يشير مفهوم «دنْيوة» sécularisation إلى عمليتيْن غير منفصلتيْن بالضرورة. تحيل العملية الأولى تحرّر العالم، وإلى تلاشي وتفتّت محتوى الديانة داخل مختلف الدوائر العمومية (السياسة، التعليم، الإدارة، الاقتصاد، ...). بحيث لا تغدو هذه الدوائر موجَّهَة، أو بدرجة أضعف، بالإحالة إلى الدّين. أمّا العملية الثانية فإنها تثير فكْرة الفصل والتمييز الوظيفي بين المؤسسات الدينية وبين المؤسسات السياسية، بين الكنيسة وبين الدولة، بين الدائرة الخصوصية والدائرة العمومية. انطلاقا من فكْرة الفصل بين الدّيني والسياسيّ، سأقترح قراءة مقتضبة للفصليْن 41 و42 من الدستور المغربيّ الجديد، الذي يميّز ما بيِْن الملك بصفته أميرا للمؤمنين، وبين الملك باعتباره رئيسا للدولة. لنبدأْ بفحص الاستعمال الذي كان بقوم به الحسن الثاني لإمارة المؤمنين. يمكن القول بأنّ دستور 1962 قد عزّز عملية الدنْيوة التي كان قد شرع فيها الاستعمار والحركة الوطنية والملك محمد الخامس. ومن ثمّ فإنّه لم يأت على ذكْر عبارة «بركة الملك» (كما كان الشأن في مشروع دستور 1908)، ولا عبارة «الشريفة»، ولا «البيعة»، ولا «الخلافة». بحيث أبقى هذا الدستور فقط على «إمارة المؤْمنين» كمؤسسة تقليدية وحيدة. وباتت إمارة المؤمنين تعني القيام بالمهامّ الدينية والدنيوية: «الملك أمير المؤمنين، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدّين، والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة.» (الفصل19). يتعلق الأمر بتحرر معياري لا يمكن الاستهانة بأهمّيته. أما بالنسبة للجانب العمليّ، فإن الحسن الثاني سوف يجعل من إمارة المؤمنين نوعا من حصان طروادة تختفي داخله، ومستعدّة للخروج، مختلف السّجلاّت الدينية لإضفاء الشّرعية. في فرنسا، كان الملك يصبح ملكا بمقتضى الحقّ الإلهي بمجرّد تنصيبه. أما عندنا، نحن المسلمين، فإنّ أمير المؤمنين يستمدّ مأموريته من الله. وليس هناك حقّ إلهي. والملك يحظى باحترام الجميع. وجاء في حديث نبويّ :» إذا مررت بأرض ليس فيها سلطان فلا تدخلها، إنّما السلطان ظلّ الله ورمحه في الأرض». أي أنّ أمير المؤمنين هو الظّلّ الذي يحتمي به كلّ ضحايا الظلم، وهو الرمح الذي يدافع عن الحق ويحارب الضّلال. إن هذا التكليف الإلهي يفرض أن يكون أمير المؤمنين مسلما سنّيّا، وأن يسهر على تطبيق الشريعة الإسلامية وتسيير الشؤون الدنيوية». من خلال مقارنة دلالة ومحتوى إمارة المؤمنين، هنا مع دلالة ومحتوى الفصل 19 في مختلف الدّساتير، يخامرنا الشعور بأنّ الأمر لا يتعلق بالمؤسسة نفسها. ذلك أن الفصل 19 لا يستعمل معجما دينيا من قبيل «التكليف الإلهي» و»يستمدّ مأموريته من الله» و»السلطان ظلّ الله ورمحه» أو «يحارب الضّلال». يمكن ملاحظة نفس الاختلاف مع الدستوري على صعيد تسمية ووصف البلاد (مملكة) والملكية ( ذات الطابع الديني/الدستوري). وكما هو الشأن بالنسبة لأيّ مفهوم ينخرط في الممارسة الاجتماعية أو السياسية، فإن إمارة المؤمنين تعدّ مفهوما طيّعا، بمعنى أنه يمكن أنْ يأخذ معانيَ مختلفة، بل متناقضة، وذلك بحسب السياق والرهانات وطبيعة الشريك الخ. يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من المعاني: خلال عقد الستينيات، كان لإمارة المؤْمنين استْعمال سياسيّ منخرط في حقل سياسي. وبصفته أميرا كان الحسن الثاني قد أعلن، ووفقا للدستور، حالة الاستثناء (المرسوم الملكي، 7 يونيو 1965). والملاحظ أنه لمْ يذكر أية فكرة ولا أيّ تبرير دينيّ. حيث أن أمير المؤمنين يتصرّف باعتباره أمينا على استمرارية الاشتغال المؤسساتي، وهو دور سياسيّ تقتصر ممارسته على الشرعيّة الدستورية. وقد تمّ إصدار عدد من المراسيم الملكية بالطريقة نفسها، فيما بين شهريْ يونيو 1965 وفبراير 1969. ومن خلال موضوع المراسيم، وكبيعة المجالات التي تدخّلت فيها، يسهل