تحدثنا في الجزء الأول عن نشوء ايديولوجية السلام بين مفكري العالم العربي، والأسس المعتمَدة من قبلهم للترويج لهذه الايديولوجية. وكنا أخذنا كلام الدكتور حسن حنفي و حواره مع الدكتور الجابري مثالاً للتدليل و التوضيح. هنا في هذا الجزء المتمم للجزء الأول، نواصل الإشارة إلى كيفية طرح ايديولوجية السلام، مع اليهود المحتلين لأرضنا الفلسطينية، وتقديمها لشعوب العالم العربي. ذكر الدكتور حنفي أنّ اليهود عاشوا فترتين زاهرتين في حياتهم. الأولى بين العرب في اسبانيا، والثانية في فرنسا في عصر التنوير، وأنّ هناك احتمال أو امكان لحدوث فترة زاهرة ثالثة في المحيط العربي. " و الحقيقة أنّ اليهود، ......، عاشوا أزهر فترتين في حياتهم مرتين، الأولى بين العرب في اسبانيا، والثانية في فرنسا في عصر التنوير." هنا يحاول الدكتور حنفي أن يجد مبرراً لتقبّل اليهود في فلسطين، واستقبالهم في محيطنا مستنداً على حوادث تاريخية غير مرتبطة لا من قريب ولا من بعيد بمسألتنا الفلسطينية. والسؤال:لماذا هذا الطرح... وكأنّ أهلنا في فلسطين هم المغتصبين والمعتدين ؟. بغض النظر عن دقة أو عدم دقة الوقائع التاريخية السابقة الذكر، نضيف أكثر و نؤكد أنّ اليهود عاشوا فترة زاهرة في الكنف العثماني، خصوصاً في منطقة الهلال الخصيب التي كانت واقعة تحت احتلاله، وكان نتيجة هذا الاحتضان ولادة أولى المستعمرات اليهودية في جنوب سوريا(فلسطين) و تحديداً في مرحلة حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909)، حيث أُقيمت في زمانه اللبنة الأولى لما يُعرف اليوم ب(دولة اسرائيل) فلقد بلغ عدد المستعمرات في عهده 62 مستعمرة، وكان أبرزها مستعمرة تل أبيب، بالإضافة إلى أنّ دار الكتب القومية اليهودية في القدس أُنشئ في عهده، كما قام بمنح هرتزل النيشان المجيدي، وتمّ في عام 1901 عقد أول مؤتمر صهيوني عالمي في فلسطين. طبعاً هذه العجالة التاريخية للتأكيد على أنّ المشكلة مع اليهود وحلها ليس في فترة تاريخية زاهرة أو غير زاهرة، فهناك أقليات إلى الآن لم تعش فترة زاهرة، لكنها مندمجة اجتماعياً ضمن محيطها، وغير منعزلة. فهل يستطيع أن يحدثنا الدكتور حنفي، عن امكانية هذا التعايش، متجاهلاً نمط حياة اليهود، وكيفية اقامتهم الانعزالية في جميع المجتمعات التي سكنوها؟. وهو وقت ليس بعيداً عن زماننا، فلقد عاش اليهود فترة زاهرة في جميع أرجاء العالم العربي (في التاريخ المعاصر) في ظل وبعد الاحتلال العثماني، و لكن النتيجة ماذا؟ لقد ترك اليهود و تخلوا عن أماكن اقامتهم فور إعلان (دولة اسرائيل) 1948 على أرض فلسطين، وهاجروا بمئات الآلاف من مختلف أصقاع الأرض بما في ذلك العالم العربي، وبإرادتهم الكاملة. وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على الثقافة الانعزالية و العنصرية، و التي هي صلب الثقافة اليهودية بما فيها الصهيونية. أي بعبارة أخرى يُشير ذلك على إلتزام اليهودي الكامل بالمنهج الديني العنصري كما هو موضّح تماماً في العهد القديم (التوراة الحالية)، وينافي كلام الدكتور حنفي. فالانعزالية اليهودية و الجيتو الذي انحصروا فيه كان بإرادتهم، تنفيذاً لما يعتقدون به من تميزهم عن الغير، و عدم جواز الاختلاط إلّا باستثناءات تتوافق و المصلحة اليهودية، وهذا ما يُعلل استمرار التهجير حتى يومنا هذا. كما أنّ الانعزال و الانحشار في مساحة ضيقة ضمن المجتمعات التي سكنوها لم يكن بفرض أهل هذه المجتمعات، على العكس فهم يأخذون خيرات المجتمعات دون أن يقدموا لها أي شيء، إلا إذا حصل تقاطع مع مصالحهم. هنا الدكتور حنفي حاول الابتعاد عن المشكلة الحقيقية، وأظهر وكأنّ اليهود هم المظلومون، وذهب للحديث عن المسألة من جانب اجتماعي تعايشي، لكنه لم يكن موفقاً وأميناً أبداً في طرحه. لقد أكّد الدكتور حنفي على امكانية التعايش مع اليهود، مستنداً إلى فترات تاريخية، محاولاً اظهار اجتماعية اليهود من خلال ذكره لأسماء أطباء و فلاسفة .... يهود. والسؤال هنا: ماذا قدّم هؤلاء المذكورين لمجتمعاتهم و للرابطة الاجتماعية، وهل تمكنوا من التخلص من عزلتهم و فوقيتهم (المقدسة)، وانفتحوا على الشعوب، والمجتمعات التي سكنوها ؟. في هذه النقطة نستذكر كلام المفكر الاجتماعي السوري انطون سعادة، في نهاية الربع الأول من القرن الماضي، حيث لخّص الشخصية اليهودية من هذه الناحية بقوله: " ظلّ اليهود بنوابغهم كاليهود بلا نوابغهم ". 1925. طبعاً من يراقب نمطية حياة عيش اليهود، وسلوكية حياتهم الآن في فلسطينالمحتلة سيتأكد أيضاً و أيضاً من عدم دقة طرح الدكتور حنفي و غيره. كما أنّ هذا الكلام لا يبرر احتلال و اغتصاب أرض، وأنّ التلحين على وتر العودة إلى تاريخ و عهد الأندلس و نابليون لا يفي بالغرض، و لا يمكن أن يكون أساساً علمياً منطقياً ولا انسانياً ولا أخلافياً لنشوء دولة يهودية على أرضنا في فلسطين. ولا يمكن أن يكون حلاً للمسألة الفلسطينية. والحل كما ردّ الدكتور الجابري هو بمزيد من المقاومة. يقول الدكتور حنفي: ".... فجوهر اليهودية هو الإيمان بالله ذاتاً و مواصفات و أفعالاً، وبرسالات الأنبياء، وبخلود الروح. وهو جوهر كل الرسالات السماوية في المسيحية و الاسلام، فالهوية تأتي من العقيدة، وليس من خارجها، ومن الفكر و المبادئ وليس من اللون والجنس". لا أعرف عن أي عقيدة، وعن أي يهودية يتحدث الدكتور حنفي ؟. فالواقع يُشير عكس ذلك صراحة. نفسهم اليهود لا يعترفون بما ذكره الدكتور حنفي. فلماذا الاستبسال في التقرّب من اليهودية ؟ وهنا نعيد ونكرر سؤال الدكتور الجابري ... لمن تكتب هذا الكلام ؟ فالعهد القديم (التوراة الحالية) يؤكد على تعدد الآلهة، ويؤكد على اضطهاد الأنبياء السابقين، ورفض الأنبياء اللاحقين، كما حصل مع النبي عيسى (ع)، والنبي محمد (ص). ويُشير إلى ذلك بكل صراحة المفكر اليهودي اسرائيل شاحاك " .... كان هناك نقطة واحدة لابدّ لليهودي من معرفتها. وهي مقاطع و اجزاء التلمود التي عارضت المسيحية وكرهت الغرباء...."، " .... التلمود يحوي لغة قاسية تهاجم المسيحية ..... التهجم على السيدة مريم (البتول)..."