عرفت الذكرى الأربعينية للمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، التي نظمت مساء أول أمس الثلاثاء بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، تقديم شهادات من عدد كبير من الشخصيات الفكرية والثقافية التي عرفته مناضلا ومفكرا وفيلسوفا وصحافيا. وفي شهادته، قال عبد الرحمان اليوسفي رئيس اللجنة الوطنية لتأبين الفقيد، إن المرحوم «ظل في سلوكه وفكره نموذجا للالتزام الوطني والأخلاقي»، مضيفا أن الراحل «كان مواظبا على المسايرة الواعية للمستجدات السياسية في المغرب والعالم العربي على الخصوص، حريصا على نقل التزامه الوطني القومي من مستوى الحركية المباشرة والعمل التنظيمي إلى مستوى التفكير والتنظير». وأشار اليوسفي إلى أن «تفكير الراحل في المجال المشرقي جزء وصدى لتفكيره في المجال المغربي ولعله بذلك أصبح رائدا من رواد مدرسة فكرية متميزة في المغرب بانفتاحها على الفكر الإنساني الكوني ونزعتها العقلانية وروحها التاريخية ومنهجيتها التاريخانية وذلك عبر مختلف المجالات التي أسهم في دراستها سواء تعلق الأمر بتحقيق التراث الفكري وتأويله تأويلا عقلانيا حديثا أو بدراسته حول المغرب وقضاياه أو بالتعريف بالفكر الكوني في مجالات فلسفة العلوم والابستيمولوجيا». وأضاف أن المفكر الراحل «استطاع أن يرسي أسس مشروع فكري نهضوي ضخم كما وكيفا وهو علامة فارقة متميزة ومميزة ومشروعه سيفتح آفاقا تحليلية جديدة سيتم إغناؤها في اتجاه بلورة وعي عربي حديث وحداثي بالواقع المحلي والإقليمي والكوني المعاصر». من جانبه، استحضر عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عطاءات الراحل مناضلا ومفكرا وأستاذا، مشيرا إلى أن الجابري كان يتمتع بقدرة كبيرة على الاجتهاد وهو أحد أعمدة الفكر والبحث العلمي.وذكر الراضي بدور الراحل في الحزب وبمحطات كبرى كان له فيها دور كبير، وكذا بمساهمته في تطوير الحركة النقابية المغربية، مضيفا أنه ربط بين الفكر والممارسة وكان نموذجا للمثقف العضوي المنشغل بقضايا عصره. أما المفكر القومي العربي عزمي بشارة، فقال إن محمد عابد الجابري فقيد فلسطين كما هو فقيد المغرب، والجابري عنوان فلسفة مرحلة تنطلق عند أفول مرحلة ما قبل، وجاء بعد ابن رشد وبعد نهاية مرحلة الاستعمار المباشر. كما يلخص الجابري، حسب بشارة، حاجتنا إلى ابن رشد وهو أيضا تعبير عن وعي غياب ابن رشد، مبرزا أن الراحل مدخل ومدرسة في تجديد الثقافة العربية المعاصرة وقام بمهمة لا يمكن لأحد أن يقوم بها، قرأ التراث بتأن وعلم وفصل المهم عن الزوان، واستنبط من التراث أدواته المعرفية وولج إلى الشعور وإلى اللاشعور المعرفي، وطرح الشروط المعرفية للنهضة العربية، ونشط في النضال السياسي ولم يترفع عن الحزبية، طرح الأسئلة الكبرى، لم يضع أسطورة عن حياته ولم يكن بحاجة لصورة المفكر لأنه كان مفكرا فعلا حقيقيا. أما المفكر حسن حنفي، الذي عرف بحواراته الفكرية مع الراحل على صفحات مجلة اليوم السابع، فقد اعتبر الجابري عبارة عن عدة مشاريع، تربوية، وفكرية وتراثية ووطنية وثقافية وإسلامية. والجابري، حسب الدكتور حنفي، يعبر عن جيل وجيل يعبر عن عصر، حمل هم الفكر والوطن، وهو المثقف الملتزم، كان دائما يشعر بوحدة الوطن العربي صادقا. وقال حسن حنفي «لدينا جابريون يتمثلون الفكر الجابري بمشرق المغرب ومغرب المشرق»، وكان مقروءا حتى بأندونيسيا وهو نموذج لمفكر وطني وعروبي. وتحدث المفكر السوري برهان غليون بدوره عن علاقته المتميزة بالراحل، الذي تعرف عليه من خلال الراحل محمد باهي بباريس. وقال إن ذكراه هي بالدرجة الأولى تذكر للصديق الذي كانت له القدرة على الصداقة. وشدد غليون على أن الراحل مارس