استخلاص الصبغة السياسية لتوظيف إمارة المؤمنين: منح الأراضي الفلاحية، شركات الاستثمار، مكتب التسويق والتصدير، الخ. النوع الثاني للاستعمال يعطي لإمارة المؤمنين معنى دينيا يتمّ استعماله داخل حقل سياسيّ. في خطاب ملكي موجَّه إلى مجلس النواب (أكتوبر 1978)، يضفي الملك الشرعية على السيادة الملكية بالعبارات التالية:»[...] يقول الله تعالى في كتابه العزيز:»وقلْ اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون». السبيل التي يتعين لتباعها لا يذكرها الدستور، بقدر ما تذكرها آية قرآنية، والتي جرى فوق ذلك تأويلها على المقاس لكي تناسب السياق. الاستدلال هنا في غاية البساطة: فبما أن الملك هو خليفة الرسول على الأرض (وهو مفهوم غير قانونيّ) فهو يملك المسؤولية الكاملة والعليا. إن الدستور، مثلما يلاحظ محمد الطوزي، لا يستظل بظل الصرح القانوني. فالملك باعتباره أميرا للمؤمنين، حين يوظف التقليد الديني، يضع نفسه بينه وبين الله. الاستعمال السياسي لإمارة المؤمنين سيأخذ تعبيرا آخر، أكثر وضوحا وأكثر دلالة في المواجهة والخلاف بين الحسن الثاني والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي كان نوابه قد رفضوا، في يونيو 1981، الاستمرار في ولاية برلمانية أخرى. وهذا الخلاف كان موضوع تعليق طويل في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية في 9 أكتوبر 1981. وهو الخطاب الذي أثار فيه بطريقة دالة ومعبّرة الكيفية التي يستعمل بها في الوقت ذاته القانون الوضعيّ والتقليد الديني. ومن ثمّ، فالمشكلة، بالنسبة له، تكمن في صمت الدستور عن العقوبات التي ينبغي اتخاذها وتطبيقها في مثل هذه الحالات. وأوضح الحسن الثاني أنه في مثل هذه الحالة تعجز السلطة الدستورية عن فعل أيّ شيء، في حين أن لأمير المؤمنين إمكانية التحرّك والتصرف تبعا للقرآن والسنة: « إذا لم يكن الملك الدستوري بإمكانه التدخل، فإن أمير المؤمنين بموجب الكتاب والسنة يحق له ذلك «. الازدواجية هنا واضحة وضوح الشمس بين الملك الذي يرغب في الاستناد إلى القانون الوضعي، وبين الملك أمير المؤمنين الذي يتعالى ويتسامى على الدستور وعلى القانون الوضعي عموما. إن واجب الإحالة على السنة لا يعود إلى الملك الدستوري بقدر ما يعود إلى أمير المؤمنين. وهذا الواجب هو الذي يؤسس دوره الديني. نحن هنا إزاء تماسّ بين دوريْن: الدور السياسي والدور الديني، لكنه تماس لا يقيم فرقا بين قارّة السياسة وقارّة الدين. وبالمقابل، فإن إمارة المؤمنين، في معناها الديني هنا، تسمح بالمرور والانتقال من قارة إلى أخرى، كما تسمح بتجنب الفراغ القانوني ومعاقبة الفاعلين السياسيين باسم التقليد الديني. وبالقياس إلى الشرعية ذات الطابع القانوني-العقلاني، فإن الشرعية ذات الطابع التقليدي تعطي حرية أوسع للتدخّل، وهو تدخل لا يخلو من عسف. وباختصار، فإن إمارة المؤمنين كانت تسمح للحسن الثاني بالاستناد، على هامش القانون، على المقدّس من أجل التحكم في السياسة. النوع الثالث للاستعمال هو الذي يحرّك فيه الملك إمارة المؤمنين، كدوْر ديني لمواجهة فاعلين منافسين هو أنفسهم يتحرّكون باسم الدين. كما تجلى ذلك حين أحدث المجلس العلمي الأعلى للعلماء في 8 أبريل 1981، حيث شدّد على وحدة المذهب المالكي التي تؤسس لوحدة وانسجام الأمة المغربية، ووضع له إطار قانوني يضبط به الحقل الديني في مواجهة الإيديولوجيات الخارجية. كان الحسن الثاني قد أعلن عن ضرورة التوجيه السياسي للدين، غير أنه وضعه داخل الحقل الديني نفسه، حقل ديني مغلق لا يُقبل فيه إلا العلماء. ففي هذا السياق الجديد، الذي يتم تقديم الدين فيه كأنه مهدّد، يكون من واجب أمير المؤمنين حمايته. إنّ الاستعمال السياسي لإمارة المؤمنين يجد تفسيره في البنية السياسية التي تجعل المنافسة قائمة بين فاعلين سياسيين حول