يعتقد معظم الناس أن العدو اللدود للإسلام هو الاستسلام للشهوات ، ولكن الاستسلام للشهوات وإن كان إثمًا لا شك فيه ، وحرامًا ، إلا أن ذلك لا يستتبع أنه أهم وأقوى أعداء الإسلام ، لأن بعض الذين يرتكبونه عن ضعف وهم نادمون ، ولعلهم يستغفرون الله ويسألونه العفو والرحمة ، كما أن الاستسلام للشهوات لا يضر إلا صاحبها ، فهو لا يسرق مالاً ، ولا يقتل نفسًا ، ولا يقذف آخر ، وإنما هو يستسلم للشهوات بحكم ضعفه فهو يظلم نفسه ، وإثمه يقع عليه ولا يلحق الضرر بآخر . وقد يتصور آخرون أن التقصير في العبادات من صلاة أو صيام أو حج يفقد الدين جوهره وخصيصته بحيث لا يصبح هناك فرق بين مسلم وغير مسلم ، وهذا الانحراف يشترك مع الاستسلام للشهوات في أنها لا تجني إلا على صاحبها ، فلا تضر أحدًا ولا توهن في المجتمع ، وإذا كان هناك حساب ، فإن الله تعالى هو الذي يقوم به يوم الحساب ، وقد أمرنا الله لا نيأس من رحمة ، ودعا الذين ظلموا لأنفسهم أن لا يقنطوا من رحمة الله ، فإن الله يغفر الذنوب جميعًا «وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ» . في مواجهة هاتين الفصيلتين من الذنوب والآثام ، هناك فصيلة ثالثة يصطحب الذنب فيها بالشر فيكون آونة سرقة ، ويكون آونة أخرى غصبًا ، أو قتلاً .. إلخ ، وهذه ليست ضد الإسلام على وجه التحديد لأنها توجد في كل المجتمعات البشرية ، وقد حدد الله تعالى لها عقوبات لأنها تمس الناس وليس (الإسلام) ، ولا يمكن السكوت عليها أو إرجاء البت فيها إلى الله تعالى يوم القيامة كبقية الآثام التي لا تضر إلا صاحبها ، وعندما يتلقى المذنب عقوبته ، فإنه يدفع بذلك ثمن انحرافه ، كما يثبط بهذه العقوبة الآخرين من الاجتراء على الانحراف ، لأن من يفعل ذلك يدفع ثمنه عاجلاً . فهذه ثلاث فصائل من الذنوب والآثام يُعد الناس بعضها هدمًا للإسلام ، وقضاء عليه في حين أن واحدًا منها لم يمس الإسلام نفسه ؛ لأنها تنصب على صاحبها ، وليس على الإسلام ، اما ما يسئ إلى المجتمع منها فإن القوانين تعاقب عليه سواء نص على ذلك الدين أو لم ينص . وما يمثل خطرًا على الإسلام ، ويُعد العدو اللدود له هو الطقوسية ، لأنها تنصب مباشرة على الإسلام نفسه فتفرغه من مضمونه عندما تجعل هذا المضمون «شكليات» وحركات ، ويكون الحكم هو على الشكل وليس الجوهر ، ويحل التدين الكاذب محل الدين الصادق . وقد توصلت الطقوسية إلى «تطقيس» الإسلام على خطوتين ، الأولى فهم الإسلام أنه عبادة رافعين راية الآية المشهورة «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» . وعندما نجحت الطقوسية في ذلك فإنها قلصت تطبيق الإسلام ، وقصرته على الحياة الأخرى دون الحياة الدنيا مع أنه يُعني بالمجتمع كما يُعني بالفرد ، وأنه يضم إلى جانب العقيدة الشريعة . العقيدة للإيمان الديني ، والشريعة للإصلاح الاجتماعي وهما معًا متكاملان . ومع أن العقيدة هي الأصل والشريعة هي الفرع ، فإن هذا لا ينفي أن العقيدة إنما تتبلور في الإيمان بالله ، ويصدق هذا الإيمان الشعائر العبادية من صلاة أو زكاة أو صيام أو الحج ، وأن العقيدة تكتسب قوتها من أنها «الروح» ، ولكن من ناحية أخرى فإن الشريعة تنتظم كل شئون الدنيا وتقول رأيها في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون وهي التي تضم قيم الحرية والمساواة والعدل .. إلخ ، فمساحتها متسعة جدًا وفروعها متعددة وكثيرة كثرة تعدد الحاجات ، وعلى حين أن العقيدة لا تتطلب عمليًا إلا خمس فروض ، هي (الشهادتان .. والصلاة .. والصيام .. والزكاة .. وحج البيت) ، فإن الشريعة تضع حلولاً لكل ما يتعلق بالاقتصاد والاجتماع والسياسة ، وأهمية العقيدة أنها تمثل «الروح» التي تكفل التوجيه السليم لعمل الجسم المتعدد الأعضاء الظاهرة ، والتي يخفى داخل بطنه معملاً كيميائيًا كهربائيًا وجهازًا عصبيًا فائق الدقة ، وهذا الجسم الذي يتحرك إنما يعمل عبر مجتمع متعدد من ملايين الآحاد لها إراداتها الخاصة ، وما لم تنظم العلاقة فإنها تكون ساحة معركة يحارب فيها الابن آباه والأخ أخاه ، ولهذا فإن الشريعة تشغل مساحة من المجتمع أوسع مرات مما تشغله العقيدة . وبعد أن نجحت الطقوسية في إبراز العبادة وإغفال الشريعة ، فإنها أبرزت «الصلاة» من بين العبادات باعتبارها العبادة التي تمثل الإسلام معتمدين على أحاديث «الصلاة عمود الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ، ومن تركها فقد هدم الدين» ، و«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة» .. إلخ ، وعمدوا في الصلاة إلى شكلياتها لا باعتبارها ابتهال إلى الله أو «صلة» ما بين الفرد والله ، وجاءوا بتفسيرات لغوية لكلمة «الصلاة» بعيدة كل البعد عن الاتصال بالله وما تبثه في القلوب من طمأنينة ، ورضى ، وسلام أوما توحي به عن البعد عن الفحشاء والمنكر ، بل وأن القرآن بعد أن قال «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» ، قال «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» (العنكبوت : 45) ، وهو شيء لا يعرفه الفقهاء ، نقول إنهم قدسوها لأنها العبادة ذات الشكل المحدد الظاهر المنضبط الذي يرضي طبيعتهم «الشكلية» ، أو أن هذا التقديس يجعل وجوبها والإسلام شيئاً واحدًا ، وأن على الإنسان أن يصلي في كل الحالات قائمًا ، وجالسًا ، ونائمًا ، وعند الضرورة يصلي برموش عينيه ، ووصل هذا التقديس درجة «التوثين» ، ولدينا مثالين رمزيين على هذا ، الأول ما ذكره الشيخ متولي الشعراوي من أن الطبيب إذا سمع إقامة الصلاة ، فإن عليه أن يدع مابين يديه ولو كان عملية جراحية ويهرع لأداء الصلاة ، والثاني ما جاءتنا به إحدى نشرات «النت» تقول إن الله أنطق الخنزير ، فقال «الحمد لله الذي خلقني خنزيرًا .. ولم يخلقني تارك الصلاة» !! وعمد الفقهاء بعد هذا إلى شكليات الصلاة من أول الوضوء حتى التسليم مع ذكر صلاة الجمعة وصلاة العيد وصلاة الجنازة ، وشمل ذلك كل صغيرة وكبيرة بحيث استغرق ذلك سبعة أجزاء كبيرة من كتاب «مسند الإمام أحمد بن حنبل» [من ص 201 من الجزء الأول حتى ص 33 من الجزء السابع وكل جزء في 300 صفحة من القطع الكبير] ، وبالطبع فإن ذكر هذا بالتفصيل يتطلب كتابًا لا مقالة ، وكل هذا عن شكليات الأداء وشروطه ولا شيء عن حكمة الصلاة . وكانت النتيجة أن أصبحت الصلاة ركناً مقدسًا يؤدي ليلاً ونهارًا ولكن ليس كشعيرة ، أو كعبادة حقاً ، ولكن كطقس يقوم على ركوع وسجود وتلاوة على طرف اللسان ، وليس أدل على هذا من أننا نقرأ عن صلاة ألف ركعة في اليوم وعن صلاة الصبح في الركعة الأولى بالبقرة وفي الثانية بآل عمران ، فكيف يعقل هذا ؟ وهل يمكن أن يتسع اليوم بأسره لمثل هذه الصلوات حتى إذا كانت حركات ميكانيكية سريعة . إن الجريمة الكبرى للطقوسية هي قصرها الإسلام على العبادة وإفساد العبادة بالطقوسية ، كما رأينا في إفسادها الصلاة ، وأنها أغفلت عالم الشريعة بأسره ، وحرمت بهذا الإسلام من أن يقوم بدوره الإصلاحي أو حتى الثوري بالنسبة للمجتمع ، وهي بالإضافة إلى عوامل أخرى المسئولة عن الفكرة الشائعة إن الإسلام دين الآخرة ، وأن عنايته بالدنيا ثانوية ، وأن المسلمين لا يفكرون في شيء إلا مستقبلهم بعد الموت ، في حين أن الحقيقة عكس ذلك فالعبادة في الإسلام لا تمثل سوى فروضًا معدودة ، أما الدنيا فإنه ينتظمها بفضل الشريعة ، وما من إفساد للإسلام مثل هذا لأنه جعل منه ديناً لا يستهدف سوى عبادة الله بالصلوات والدعوات والصيام والقيام ، في حين أن الإسلام منهج حياة .. فتأخر المجتمع الإسلامي لأن ضميره يرتبط بالإسلام وقد استبعدوا من الإسلام كل ما تقوم عليه الشريعة من قيم مثل العدالة والحرية والمساواة والمعرفة ، وهي القيم الثورية في الشريعة والتي أوجدت مجتمع الرسول ومجتمع الراشدين ، وتطلب الأمر أكثر من ألف عام قبل أن يظهر حسن البنا الذي كان إسهامه الحقيقي في اليقظة الإسلامية هي أنه رفع شهار «الإسلام منهج حياة» ، فأعاد إلى الإسلام كل ما تقضي به الشريعة من أحكام في الحياة الدنيا ، ووضعه في صدارة المجتمع ، بعد أن كان محصورًا في الزوايا والمساجد وتكايا الصوفية .