محمد الزهراوي: باحت في العلوم السياسية بعد إقرار دستور 2011 الذي جاء نتيجة ضغط الحراك الشعبي وخاصة حركة عشرين فبراير بالمغرب، طرحت إشكالية " التأويل الديمقراطي للوثيقة الجديدة" من ضمن الرهانات والمواضيع التي استحوذت على النقاش السياسي والإعلامي بين الفاعليين السياسيين والباحثين والمهتمين وذلك انسجاما مع الظرفية السياسية سواء الداخلية والإقليمية والدولية التي ساهمت في خلخة الأوضاع بالدول العربيةالتي كانت محكومة بنظم سلطوية قائمة بالأساسعلى حكم العائلات والأفراد وذلك بتحالف مع رجال المال والأعمال بالداخل أو بتحالف مع الغرب حفاظا على مصالح ونفوذ هذا الأخير بالمنطقة. إن صياغة الدستور هي لحظة تأسيسية في إطار تقاطع السياقات والرهانات وتجابه المواقف، وترفع تحديات كبيرة تتمثل في الاستقلالية الدستورية كاختصاص وككفاءة وطنية تعبر عن الاختيار الحر للمنظومة السياسية، أي حرية صياغة القانون الأساسي، بمعنى الديمقراطية بكل أبعادها ومكوناتها. لكن صياغة الدستور تبقى عملا ناقصا ما لم تقم الورشة التشريعية بدورها كاملا في تنزيل الدستور لكي يكون له مفعول في الواقع1. فالرهان الجوهري والحيوي في كل التجارب الديمقراطية يرتكز بالأساس على محاولة تنزيل وتأويل الوثيقة الدستورية عرفية كانت أو مكتوبة وفق المبادئ الديمقراطيةالمتعارف عليها كالحرية وفصل السلط والتداول السلمي على السلطة وكذا المشاركة في تدبير الشأن العام… وغيرهامن المبادئ الأساسية التي تصون كرامة الإنسان وتحمي حقوقه وتساهم في تدبير الاختلاف وتحقق العدالة الاجتماعية… ومند تنصيب "حكومة عبد الإله بن كيران" وعلى امتداد ما يقارب سنة ونصف لا يزال النقاش دائر حول إشكالية تنزيل الدستور، حيث ظهرت فئتين داخل المجتمع، الأولىتتهم الحكومة بالبطء وبالتأويل غير الديمقراطي للدستور وبالتنازل عن الصلاحيات الممنوحة لرئيس الحكومة لصالح المؤسسة الملكية وبالتراجع عن المكتسبات، وتتوسع هذه الفئة مع مرور الوقت دون إخراج القوانين وخاصة التنظيمية منها، أما الفئة الثانية فيمثلها حزب العدالة والتنمية الإسلامي المتزعم للحكومة، حيث أنه يدافع عن المبادرات والقوانين والإجراءات التي تم اتخاذها ويرجئ التأخر المسجل في تنزيل الوثيقة الدستورية إلى بعض المناوئين للتغيير والإصلاح تحت مسميات مختلفة. وتفاديا الخوض في الجدل السياسي القائم وتمظهراتهالدلالية في الحقل العام سواء من خلال تبادل الاتهامات والشتائم والاستعانة بمعجم يرتبط بالثقافة الشعبية التراثية، سنحاول التركيز على الجانب القانوني الصرف وذلك من خلال دراسة وقراءة الفصلين (41) و(42) من دستور 2011 على اعتبار تشابه مضمونهما مع منطوق الفصل (19) من دستور 1996 من جهة، ومن جهة أخرى لأهمية الحقول والآلياتوالسلط التي يمنحها الدستور الجديد للمؤسسة الملكية داخل الفضاء السياسي العام من خلال الفصلين المذكورين و أبرزهما حقل التحكيم، وحقل إمارة المؤمنين، التمثلية الأسمى. إن المحدد الأساسي لفهم وتحليل مدلول وخلفيات تضمين وإدراج الصلاحيات المرتبطة بالحقول المذكورة بالوثيقة الدستورية الجديدة وتجزئتها من طرف واضعيها إلى فصلين عوض فصل واحد كما الفصل (19) من دستور 1996 لتفادي الانتقادات السابقة، يرتبط بالأساسبضرورة وضع هذين الفصلين تحت مختبر ومجهر الممارسة السياسية لمعرفة اتجاهات وميولات الفاعلين(الملك، الحكومة، الأحزاب،…)، وكذا مقارنة مجالات التماس بين هاته السلط في ظل وثيقة 2011. إن إدراج الفصلين وما يرتبط بهما من صلاحيات واختصاصات كالتمثلية الاسمى واختصاص التحكيم وإمارة المؤمنين يطرح مجموعة من التساؤلاتوالإشكاليات التي ترتبط أساسا بتحديد طبيعة موقع ومكانة كل فاعلضمن هياكل وتركيبة صناعة القرار بالمغرب( الفاعلون الرئيسيون أو الثانويين…)، ويمكن حصر بعض الأسئلة المرتبطة بهذه الإشكالية فيما يلي : * ما هي أهم الصلاحيات التي تمنحها وثيقة دستور 2011 للملك من خلال الفصلين (41) و(42) ؟ * هل مجالات تدخل الملك من خلال هذين الفصلين محدد بدقة؟ بمعنى مدى تأطير تلك الصلاحيات بنصوص قانونية واضحة مجاليا وزمنيا؟ * أين تبتدئ وتنتهي مجالات تدخل الملك في الحقول(حقل التحكيم، حقل إمارة المؤمنين..)الواردة بالفصلين؟ * هل الفصلين (41) و(42) من الوثيقة الدستورية لسنة 2011 مجرد فصول تحدد اختصاصات وتمنح صلاحيات للملك بصفته رئيس الدولة؟ أم أنهما امتداد ومجرد نسخة مجزئة لإعادة إنتاج الفصل (19) من دستور 1996؟ إن محاولة الإجابة عن الإشكالات المطروحة وفق مقاربة قانونية تحليلية يستلزم بالضرورة قراءة التجربة الحكومية التي يقودها حزب العدالة والتنمية على اعتبار أن هذه التجربة تعتبر بمثابة " المختبر الأول "الذي يمكن من خلاله اختبار وقياس مقتضيات الوثيقة الدستورية لسنة 2011 واستنباط الأحكام والقواعد والظروف والمعطيات التي تؤطر وتتحكم في التنزيل والتأويل الديمقراطي للدستور، وسنحاول تحليل ودراسة هذين الفصليين من خلال المحورين التاليين : المحور الأول: المحددات النظرية للصلاحيات التي يمنحها دستور 2011 للملك من خلال الفصلين (41) و(42)ومقارنتها بالفصل (19) من دستور 1996. المحور الثاني :إشكالية توظيفالفصليين (41) و(42) على ضوء التجربة الحكومية بقيادة حزب العدالة والتنمية. المحور الأول: المحددات النظرية للصلاحيات التي يمنحها دستور 2011 للملك من خلال الفصلين (41) و(42)ومقارنتها بالفصل (19) من دستور 1996. أ/الفصل (41): عند تفحص الوثيقة الدستورية لسنة 2011 وخاصة الباب الثالث المتعلق بالمؤسسة الملكية يأتي في المقدمة الفصل (41)2الذي يمنح للملك صفة أمير المؤمنين، هذه الصفة التي ترتبطبالمشروعية الدينية التي تعتبر دعامة أساسية لتواجد واستمرار واستقرار النظام، لذا تسعى المؤسسة الملكية دائما إلى ضبط وتدبير الحقل الديني، بالرغم من أنه حقل متغير ويضم فاعلين متعددين (أحزاب، دعاة، جماعات دينية، فقهاء وأئمة، خطباء، زوايا…). ويعطي هذا الفصل للملك الزعامة الدينية عندما نص على " إمارة المؤمنين " مما كرس سيطرة الملك المطلقة على الحقل الديني، بحيث أن التنصيص على هذه الصفة له ثلاث دلالات3: * الدلالةالأولى: منح الأولوية للمشروعية الدينية. * الدلالة الثانية : عدم الفصل بين الوظائف الدينية والوظائف الزمنية للملك. * الدلالة الثالثة : تأكيد المرجعية الإسلامية للنظام السياسي المغربي. وتلتقي هذه