رهانات سياسية، ويستعملون لغة تقليدية. غير أن هذه الوضعية بدأت ففي التغيير انطلاقا من الثمانينيات مع وصول فاعلين «إسلاميين» إلى الساحة السياسية، حيث اصطبغ الرهان السياسي بصبغة دينية، وبالتالي لم يبق الحسن الثاني السيد المطلق لاستعمال سجلات إضفاء الشرعية والإحالات الإيديولوجية. لقد بات يبلور استراتيجيته الإيديولوجية بحسب طبيعة الفاعلين وردّات الفعل التي تهدف إلى نزع شرعية حكمه. وبعد اعتلاء محمد السادس عرش البلاد، بدأت مظاهر القداسة الملكية تتعرض للانتقاد العلني، وفي سياق الربيع العربي الأخير، مؤخرا، وخصوصا في سياق النقاشات التي صاحبت مشروع إعداد دستور 2011، أثيرت مسألة قدسية الملكية للمرة الأولى بصورة جماعية. ومن بين الشعارات التي رفعتها «حركة 20 فبراير» نقرأ :»باراكا من المقدّسات، زيدونا في الحرّيات»، «لا رعية لا قداسة». لقد ورث محمد السادس نفس سجلات إضفاء الشرعية التي ذكّر بها في خطبه الأولى: الإرادة الإلهية، إرادة والده، الدستور، البيعة، إمارة المؤمنين (خطاب العرش وخطاب 20 غشت 1999). وخلال إصْلاح مدونة الأحوال الشخصية، سوف يستعمل محمد السادس إمارة المؤمنين باعتبارها دورا دينيا، وذلك بهدف تسوية النزاع السياسي داخل الشّأن الديني (النوع الثالث للاستعمال الديني)، حيث يقول : «إنّ نظرنا السديد ارتأى أن يعرض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان، لأول مرة، لما يتضمنه من التزامات مدنية، علما بأن مقتضياته الشرعية هي من اختصاص أمير المؤمنين» ( الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية لسنة 2004). لقد نوقش مشروع دستور 2011 في سياق دينامية سياسية غير مسبوقة، حيث خرج شباب 20 فبراير، وبعض الفاعلين السياسيين لكي ينتقدوا، بكيفية مباشرة جوانب كثيرة من النظام السياسي المغربي، بما فيها الفصل 19 وقداسة الملك. وقد اقترح الدستور الجديد تحديدا جديدا لإمارة المؤمنين، يوضح ويعزز الاتجاه القديم. ومن ثمّ، فقد قسّم الدستور الجديد هذا الفصل إلى فصليْن اثنين يميزان بين السياق الديني، الذي يسند للملك إمارة المؤمنين، والسياق السياسي، الذي يسند للملك رئاسة الدولة: «الفصل 41 : الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية. يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه [...].- الفصل 42 : «الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسْمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة.» فالدستور الجديد، إذن، يميّز بشكل واضح بين دورين اثنين للملك، ويميز خصوصا بين مجالات تدخّل هذه الأدوار كيف يمكن تفسير هذه التحول المعياري؟ إن عملية التضييق من مجال تدخل إمارة المؤمنين تعني الاعتراف بوجود حقليْن اثنين: حقل سياسي وحقل دينيّ، كل حقل بفاعليه وقواعده (حضور التعدد أو غيابه، حضور النقاش أو غيابه، حضور المنافسة أو غيابها، حضور الاحتكار أو غيابه...). يمكن تأويل هذا التحوّل المعياري في حدّ ذاته كمرحلة جديدة من مراحل دنونة السلطة الملكية. إن الدنونة لا تعني هنا بالضرورة اختفاء العامل الديني أو تراجعه، بقدر ما يعني تحديدا واضحا للحقل السياسي والحقل الديني.تنطلق العلوم الاجتماعية عادة من تجارب تاريخية غربية من أجل تحديد مفهومي «الدنونة» و»اللائكية»، وبالتالي يتمّ قياس باقي التجارب في العالم على مقاسها. إن الفصل، في المغرب، بين الملك كرئيس دولة والملك كأمير للمؤمنين، لا يرتبط لا بالدنونة ولا باللائكية بمعناهما الغربي، بقدر ما يرتبط بالاستعمالات المشار إليها سابقا، بحيث أن التجربة المغربية يمكن أن تمثل نوعا من الدنونة تجمع بين النوعين المعروفين.. في هذه الحال، فهي تعني الفصل، داخل الدولة نفسها، وعلى مستوى رئيسها، بين مجال السياسة ومجال الدين. La liberté de conscience au Maroc P:P 145-152