كان بيار الجميّل (الجد) أكثر القياديين اللبنانيين تعبيراً عن طبيعة النظام القائم، وخاصة في تصريحه بما لا يعني، وتصرّفه بما لا يصرّح به، وقيادة ما لا يعترف، وكانت يده التي تقطر دماً لا تكاد تتعرّف إلى نظرة عينيه المليئة بالبراءة وهو يصرّح بما يستشفّ منه أنه فعلاً لا يعلم ما المشكلة ما دام الجميع إخوة ولبنان للجميع، وفي نهاية الأمر فهو صديق للكل. هذا ما كتبه جوزف سماحة عن بيار الجد عام 1984. ثمة من ورث من بيار الجميّل هذه الخصال، وإن كان لم يعد ينفع الكثير من الكذب والافتراق ما بين الخطاب والفعل، وإن كنا نربأ برئيس حكومتنا الحالي أن يؤدي هذا الدور، إلا أن بين من يدورون في فلك المملكة العربية السعودية من يتحدث عن رئيس الحكومة السابق الذي لا يرون فيه إلا نموذجاً لمن يخطبون بما لا يفكّرون فيه، ويفعلون ما لا يخطر في بال، وحين تسألهم فإن جوابهم يأتي مدهوناً بالشحم والزيت، فلا هو يعلق في الذهن ولا يمكنه أن يعكس حقيقة الممارسة المسؤولة. البعض ممن في السلطة اعتقد أن الوجهين ممكنان معاً، ويسمحان بهامش واسع للمناورة، وهنا لا فرق بين المناورة والتكاذب، ولكن لم يبد الأمر كذلك على أرض الواقع، ولم يكن خافياً أن أمد هذا التلاعب اللفظي ينتهي مع بداية الاستقرار، فهو تلاعب قائم على الخراب. ورغم أن الرئيس فؤاد السنيورة نفسه هو أكثر من تحدث عن الدولة وبنائها ومنعتها، وحصر السلاح فيها، إلا أنه في عهده حصل انقسام الدولة، وتخلي حكومته عن شرعيتها، وتسليح ميليشيات إضافة إلى المقاومة، وشنّت الحرب على المقاومة، ودُمّرت البلاد، وعاشت في عهد حكومته الثانية أسوأ انتخابات على المستويات المالية والإدارية والتمثيلية، وبات شراء الأصوات مسألة معلنة، واستيراد الناخبين عملاً يومياً، وصرف مئات الملايين من الدولارات في شراء الذمم مرادفاً للنزاهة. في النهاية، لم يرث أحد من السنيورة إلا التصريحات الإيجابية، التي تتناقض مع ما يجري في غرفه المغلقة، وهي غرف كان الجزء الأكبر منها من المال العام حين تشبّث بالسكن في السرايا الحكومية، وتولّت عقيلته فرشها بالسجاد الفاخر على نفقة المكلّف اللبناني، الذي سيبقى يدفع ضرائب إضافية إلى ما شاء الله. على النسق نفسه يتحدث مفتي طرابلس مالك الشعار حين يستصرحه أحد الصحافيين المصريين عن رأيه في حزب الله والمقاومة والشيعة، فأتى جوابه مطابقاً للموقف الرسمي المصري، ما حدا الإعلام المصري إلى الاحتفاء به عبر نشره وتعميمه، فقال عقب الانتخابات النيابية إن اللبنانيين أسقطوا حزب الله ومشروعه الطائفي المرتبط بإيران من خلال التصويت، معتبراً أن قوى 14 آذار بقيادة تيار المستقبل الذي يتزعمه سعد الحريري فازت في مواجهة المشروع الإيراني في لبنان. وكان حينها الشعّار يشارك في مؤتمر رابطة متخرّجي الأزهر في مصر. وعلى الرغم من مطالبته بتوضيح موقفه، إلا أنه اكتفى حينها بإرسال نصّ خجول يعلن فيه أن ما نقل عنه «غير دقيق» ببراءة متناهية. من يتابع ويوثق هذه المعلومات يقل إن المفتي الشعّار يمدح آخر من يلتقيه، ولكنه يبدو أنه يعلن ما لا يضمر، وإلا فما الذي أدى به إلى الانزلاق إلى الحديث المماثل للصحافة المصرية. أما الرئيس السنيورة فيتهم عادة بأنه يوقّع على مشاريع القوانين بينما يعمل على تدمير الدولة وتسليمها إلى الفوضى، عن سبق الإصرار والترصّد، ويتحدث عن الرئيس الشهيد بينما يسحب البساط من تحت أقدام سعد الحريري. يضيف هؤلاء أنه يخشى أن يكون هذا السلوك معدياً، فينتقل من رئيس حكومة إلى آخر ومن مفتٍ إلى آخر، دون أن يتوقف الأمر عند حدّ، علماً بأن المشكلة مع دمشق اليوم هي تحديداً في محاولتها توحيد الخطاب والممارسة، وخاصة لدى القوى التي شبّت عن الطوق ثم عادت إليه لفظاً.