السياسة بمعناها النبيل، جعل من العقل مذهبه، حتى أصبح رمزا للعقلانية ولم يكن تهشيما لهذا العقل بل تأهيلا له. وعزاء خير الدين حسيب رئيس مركز دراسات الوحدة العربية، وهو يقدم شهادته، في فقدان الجابري، انتصار رسالته، وهو الذي عرفه باحثا معتكفا في محراب العلم والرجل الرفيع الأخلاق والمتواضع والعفيف اللسان. وقال إن «الكبار وحدهم يملكون أن يوقظوا فينا أخلاق الاجتماع وإن تفرقت بنا السبل». وخلص إلى أن مركز دراسات الوحدة العربية سيبقى وفيا لفكر الراحل. واعتبر السياسي والمفكر التونسي محمد مواعدة، أن الحفل التأبيني لمحمد عابد الجابري حقق الكتلة التاريخية والوحدة العربية، مضيفا أن رحيله شكل هزة في تونس وما زالت الندوات عن فكره تنظم يوميا، داعيا إلى تأسيس مؤسسة عربية وإسلامية ودولية تحمل اسم محمد عابد الجابري. أما الأمين العام للمؤتمر القومي العربي عبد القادر غوقة، فوصف الجابري بالمدافع الصلب عن الأمة وعن قيم الكرامة والحرية، وهو الشجاع المثال للمفكر النهضوي والملهم الرائد والمدافع المستميت عن الكتلة التاريخية. وقدمت الباحثة الألمانية صونيا هيكاسي شهادتها من زاوية أخرى، خاصة أنها تعرفت على الجابري وهي تنجز بحثا عن المجتمع المدني بالمغرب، واكتشفت أن الطلبة الباحثين يعتمدون في قراءتهم للتاريخ وللمجتمع على كتابات الجابري. وأشارت إلى أن الجابري لعب دورا مهما في إثراء المجتمع المدني وصالح جيلا من الطلبة مع موروثهم الثقافي. أما المفكر المغربي محمد سبيلا فاعتبر الراحل قدوة فكرية ومنارة ثقافية وصل إلى آفاق كونية رحبة دون عقد وبدون أي مشاعر سلبية راكم بين الفقيه التقليدي الراسخ في الثقافة العربية الإسلامية وبين مقومات الفكر الحديث.وهذه الانتقالات الفكرية، حسب سبيلا، ليست أمرا سهلا بل تفترض عقلا راجحا وقدرة على الفهم والاستيعاب والتوفيق، مشيرا إلى أن النسق الفكري للجابري يمكن قراءته من خلال أربعة محاور. ويتعلق الأمر بالرؤية النقدية والرؤية العقلانية والشمولية والاستشرافية، فهو يمارس النقد من خلال فحص الذات فحصا نقديا وهو هنا ليس من أنصار تطابق الذات مع نفسها أو مع الوهم النرجسي، وهو من دعاة العقل كأداة للنقد ولديه شك منهجي ويعمل الآلية الفكرية لمواجهة الأفكار الجاهزة، أما الشمولية فلحظة أساسية فهو يؤمن بالكلية الزمنية والبنيوية لكل ظاهرة، وهكذا فالاستشرافية تعني أنه يعطي الأولوية للمستقبل والأفق المفتوح وعدم الارتهان لسلط الماضي. وفي كلمتين مؤثرتين، تحدثت أرملة الفقيدة مليكة زكري وابنه عصام الجابري عن علاقتهما بالراحل زوجا وأبا، مشيرين إلى أنه كان «ملكا مشتركا يجعل من الاهتمام بالقضايا العربية صحنا يوميا على مائدة العائلة» وتعلما «في مختبره الفكري قيمة انبثاق الفكرة في صمت قبل أن تنمو وترى النور» وكان «طبيب العقل العربي» و»منظرا للتخفيف من التأثيرات السلبية للعولمة»، وأن المفكرين من أمثاله «يهزمون الموت بخلودهم». حضرت هذا الحفل شخصيات تنتمي إلى عوالم السياسية والفكر والاقتصاد والثقافة من بينها على الخصوص الوزير الأول عباس الفاسي وعدد من السفراء المعتمدين بالرباط. يشار إلى أن اللجنة الوطنية لتأبين الفقيد الدكتور محمد عابد الجابري، ترأسها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي وضمت في عضويتها كلا من عبد الواحد الراضي الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ونائبه فتح الله ولعلو، وابني الفقيد بدر وعصام، وشقيقه عمر، وصهر المرحوم حسن الخطار، وحسن نجمي وبزاوي بلكبير، وبنعابد أحمد، والناشر محمد برادة، وكذا عبد اللطيف كمال، وعبد اللطيف فتح الدين، وعبد الرحيم العلام نائب رئيس اتحاد كتاب المغرب.