الدلالات لخدمة هدف مركزي وهو " دولنة الدين " أي جعل الدين عنصر في بنية الدولة4، كما أن صفة " أمير المؤمنين" التي خولها الفصل (41) للسلطة الملكية تجعلها تحتل مكانة متميزة داخل النسق السياسي المغربي، بحيث أنها حسب البعض لا يقيدها الدستور لأنها تأتي بعد الله ورسوله5. ويجب التمييز بين صفة أمير المؤمنين التي أعطيت للحسن الثاني وخلفه محمد السادس انطلاقا من الفصل (19) لدستور(96) والفصل (41) من دستور(2011)،وصفة أمير المسلمين6 التي حملها "يوسف بن تاشفين" في عهد الدولة المرابطية ما بين سنتي 1074م و 1087م بحيث أن هذا اللقب الأخير أقل أهمية من الأول من حيث القوة الرمزية والسياسية والنطاق الجغرافي، ويختلف اللقبين بحيث أن اللقب الأول "إمارة المؤمنين" تشترط فيمن يريد حمله الانتساب إلى آل البيت النبوي الشريف، ونظرا لافتقاد هذا الشرط في الخليفة المرابطي فقد اكتفى بلقب "أمير المسلمين"7. وقد اختلف جل الباحثين حول التأصيل الدستوري والقانوني لصفة "أمير المؤمنين" مند إدراجها في الفصل (19)8ضمن الدساتير السابقة، حيث يرى الباحث عبد اللطيف المنوني، أنه " فيما يخص وظيفة أمير المؤمنين فإن الأمر يتعلق بوظيفة رئيسية في ممارسات الملك؛ تجعل حامل لقب أمير المؤمنين أي الملك يتمتع بسند إضافي يضمن له شرعية دينية بوصفه قائما على أمور الجماعة المؤمنة…وعليه يتمتع أمير المؤمنين بسلطات لا تحد لأنها تمارس وفق القرآن والسنة وهما غالبا ما يكونان موضوعا لتأويلات فضفاضة".9 كما يساعد هذا الفصل على استخدام الإسلام كأداة لضبط سير المؤسسات الدستورية، بحيث أن لهذه المكانة الدينية التي يتمتع بها العاهل المغربي عدة نتائج سياسية وقانونية ودينية، وبالاقتصار على هذه الأخيرة يمكن تسجيل ما يلي: * نظرا للطابع الديني لإمارة المؤمنين، فإن الظهائر الملكية لا يمكن أن تكون أداة تشريعية أو تنظيمية لمواضيع محرمة دينيا، مثل تنظيم تجارة الخمور وألعاب القمار…الخ، مما يستدعي التفويض بشأنها لسلط أو أشخاص آخرين كالصدر الأعظم قبل الاستقلال، أو مدير الديون الملكي (بعد الاستقلال في الستينات) والوزير الأول انطلاقا من دستور 1970، ورئيس الحكومة بعد دستور 2011. * يرأس الملك المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه.ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي. * يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين والمخولة له حصريا بمقتضى الفصل (41) بواسطة ظهائر. بالإضافة إلى ذلك فإن"إمارة المؤمنين"تعتبر بمثابة آلية من آليات إضفاء المشروعية على المؤسسة الملكية، بحيث وظفت في السابق لمواجهة اليسار و قوى العلمانية التي تطالب بتقليص صلاحية الملك، لكن بعد الثمانينات وبعد تنامي المد الإسلامي وانحسار اليسار، بدأ توظيف آخر للإمارة المؤمنين " كآلية لإضفاء المشروعية الدينية من الناحية الأخرى في مواجهة التيار الإسلامي وأصبح "الحداثيون" يطالبون بتكريسه الآن على أساس أن يتمتع الملك بهذه الصلاحية، يجعله محتكرا للحقل الديني وهذا الاحتكار يمكن في آخر المطاف من إقصاء الإسلاميين10. ومجمل القول،فالملك بمقتضى هذه الصفة " أمير المؤمنين" التي خولتها