تعتبر علاقة الفكر البشري بالتنمية من المسائل التي ربطت الإنسان بالتطور عبر التاريخ , وهي في ترابطها ذاك تختلف مفهوما وممارسة من مرحلة تاريخية لأخرى ,فهي علاقة قوة وسيطرة على الموارد بمشروعية فكر البقاء للأقوى, و هي علاقة دينية ولاهوتية بمشروعية الكهنوت الذي هو مرة سماوي و أخرى أرضي , و هي علاقة علمية و بحث علمي بمشروعية فكر الحاجة , وهي علاقة الإندماج في الدولة بمشروعية فكر الوطنية, وهي الإنخراط في الحداثة بتطوراتها العالمية سياسيا و إقتصاديا و أجتماعيا بمشروعية العولمة. و هذه العلاقة بين الفكر و التنمية في تتطوراتها تلك, هي اللتي ولدت الصراعات البشرية و السباق نحو التسلح و السيطرة ,وإن أخذت أشكالا مختلفة في التصريحات القيادية لبعض الدول المهيمنة التي تصورها كتبشير بالحرية و و نشر للديمقراطية .........إلخ. و التنمية في علاقتها تلك بالعقل البشري تأخذ أبعادا مختلفة ولكنها ترتبط في ما بينها في تقاطع لابد منه. و يعتبر هذا التقاطع هو البعد/ الغاية , في حين تعتبر تلك الأبعاد مراميا تقصد في سيرورتها مع ذلك التقاطع. و هذه الأبعاد هي : بعد اقتصادي-بعد اجتماعي-بعد إستراتيجي البحث العلمي . 1- البعد الإقتصادي: لا يختلف إثنان على أنه لا يمكن أن ننمي أية منطقة جغرافية مافي العالم في غياب إقتصاد قوي يستمد مشروعية و ضرورة وجوده من قوة الحاجة إليه, فلا تنمية بدون إقتصاد , ولا إقتصاد بدون تنمية, ولا هذا و لا ذاك بدون عقل بشري فعال, كما أن المقصود بالتنمية الإقتصادية ليس المعنى الكمي فحسب بل الكيفي أيضا, مع مواكبة ذلك لتطور المجتمع. و للعقل البشري بالتنمية الإقتصادية علاقة تلازم, تتوزع عبر ثلاث مجالات: مجال التكون ويبحث طرق إنشاء أقتصاد و ما يتعلق به من ادوات و أليات و مواد-. مجال التطور و يعمل فيه على المحافضة على الإقتصاد و على التوازن بينه و بين الأرضية التي يترعرع فيها,وعلى حمايته في سيرورته للعملية التي تصب في كل قنوات المحيط – مجال التوظيف حيث تختار قنوات التصريف بدقة عالية . هكذا و في جميع الحضارات الإنسانية يعتبر الفكر والمعرفة البشرية من الأليات اللازمة لتحريك الإقتصاد و منه تتطور التنمية إلا أن تلك الحضارات تختلف في جوهر وجودها من شعب لأخر و من مرحلة تاريخية لأخرى وذلك تبعا لوضغية تنميتها قوة أو ضعفا, انحصارا أو إنتشارا, فنتجت عن ذلك مراحل تاريخية عرفت بمدى قوة التنمية و المعرفة و الاقتصاد ,فيها, و لقد أخذت تلك المراحل أسماء وتقسيمات اختلف فيه المختلفون ,فمنهم من قسمها كأنماط إنتاج "المنظومة الشيوعية" و منهم من قسمها كأنماط تصريف "المنظومة الليبرالية" و منهم من قسمها اعتمادا على العدل في العمل و التوزيع "الدين الإسلامي الحنيف" ....... و شيئا فشيئا, ومع تنمية وسائل الإتصال , حيث أصبح العالم قرية متقاربة الأبعاد, برزت إلى الوجود ظاهرة ماردة, هي ظاهرة العولمة فتخطت التنمية الإقتصادية حدودها لكن لا للتسوية بل للتكريس و تعميق الشرخ القائم بين منطقة و أخرى –بين الشمال و الجنوب حاليا- ,فدول تنمو بالفكر و الإقتصاد مستقلين فيندفع فيها التطور و التنمية بسرعة هائلة, و دول أخرى تدور في فلكها و على أبعاد متباينة إنها دول أقل ما يقال عنها إنها فقيرة , عقولها ,إن وجدت , فهي كالطيور المهاجرة تبحث عن مكان يأمن رزقها و مأواها " إنها العقول المهاجرة". في هذه الحال تتخذ علاقة الفكر بالتنمية علاقة عجيبة "مصائب قوم عند قوم فوائد" التي منها يدخل بعد أخر في علاقة الفكر بالتنمية وهو البعد الإجتماعي. 