من يتأمل واقع الريف من الزاوية السياسية الصرفة سيجد نفسه لا شك أمام مفارقات عجيبة مضحكة حينا ومبكية حينا آخر.فالريف،خصوصا الأوسط منه الذي شهد أروع ملاحم الجهاد والكفاح الوطنيين وأنجب رجالا ونساء يضرب بهم المثل في الإقدام والبسالة والإيثار،ليس أقلهم محمد بن عبد الكريم أحد أعظم شخصيات القرن العشرين وصاحب مأثرة وملحمة تاريخية عظيمة ك"أنوال" التي رفعت حضور وإسهام الريفيين في التاريخ بين أكثر الشعوب توقيعا في الدفتر الذهبي للتاريخ الإنساني؛وهو وحده يجعلنا كريفيين أولا وكمغاربة في النهاية،وبصرف النظر عن أي تقييم تاريخي وعقلاني للأحداث التاريخية والشخصيات الفاعلة فيها،نفخر بالانتماء لهذه"السلالة" بقدر ما يحملنا ذلك الانتماء على المستوى الرمزي وزر المسؤولية الأخلاقية إزاء تراث الأجداد وتضحياتهم فيما يرجع لمواصلة ما بذلوه من تضحيات وعطاء في سبيل التحرر من كل أشكال الاستعباد والظلم والاضطهاد،وصون ذاكرتهم من كل محاولات التشويه والمتاجرة الرخيصة بالقرب العائلي أو القبلي أو الهوياتي التي انتشرت في السنين الأخيرة مع بداية تدارك البعض لقيمة المقاومة الريفية وشخصياتها،بعد أن خدموا في دار المخزن طويلا وتنكروا لأصولهم ،وها هم اليوم،وبمنتهى الوقاحة،يزعمون النضال من أجل رفع الحصار عن الزعيم الريفي وإعادة الاعتبار لتاريخ الريف ورفع "الحصار"عنه،وكأني بذاكرة الريفيين مصابة بالخرف أو مثقوبة لتنسى دور هؤلاء،الذين سيأتي وقت فضحهم بالوثائق،في تشويه هذا الريف وتاريخه والتواطؤ على قمع أبنائه في العقود الأخيرة من تواجد بعضهم بسفارات ودهاليز الخارجية المخزنية لتسويق صورة المغرب "الحسني" وعهده الزاهر،أقول هذا الريف نفسه صار منذ مدة ليست بالقصيرة مرتبطا في أذهان بعض المغاربة،من خلال ما تروجه بعض وسائل الإعلام والصحف الرخيصة،بصور تجار مخدرات وعملاء للمخابرات الاسبانية وفاسدين جدد من تجار المساعدات الدولية ووسطاء الهيئات غير الحكومية، وبالتحديد بعض واجهات الصناديق السوداء الموجهة لخلق نخب مرتشية أو عميلة،لحقت بها في العقد الأخير صور أخرى لبعض مخبري الأجهزة الأمنية الذين ملئوا الدنيا بأكاذيبهم وادعاءاتهم للبطولة وتاريخهم المزور بالنضال وكرمهم المصطنع،بعد أن اجتهدوا في إنشاء صحف وقنوات إذاعية وشراء ذمم صحافيين انتهازيين واستئجار حواريين من المثقفين والكتاب لتلميع صورهم في الصالونات المغلقة أو لدى هيئات ومؤسسات تعلوهم همة وشأنا.هكذا تحول الريف من تلك الصورة التي اقترن فيها عند أكثر المغاربة بالمجد والشموخ، سواء المشتقة من تاريخ المقاومة ضد الاستعمار أومن الانشقاق عن النظام المخزني ومعارضته وتحديه في العقود التالية للاستقلال الشكلي،إلى صورة أضحى يقرن فيها برموز المسخ وأشبه رجال من المشبوهين والسماسرة والدجالين الذين تعج بهم كل المواقع السياسية . صحيح أن الريف لم يكن دائما ذا تمثيل مشرف، خاصة على المستوى السياسي بالمؤسسات الرسمية وعلى المستوى الانتخابي، حيث هيمنت الأحزاب اليمينية من النمط الإداري المشوه من خلال أعيان محليين وخدام المخزن. لا أريد أن أستفيض في تحليل الصورتين مع ما يستدعيه ذلك من مقارنات وخوض في التفاصيل الصغيرة للتاريخ الحديث والمعاصر،وهو أمر يتجاوز النطاق الذي يسمح به إبداء ملاحظات سريعة حول "المقال" الذي عممته بعض المواقع الإلكترونية للنائب البرلماني "الهارب" سعيد شعو الذي تضمن هجوما لاذعا على أصدقاء الأمس في حزب الأصالة والمعاصرة،وهو وإن لم يكن يستحق منا كل هذا الاهتمام لكون المعني هنا مكشوف السيرة،فإن الواجب الأخلاقي إزاء "الحقيقة" والتاريخ تفرض على الأقل أن يقول المرء منا كلمته ويشهد معه بعضا من الناس على ما آلت إليه أحوال ريفنا في الحاضر من تفسخ وما طال صورته المشرقة من تشوهات جديرة بالإدانة. وفيما يلي ما سجلناه من ملاحظات مركزة تبتغي كشف المضمر في مقال نائبنا المحترم: 1-لا توجد سياسة قذرة بالمطلق بل ثمة سياسيين قذرين نتعرَفهم بالممارسة وفي المواقع التي اختاروا الوقوف بها أو الانتماء إليها.