له الدساتير السابقة والتي تم تكريسها في دستور 2011 بمقتضى الفصل (41) يحتكر تدبير وتوجيه السياسية الدينية سواء من خلال الآليات المؤسساتية والإجرائية التالية11: – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: آلية توجيه العلماء والفقهاء وتكوين القييمينالدينيين والإشراف على تدبيروتسيير أماكن إقامة الشعائر الدينية من خلال 16 مندوبية جهوية و70 مندوبية إقليمية. –دارالحديث الحسنية:كآلية لمركزة عملية إنتاج العلماء والتحكم فيها. – المجالس العلمية المحلية :العمل على تنفيذ توجيهات المجلس العلمي الأعلى وتأطير خطباء الجمعة بشكل دائمومراقبة تعيينهم، حيث يتم اختيارهم عن طريق الاتفاق بين أعضاء المجلس،وإحياء كراسي الوعظ والإرشاد والتثقيف الشعبي بالمساجد والسهر على سيرها. وانطلاقا من اعتبار أن تاريخ القانون الدستوري المغربي هو تاريخ إعادة صياغة التقليد لتقريبه من المتطلبات التاريخية والسياسية المعاصرة، وضمان دوام مؤسسات تاريخية من خلال استعمال والتحكم في آليات عصرية، وتأسيسا على أن هذا القانون قد عرف تطورا تقليدانيا، أي ممارسة دستورية لجأت لاستعمال مكثف للتقليد، جعل من الملك الدستوري مجرد امتداد عصري لعمقه الإستراتيجي أمير المؤمنين، وهذا بعد أن ظن البعض أن الملك الدستوري قد حل محل أمير المؤمنين أو أنهما قد صارا في وضع الإزدواجية12. وتبقى الغاية إذن من توظيف التقاليد السلطانية (إمارة المؤمنين)وتكريس العمق التقليداني للمؤسسة الملكية إلى جانب الترسانة القانونية الدستورية هي ضمان استفرادها بالسلطةوالحفاظ على سموها وتحكمها في باقي المؤسسات الدستورية الأخرى من خلال آلية الضبط والتوجيه، كما أنتوظيف واستعمال مرجعيات "إسلامية" خارجة عن مقتضيات النص المكتوب من شأنها إفراغ هذا الأخير من فعاليته ومحتواه وبالتالي"شمولية السلطة الملكية". ب/ الفصل (42) : يتضمن الفصل (42)13 من الوثيقة الدستورية لسنة 2011 بالإضافة "لحقل التحكيم" مسألة التمثلية الأسمى التي خولها للملك، بحيث أن المتعارف عليه انطلاقا من الدساتير الليبرالية أن التمثلية تبقى ضمن الاختصاصاتالحصرية للبرلمانات، في حين أن دستور 2011 ومن خلال الفصل (60 فقد أعطى للبرلمان مسؤولية النيابة عوض اختصاص التمثلية،وبمفهوم المخالفة فإنه بمقتضى هذا التنصيص تأتي المؤسسة التشريعيةوفق التصنيف الهرمي الدستوري في رتبة أدنى وأقل من المؤسسة الملكية التي تحتكر التمثلية. أما فيما يخص الاختصاص المتعلق "بحقل التحكيم"فإن هذا الحقل له امتدادات تاريخية ودينيةترتبط بالممارسات السياسية العتيقة المستمدة من مؤسسة السلطان. وقد تم اللجوء إلى التحكيم الملكي في ظل الدساتير السابقة استنادا على الفصل (19) بالرغم من عدم الإشارة إلى هذه الصلاحية بشكل صريح، ومن أمثلةذلك طلب التحكيمحول القانون الانتخابي سنة 1992،والتحكيم حول مدونة الأحول الشخصية بعد الجدل الذي أثير حول "مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية" حيث أنشأالملك لجنة استشارية لإيجاد صيغة توفيقية بتاريخ27 فبراير 2001. هذا الاختصاص المرتبط بالتحكيم تمت دسترته في وثيقة 2011بحيث تم تضمينه في هذه الوثيقة والإشارة