2- البعد الإجتماعي: تأتي علاقة التنمية والفكر بالبعد الاجتماعي لكون : أن البنيات الاجتماعية نفسها ليست بمعزل عن الأخرى الموازية لها كالبنيات المادية والذهنية والخلفيات التي من أجلها يؤطر ذهن إنسانها . هذا عندما ننظر في علاقة التربية بالتنمية الاجتماعية , و عندما نفهم أن وظيفة التربية و مهمتها هي إعداد الفرد ليساهم في تطور المجتمع, , وذلك تبعا لما يراه ذلك المجتمع ضروريا , فإذا كان بحاجة إلى موارد بشرية علمية عملت التربية على إعداد علماء مؤهلين لهذا المطلوب, ونفس الشيء ينسحب على موارد بشرية أخرى :صناعية-زراعية-دينية. و بناءا على هذا يتتطور المجتمع ومعه تتطور التربية وذلك لهدف الأسمى هو التنمية الأجتماعية. وتجدر الإشارة بإلحاح إلى أن التربية التي لا ترقى إلى درجة إفادة المجتمع هي تربية فاشلة لأنها لا تساهم و لا تؤدي إلى التطور و التنمية, و مثل هذا النموذج التربوي هو النموذج العشوائي الذي يستورد دون إدراك النتيجة أو يستورد للتجربة , و مثل هذا وذاك يستحيل معهما أن يتطور المجتمع و بالتالي تموت التنمية في هدر للوقت و المجهود مع أن العالم اليوم في حركة دؤوب نحو أفضل نماذج تنموية, وذلك في صراع ظاهر و خفي أحيانا, إنه في جوهره صراع حول المواقع الإستراتيجية في كل مجال. 3- البعد الإستراتيجي: من أخطر المقاربات التي يحكمها الفكر التنموي هي المقاربة الإستراتيجية و خصوصا في بعديها السياسي و العسكري. تأخذ المقاربة الإستراتيجية مكانها في علاقة الفكر بالتنمية من كون أن الصراع الذي يدور في الكون حاليا هو صراع تنموي, كما أسلفت, و هو صراع يضطر فيه المجتمع صاحب الأهداف التوسعية إلى قوة سياسية و عسكرية من أجل تحقيق تلك الأهداف"نموذج دول الشمال", ومجتمعات أخرى المعرضة للغزو الشامل هي أيضا تضطر إلى قوة سياسية و عسكرية من أجل الدفاع. فالعالم عالمان:عالم مهاجم و عالم مدافع و مقياس النجاح هو التنمية فإن كانت قوية و ضخمة و جبارة فهي مهيمنة و مسيطرة و إن كانت ضعيفة مستكانة فهي خاضعة, تابعة و معرضة للعب بها كدمية, و يكون المجتمع فيها مجتمع تجارب : علمية-عسكرية- طبية-تربوية .....إلخ, و بالتالي يكون وجود هذا المجتمع سببا من أسباب تطور التنمية في المجتمعات القوية و لعل هذا ما يفسر إهتمام دول الشمال ببعض دول الجنوب بالهبات و المساعدات . 4- البحث العلمي: وفي بعد آخر لعلاقة الفكر بالتنمية يظهر مدى الشرخ الذي يتواجد بين الفكر والتنمية في بلدان الجنوب , ألا وهو بعد البحث العلمي من المعلوم أن هذا الأخير يعتبر أحد الأركان الجبارة في بناء التطور البشري , وإذا نظرنا إلى المجتمعات المتطورة تنمويا , نلاحظ بكل بساطة أنها اعتمدت أسلوب البحث العلمي في اختراق نسيج التخلف, ذلك الاختراق الذي تعجز عنه دول الجنوب لأسباب تربوية اجتماعية اقتصادية سياسية , إلا أن أهم الأسباب الرئيسية والتي هي من ضمن اسباب العمل التربوي , هو عدم اعتماد اللغة الوطنية في ميدان البحث العلمي , فالبرامج التربوية عندها تدرس على الأقل بلغتين , فالطالب يتلقى مبادئ العلوم بلغته ثم لايلبث في مستوى لاحق أن يتناول نفس المادة بلغة أجنبية فيموت الأمل عند أغلب الطلاب إذ يضطر الطالب إلى مواجهة البرنامج بلغة ليست لغته , وبشق الأنفس يتمكن الطالب من استيعاب المصطلحات ودون إدراك المفهوم العلمي لها وبالتالي يموت الأمل في البحث العلمي السليم, اللهم بعض الطلبة العباقرة , وهم قلة , وهؤلاء سيكون مصيرهم الهجرة . ولذلك فإن أي بحث علمي بدون لغة الوطن مآله الفشل فلم يسجل التاريخ أي مجتمع تقدم بلغة الآخر , فكل المجتمعات المتطورة اعتمدت لغة الوطن في التربية والبحث العلمي (= الصين ماليزيا أندونيسيا تركيا إسرائيل اليابانإيرانروسيا , بالإضافة إلى الدول الغربية , ) هذه المجتمعات قد نمت وتطورت 'أما الدول العربية والإفريقية التي تعمد في تدريس البرامج التربوية بلغة غير لغة الأم فإنها في آخر الركب على جميع المستويات التي من أخطرها التربية والبحث العلمي فاتخذت التبعية للغرب وسيلة للمسايرة والاندماج في العولمة بحجة الانفتاح . تلك هي علاقة الفكر بالتنمية, فهي إما علاقة عمل و إنتاج و تطور سليم , و هي العلاقة الصحيحة و الصالحة لتطور الكون نحو الأفضل , و إما علاقة قوة و إخضاع و بالتالي تؤدي إلى إسقاط الكون في صراع لا متناه نتيجة غياب و فقدان السعادة عند المجتمع الكوني..