، وسينتهي مشروعها العنصري دون أن تغني عنها أسلحتها من الله شيئاً، فمصلحة العالم الحقيقية هي في الاصطفاف مع الباقي وليس الفاني، أي في دعم الشعوب ومساندتها في نيل حقوقها المشروعة، ولا يمكن لإسرائيل بعنصريتها واغتصابها لحق شعب كامل أن تكون قادرةً على الانسجام مع العالم الجديد الذي هو آخذ بالتشكل في هذه الأثناء. لا يبدو أن هناك مكاناً سيتسع لعنصرية إسرائيل في خارطة المستقبل، وعلى العالم أن يختار بين دعم إسرائيل العنصرية الفانية، بما يمثله هذا الدعم من إبقاء حالة التوتر التي تضر بالاستقرار العالمي، وبين دعم دولة ديمقراطية تنسجم مع روح العصر تتحقق فيها العدالة، ويعود فيها أصحاب الأرض الحقيقيين إلى وطنهم.. إن العالم سيدرك هذه الحقيقة حتماً،ولكن السؤال هو:متى سيدركها،وبأي تكلفة؟!