إليه بشكل لفظي " الحكم الأسمى بين مؤسساتها…"، غير أن استخدام هذا الاختصاص يطرح مجموعة من الإشكالات السياسية والقانونية المرتبطة سواء بمجالات توظيف التحكيم الملكي وانعكاسات ذلك على الممارسة السياسية والتراكم القانوني الحاصلنتيجةتدبير الصراع و التدافع القائم بين الفرقاء السياسيين والتيارات المختلفة، وهذا ما سنحاول التطرق إليه في المحور التالي. المحور الثاني :إشكالية توظيف الفصليين (41) و(42) على ضوء التجربة الحكومية بقيادة حزب العدالة والتنمية. إن جوهر وروح الدستور يرتكز بالأساس على مدى احترام المبادئ الإنسانية الكبرى المتعارف عليها والمدرجة في فصوله ومنطوقه،وذلك من خلال العمل على تنزيل وتأويل مقتضياته وفق مقاربة يتم من خلالها الإجابةعن الإشكاليات السياسية الكبرى وما يرتبط بذلك من تطلعات وانتظارات اقتصادية واجتماعية وثقافية. في هذا الإطار، ومند تنصيب حكومة عبد الإله بنكيران ورهان تنزيل الدستور لازال يثير جدل واسع بين مختلف الأوساط سواء السياسية والحقوقية والإعلامية، حيث أن التوجه المحافظ الذي يقود الحكومة يتفادى الاحتكاك والاصطدام مع الملك بمبررات عدة…، مماينعكس سلبا على الممارسة السياسية، بحيث يساهم هذا الوضع ويكرس تداخل الاختصاص وتخبط وتردد مؤسسة رئيس الحكومة في تدبير بعض الملفات الحساسة والحيويةوالإستراتيجية والتي تدخل ضمن صلاحياتهاكما هو منصوص عليه في الدستور.كما أن هذا الوضع المرتبك أدى إلى تعطيل وخرق بعض المقتضيات الدستورية كعدم تجديد بعض المؤسسات الدستورية. فالأمة التي صوتت على الدستور قالت للحكومة إن عمر المجلسين رهين بإقرار القوانين اللازمة لتنصيب المجلسين، وهذه القوانين جرى إقرارها في شتنبر 2011 ونظمت انتخابات الغرفة الأولى في نونبر 2011 في حينلا ذكر لانتخابات الغرفة الثانية، وهذا خرق ومس بالدستور في واضحة النهار. والمشكل الأكبر أن كل القوانين التي تصدر عن الغرفة الثانية غير مشروعة وباطلة لأنها تصدر عن غرفة انتهت صلاحيتها يوم جرى التصويت على القانون التنظيمي لمجلس المستشارين، يجرى هذا أمام أعين المجلس الدستوري الذي تحال عليه القوانين التنظيمية من البرلمان بغرفتيه دون أن ينبه أحد أن الغرفة الثانية في حالة شرود تشريعي…تعيش البلاد حالة فريدة من نوعها بحيث إن مجلسي التشريع واحد(النواب) يطبق الدستور الجديد، والثاني (المستشارين) مازال يطبق دستور 1996. والأدهى أن هذا المجلس العجيب يخرق دستور 2011، لأنه لم يحل ولم يجدد وفق المقتضيات الجديدة. تم أنه يخرق حتى الدستور القديم الذي يحدد عمر ساكنيه في تسع سنوات على أكثر تقدير. ففي مجلس المستشارين الآن أعضاء تجاوزوا تسع سنوات ويتقاضون رواتب غير قانونية من جيوب دافعي الضرائب مع العلم أن الدستور الجديد يحدد ولاية المستشارين في ست سنوات14. وارتباطا بالوثيقة الدستورية لسنة 2011 وخاصة الفصل (41) الذي يشير إلى الاختصاصات المرتبطة بالمجال الديني الممنوحة للملك باعتباره "أمير المؤمنين"، فقد سجل على امتداد هذه التجربة الحكومية غياب النقاش أو السجال السياسي والديني حول الصلاحيات التي يمارسها الملك داخل هذا الحقل، على اعتبار أن منازعة المؤسسة