،" أكثر الأساطير شيوعاً وهي فكرة أنّ اليهودية ديانة توحيدية، وهي فكرة خاطئة، .... فالكثير من الأسفار تعترف بوجود أرباب أخرى وبقوتها، لكن (يهوه) وهو أقوى الأرباب ...". إنّ اليهودية كما ذكرنا سابقاً ليست ديانة سماوية كما يتحدثون و يحدثوننا. حيث أنّ هذه الكلمة ظهرت بعد السيد يعقوب (ع) وبنيه، وتحديداً ظهرت منذ زمن السيد سليمان (ع) وأطلقت على كل من انتمى لبيت يهوذا فقط (أحد الأسباط)، ولم تُطلق على البقية من أسباط عشيرة بني اسرائيل. ثم فيما بعد وتقريباً في سنة 300 قبل الميلاد (أي بعد رحيل السيد موسى (ع) بما يزيد عن ألف سنة) اجتمع 72 كاهناً و وضعوا أسفار التوراة التي هي مغايرة لتوراة موسى والشريعة الموسوية. كما وضّحنا سابقاً في مقال سابق عن ابتعاد ما يعتقد به اليهود عن الديانة السماوية من خلال عدة نقاط (الحقيقة المحرّمة : اليهود وأعوانهم اعداؤنا). ما يُثبت صحة ماذُكر بالأعلى هو الهدف الذي لأجله أتى السيد المسيح (ع). حيث أتى دالاً و مشيراً على الانحراف الحياتي و الإنساني و الخلقي و الديني لليهود. ولقد تعمّدوا إيذاءه و صلبه (سواء اختلف المسيحيون و المحمديون حول صلب السيد المسيح (ع) أو التشبيه بصلبه، إلا أنه بكلتا الوجهتين نتأكد على أنّ مشروعية الإيذاء و الصلب و النية و الاستعداد و الإقدام على السوء كان موجوداً و ظاهراً عند اليهود. وكذلك الحال مع السيد محمد (ص) الذي قاتلهم في عدة مواقع. ومنع قراءة و نسخ وتداول ما جاء في كتبهم كما حصل مع عمر بن الخطاب. وهذا يدل على عدم صحة كتبهم و خروجها عن المألوف. إذاً ما توجه إليه الدكتور حنفي مرفوض تاريخياً، وحاضراً و مستقبلاً بكل تأكيد. ولا يوجد أي أساس علمي أو منطقي أو تاريخي، و لا حتى ديني لطرحه. نأتي أخيراً لنتناول مصطلح، أو بالأحرى بدعة السامية التي تطرّق لها الدكتور حنفي في نهاية حلقته و تمسّك بها كخاتمة لمقالته. السؤال هنا: هل مصادفة أنّ جميع من يُروّج للسلام مع العدو اليهودي، و فكرة الدولتين هم من معتنقي فكرة السامية بالرغم من سذاجتها؟. يعني لا نرى داعياً للسلام إلا و يحدثنا بالسامية. ولكن لم نجد من يوضّح لنا معنى السامية. يبدو أنّ الدكتور حنفي كغيره من دعاة السلام تلقف خرافة السامية التي لا أصل لها ولا جذر إلا في الثقافة الحديثة لليهودية العنصرية المتزمتة . حيث أعلن عن ولادتها لأول مرة الكاهن اليهودي النمساوي : شلوتزر، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. عندما أطلق هذه التسمية على اللغات التي كانت سائدة في منطقة الهلال الخصيب و شبه جزيرة العرب، متعمداً ذكر اللغة العبرية (التي لا جذور لها، والموضوعة حديثاً)، ليتمكن من الحديث واثبات وجود دولة يهودية في منطقتنا، كما جاء في التوراة الحالية. ومن ثمّ تلقفها يهود آخرون من المانيا و روسيا ...