الملكية في مشروعيتها الدينية التي ترتكز عليها خفت في الآونة الأخيرة نسبيا وخاصة منذ اعتلاء محمد السادس العرش سنة 1999 باستثناء مواقف جماعة العدل والإحسان حول مؤسسة " إمارة المؤمنين". كما أن التيار السلفي المتنامي بالمغرب وبخصوص رؤيته وتصورهلهذه المؤسسة، فإن موقفه ظل مبهماوغامضاوغير محدد، حيث أن هذا الصمت يفسره البعض برغبة زعماء هذا التيار تفادي الاصطدام مع الدولة في المرحلة الراهنة من جهة، ولغياب الرؤية والاجتهاد الفكري والتأصيل النظري لدى هذه الفئة حول " إمارة المؤمنين" من جهة أخرى. أما بالنسبة للفصل (42) من دستور 2011 وبعد مرور ما يقارب سنة ونصف فقد أثير حوله مجموعة من النقاشات والتأويلات، بحكم توظيفه من طرف الملك بمناسبة الجدل الذي صاحب دفاتر التحملات الخاصة بقنوات القطب العمومي، أو بمناسبة طلب التحكيم من طرف حزب الاستقلال الذي جاء في بيان المجلس الوطني الخاص بقرار الانسحاب من الحكومة. فيما يخص الحالة الأولى، فقد تراجعت الحكومة عن نشر دفتر التحملات الخاص بالاتصال السمعي البصري العمومي للفترة 2014/2012 بالجريدة الرسمية، بعد تدخل الملك في لقاءه بتاريخ 22 أبريل 2012 بكل من رئيس الحكومة و وزير الاتصال مصطفى الخلفي ووزير الدولة عبد باها، وبالرغم من أن هذا التدخل الملكي لم يستند إلى أي مسوغ القانوني، فقد أرجعه البعض إلى الاختصاصات التحكيمية للملك المنصوص عليها في الفصل (42)، ودون الدخول في مضامين الإصلاحات المدرجة بدفتر التحملات والنقط مثار الجدل وخاصة المتعلقة بمسألة الهوية، وعند تفحص الحيثيات والمعطيات المرتبطة بهذا الموضوع، فإن الأمر يتعلق بصراع بين وزيرالاتصال باعتباره الوصي على القطاع ومسؤولي القناتين الأولى والثانية، وحيث أن الفصل (42) ينص على اختصاص التحكيم بين المؤسسات الدستورية، فإن التدخل الملكي والحالة هاته لا يرتكز على أي أسس دستورية ولاسيما أنه تمت المصادقة على دفاتر التحملات بعدما استوفت جميع المراحل المسطرية والشروط القانونية، ويمكن تصنيف هذا التدخل في إطار توجيه وتأطير الحكومة وفق أدبيات وضوابط ومحددات " الملكية التنفيذية". أما الحالة الثانية المرتبطةبقرار حزب الاستقلال الانسحاب من الحكومة وطلب التحكيم الملكي في هذا الإطار بناء على الفصل (42) من الوثيقة الدستورية لسنة 2011، فالملاحظ أن هذا الفصل الذي يحدد الوظائف والاختصاصات السيادية والتحكيمية والرمزية للملك، كالمحافظة على استمرار الدولة وصيانة السير العادي للمؤسسات وحماية الحقوق والحريات، قد تم تأويله بطريقة تعسفية وفجة، حيث أن إقحام خلاف بين حزبين سياسيينأو خلاف حول منهجية عمل حكومي ضمن مجالات التحكيمالخاصة بالمؤسسات الدستورية، يعتبر من الأمور التي تناقض مبدأ احترام القواعد الدستورية وتمس كذلك وترهن القرار الحزبي الذي يفترض فيه الاستقلالية. على ضوء التحليلات السابقة، تم تسجيل بعض الاستنتاجات بخصوص الوثيقة الدستورية لسنة 2011 من خلال الفصلين موضوع الدراسة وهي كالأتي: * أن الحقل الديني الذي يستمد منه الملك مشروعيته الدينية من خلال " إمارة المؤمنين" له انعكاسات وامتدادات تخترق الحقول الأخرى سواء السياسية منها والتحكيمية، هذا الترابط يجعل الملك على غرار الدساتير السابقة يتدخل في كل المجالات وبدون قيود ويتحرك في الحقل السياسي كلاعب رئيسي يتحكم في قواعد اللعبة السياسية. * أن الممارسات السائدة ما بعد إقرار دستور 2011 وفق التفاعلات والتجادبات القائمة بمثابة مؤشر قوي على التوجه العام ورغبة الفاعليين في تفعيل"الدستور الضمني"الذي يكرس هيمنةالمؤسسة الملكية وما يترتب عنذلك من تجاوز للوثيقة المكتوبةبحيث يتم تأويلها بمنطق ماضوي سلطوي. * ظهور بعض الثغرات والتناقضات المتعلقةبدستور2011 ، حيث أن المؤسسة الملكية تنتج في بعض الأحيان سلوكاتوأفعال وأعمال عتيقة تحمل في طياتها دلالات الحكم الفردي التيوقراطي، مثل غياب الملك المتكرر والغير المحدد، تكريس طابع الانتظارية الذي يطبع الحياة السياسية المغربية وذلك من خلال الصمت المطبق فيما يخص طلب حزب الاستقلال التحكيم الملكي بخصوص قرار الانسحاب من الحكومة. * التداخل والغموض والتخبط في تدبير بعض الملفات الحساسة والإستراتيجيةنتيجةعدم وضوح الرؤية بسبب وجود وزيرين في القطاعات الحيوية مثل الخارجية حيث أنه في ظل الأزمة المرتبطة بالمسودة الأمريكية الخاصة بتوسيع صلاحية المينورسو، فقد رفض جون كيري وزير خارجية أمريكا استقبال الوزير المنتدب يوسف العمراني بدوافع بروتوكولية وفضل مقابلة وزير الخارجية سعد الدين العثماني، هذا المعطى أثر سلبا ولا يزال على كيفية الدفاع عن المصالح العليا للبلاد، أما وزارة الداخلية، فنظرا لوجود رأسيين فإنه يصعب تحديد المسؤولية فيما يخص تدبير هذا القطاع وخاصة عندما يرتبط الأمر بالتدخلات الأمنية، والتنسيق بين مختلف الأجهزة وغياب الفعالية والنجاعة في معالجة بعض الملفات الحساسة كمحاربة الإرهاب والمخدرات والجريمة المنظمة والرهانات الأخرى المرتبطة بالتنمية. وفيما يتعلقبوزارة المالية، فإن الإصلاحات الهيكلية الضرورية تتطلب وجود رؤية وتصور منسجمووضع التدابير اللازمة لأجرأته على أرض الواقع، في المقابلفالوضع الحالي يكرس الازدواجية والتناقض، حيث أنه في الوقت الذي يطرح نجيب بوليف وزير الشؤون الاقتصادية والحكامة إشكالية إصلاح صندوق المقاصة زميله الوزير المكلف بالميزانية نزار بركة يعرضه في ذلك، هذا بالإضافة لتضارب الأرقام والتصريحات المدلى بها من طرف الوزيرين بخصوص بعض المؤشرات المرتبطة بهذا القطاع. * على مستوى "مؤسسة رئيس الحكومة"ومن خلال الممارسة السائدة في ظل هذه الحكومة، فإنه يتم إعادة إنتاج الحمولة السلبية المرتبطة بصورة ونموذج مؤسسة الوزير الأول أو "خادم الأعتاب الشريفة "في إطار الدساتير السابقة باعتباره مجرد مساعد الملك أو كبير الموظفين الذي يسهر على تنفيذ تعليماته. * تكريس واستمرار ضعف "مؤسسة الوزير" في النسق السياسي المغربي في ظل دستور 2011،فبالرغم من أن هذه الصفة التي تجعل حاملها مسؤولا سياسيا وإداريا عن تدبير القطاع وفق التسلسل الهرمي داخل الدولة، فالتوجه السائد يدفع في اتجاه تقوية "شرعية التعيين" على حساب "شرعية الانتخاب" ، بحيثتوسعت وانتشرت ظاهرة "موظفو البلاط" الذين يعارضون جهرا رؤسائهم ولا يتقيدون بواجب التحفظ المنصوص عليه في القانون، كأمثال السيدة سميرة