الخ، تلقفاً أعمى (حال دعاة السلام اليوم) وذلك فقط إرضاءً لعنصريتهم و لتأكيد مزاعمهم بوجود لغة ودولة عبرية في منطقتنا (سوريا الطبيعية)، وإرثهم الإلهي فيها. وهذا ما يتعارض تماماً مع علم الآثار و اللغات. ولكن وللآسف، بدلاً من أن ندحض هذه المزاعم و الافتراءات اليهودية، يعمل فريق من الأكاديميين (مثقفي أدب السلام و الاستسلام) على تأكيد هذه المزاعم و ترويجها و تدريسها كحقائق. إنّ بيوتنا و ثقافتنا و مناهجنا مليئة بالهرطقات و الخزعبلات اليهودية، والتي لم نأخذها فقط، بل أصبحنا نبحث و نتجادل بها و ندافع عنها ....!!؟؟. نستعرض الان أهم النقاط والأسس التي اعتمد و استند إليها الدكتور حنفي للتقديم لايديولوجيته المرتبطة بالسلام، وامكانية التعايش اليهودي الفلسطيني من خلال الدولتين أو كونفيدرالية و ما شابه ذلك. الاعتماد على: الموروث الديني و التاريخي المغلوط. البعيد عن المنطق والمنافي للحقائق العلمية. مصطلحات الإنسانية و السامية المدغدغة للمشاعر، ولكنها لا تنفع أبداً في مسألتنا الفلسطينية، ولا ترد الحقوق لأصحابها. دول الاستعمار الغربي و المجتمع الدولي الذي يدور في فلكها، كراعية و منصفة لحقوق الشعوب والأمم. ضعف المطالعة و الاطّلاع من قبل شعوب العالم العربي على الثقافة اليهودية المحفوظة ضمن التوراة و التلمود و ما تفرّع عنهما، والتي تدل بشكل واضح وصريح على حقيقتهم العنصرية والهمجية واللا أخلاقية. والآن كيف يمكن أن يُجيب الدكتور حنفي و غيره من رواد الأدب السلمي (الاستسلامي) عن مايلي: هل العدالة هي سلب أرض و تهجير أناس لأجل أناس آخرين؟. يعني هل يرى دعاة السلام أنّ العدل هو في تهجير أهلنا في فلسطين ليحل محلهم اليهود. وهل كان ليرضى الدكتور حنفي، على سبيل المثال، بشبرين (القطاع والضفة) كدولة مصرية ؟. هل مصر والأردن والمخفر اليهودي (السلطة الفلسطينية) مستفيدة أم منكوبة من جرّاء سلامها (استسلامها) مع اليهود ؟ بعبارة أخرى هل حُفظت كرامتهم و ازدهرت مقاطعاتهم، كما أعلنوا وبشّروا قُبيل (سلامهم) استسلامهم ؟. هل احترام حقوق الإنسان هي في احتلال وتدمير العراق و قتل الآلاف واستعماره أمريكياً ويهودياً ؟. هل الديمقراطية هي في الرعاية الدولية لأكثر حكّام العالم العربي (المتعاملين مع الغرب الاستعماري و اليهود المحتلين) ومواجهة وزعزعة المعادي لهم ؟. هل همجية اليهود و مجازرهم ضد أهلنا في فلسطين ولبنان والجولان وغيرهم من أبناء أمتنا واحتلالهم الأرض، ينطبق و السامية المنادى بها، في حين يختلف التعبير و معنى السامية بالنسبة للمقاومة و الكفاح المسلح لتحرير الأرض و استعادة الحقوق، ويصبح الموضوع إرهاباً وتخريباً ؟. هل لبنان قبل التحرير هو نفسه لبنان المقاوم بعد التحرير، وهل لبنان قبل تموز 2006 هو نفسه لبنان بعد انتصار 2006 ؟ وباعتباره لا يوجد مشكلة في احتلال فلسطين بالنسبة للمجتمع الدولي ولدعاة السلام، هل هناك مشكلة باحتلال مقاطعات أخرى من العالم العربي تحت نفس التغطيات الدينية، وغير الدينية المقدمة من قبل اليهود والمروّج لها من قبل الغرب الاستعماري و دعاة السلام ؟ أسئلة حتماً لن تجد طريقها في أدبيات السلام والمستسلمين . *