سيطايل مديرةمديرة الأخبار بالقناة الثانية، ومسؤولي القناتين الأولى والثانية، والخازن العام للمملكة، المناديب السامون… ملاحظة: سبق وأن نشرت هذه الدراسة بمجلة وجهة نظر، العدد 58 خريف 2013-السنة التاسعة عشر، ص: 45-48، ونعيد نشرها بمناسبة النقاش الدائر حول الإجهاض بالمغرب والتدخل الملكي لمحاولة فهم محددات ومجالات التحكيم المنصوص عليه في الدستور. ———— الهوامش * 1) ورشة حول "الدستورانية الجديدة بالعالم العربي، مسلسل صياغة الدساتير في سياق متغير" نظمت بمراكش يوم 14 و15 ماي 2013 بتعاون بين لجنة البندقية والجمعية المغربية للقانون الدستوري بدعم من الاتحاد الأوربي ووزارة الخارجية النورفيجية ومؤسسة هانس سايدل الالمانية، جريدة الاتحاد الاشتراكي العدد 10.399 بتاريخ 16 ماي 2013. * 2) ينص الفصل( 41) من دستور 2011 على أن " الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية.يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه. ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة. تحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات سيره بظهير. يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر." * 3) محمد ضريف "الإسلاميون المغاربة" حسابات السياسة في العمل الإسلامي 1969-1999 منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع. مطبعة النجاح الجديدة. الدارالبيضاء ، 1999 ص 183. * 4) نفس المرجع السابق. * 5) Tozy (M) champ politique et champ religieux, opcit pp89. * 6) حمل هذه الصفة قبل العلويين سلاطين الدولة الموحدية والسعدية. * 7) – انظر مزيد من التفاصيل حول هذين اللقبين وتطورهما التاريخي: Abdelatif agnouche : histoire politique du Maroc –pouvoir –légitimités-institution- afriqueorient .casablanca – 1987, p 104-110. * 8) ينص الفصل 19 من دستور 1996على أن "الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة". * 9) AbdellatfMenouni : « le recours à l'articl 19 : une nouvelle lecture de la constitution « RJPEM, 15, 1984, p 31, 32. * 10) – محمد ضريف : في حوار لمجلة ألوان مغربية، العدد الثالث ، اكتوبر نونبر 2004. * 11) – محمد الزهراوي " الإسلام السياسي والسلطة بالمغرب" دراسة حول واقع الحركات الإسلامية وطبيعة علاقتها بالسلطة، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، سنة 2006 جامعة محمد الخامس، أكدال الرباط، ص 61. * 12) – محمد معتصم: "الحياة السياسية المغربية 1962-1991 الدارالبيضاء مؤسسة إيزيس للنسر 1992 ص * 13) ينص الفصل (42) من دستور 2011 على أن " الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة. يمارس الملك هذه المهام، بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور. تُوقع الظهائر بالعطف من قبل رئيس الحكومة، ماعدا تلك المنصوص عليها في الفصول41 و44 (الفقرة الثانية) و47(الفقرة الأولى والسادسة) و51و57و59 و130 (الفقرة الأولى) و174. * 14) توفيق بوعشرين" رحم الله التأويل الديقراطي للدستور" افتتاحية جريدة أخبار اليوم، العدد 1091 بتاريخ 17 يونيو 2013.