وإذا كانت ثمة سياسة قذرة بالمطلق يمتهنها البعض فهي سياسة اليمين في كل العصور،أي مهنة الدفاع عن المصالح البارزة والخفية للطبقات السائدة والأنظمة الحاكمة باسمها.وهذه السياسة بالذات هي التي امتهنها السيد سعيد شعو،البرلماني الريفي الهارب من العدالة،بعدما اختار في الظروف المعلومة دخول معترك العملية الانتخابية من بوابة حزب العهد اليميني قبل أن يخوض محاولة فاشلة في ولوج "السياسة الكبيرة" من بوابة حزب الدولة الجديد الذي يتعرض اليوم لحملات مناهضة متصاعدة بعدما دخلت على خط المناهضة حركة 20 فبراير التي يغازلها السيد شعو،في المقال الذي "نشره" على موقع"لكم" وأعادت نشره مواقع ريفية عديدة، دون أن يشرح طبيعة الصلات التي يمكن أن تجمع أمثاله من "السياسيين" الطارئين أو "المظليين" بالحركة،ولا حقيقة هذا "الحب"المريب الذي بدأ يعرب عنه أشخاص وقوى أقل ما يعرف عنها أنها تقف على أرضية سياسية وطبقية أشد ما تكون عداء ومقتا لمطالب الحركة المذكورة وسياق بروزها التاريخي الذي ينذر،في حال نجحت التجربة التغييرية الجديدة،بشطب أمثال نائبنا المحترم ومتعهديه من أحزاب السلطة والنخب المرتشية الفاسدة من قبيل حزب العهد وقرينه الكبير الأصالة والمعاصرة الذي اكتشف صاحبنا أخيرا أنه يناصب العداء للتغيير والريف ويستحق كل اللعنات،بينما كان إلى عهد قريب يتمنى رضاه وتمثيله قبل أن ينقلب الحب القديم إلى عداوة وشماتة،وقد تبين أن عقد الحزب القوي الذي سعى الكثيرون في خطب وده أضحى قاب قوسين أو أدنى من الانفراط،فيما علامات إفلاسه الأخلاقي صارت واضحة،وليسوا بأقلية أولئك الذين شرعوا في فك ارتباطهم بحزب صديق الملك بعدما أحسوا بأن رهانهم كان ربما على حصان خاسر وأنهم غير محظوظين لأن زمن الثورات داهمهم من حيث لم يكونوا يتوقعون،فتحول حلم المجد السياسي وبلوغ المناصب الوزارية إلى سراب.فحزب "البركة" السياسية يتحول فجأة إلى ما يشبه جربا أو "حكة" معدية يحاول البعض الابتعاد عنه بأكبر مسافة ممكنة خوفا من أن يشرق صباح ويجدون أنفسهم مطاردين في الشوارع بشبهة الانتماء لحزب دولة صار من مخلفات ماضي غير مأسوف عليه. 2)عندما يكتب السيد شعو أن "المواطنين يتساءلون عن أسباب اختفاءه المفاجئ"،ينسى أن يضيف لقوله أنهم أيضا يتساءلون عن الأسباب والملابسات التي دخل فيها المعني معترك السياسة بالمعنى القريب إلى "عقل"وقلب السيد البرلماني،وهو الشخص الذي لم يكن لأحد لا في الريف ولا في بقية ربوع الوطن علم بوجوده فأحرى بسياسته المزعومة.وما يهم الرأي العام اليوم أكثر هو أن يعرف حقيقة هذا الدخول المباغت لميدان الانتخابات البرلمانية والفوز بمقعد من طرف شخص لم يسبق له أن خاض أية تجربة سياسية أو جمعوية أو ثقافية أو ما شابه تجعله يحوز ثقة وأصوات ناخبين(ات) من مختلف جماعات الإقليم.أما تخليه كما يقول عن المسؤولية والعودة "من حيث أتى" حسب تعبيره،فأمر لا يهم سوى شلة الأنصار والخدم الذين دأبوا على تحصيل المغانم من وراء الدعاية المضحكة لشخص جعل منه الجهل والفقر واليأس،مثله مثل كثير من "عجائب الدنيا" الجدد،بطلا،فيما تولى المال البقية من تبييض السيرة واصطناع الألقاب والصفات الأخلاقية والتأصيل العائلي وأشياء أخرى. 3) أما حين يدعي السيد شعو براءته من مما أشيع عنه فإنه لا يقدم توضيحا للقارئ،ومن خلاله الرأي العام،عن حقيقة مغادرته للتراب الوطني هاربا من العدالة،ولا أيضا شرحا للأسباب التي تمنعه حتى الآن من تسليم نفسه والعودة للوطن لتقديم التوضيحات أمام العدالة لا في وسائل الإعلام.أما الإسهاب في لغو ومزاعم خدمة منطقة الريف والإسهام في المشروع"الديمقراطي الحداثي" فلا يعدو ضحكا على الذقون ولا غبي يصدق أن نائبنا المحترم،الذي ورد اسمه في لائحة سوداء وزعتها جمعيات ريفية قبيل انتخابات 2007 للمطالبة بمنع عدد من المشتبه في تورطهم في نشاط وتجارة المخدرات من الترشح للانتخابات المذكورة،ظل كل هذه المدة صائما عن الكلام بشأن ما تداوله العامة من الناس من إشاعات حول ذمته المالية وثرائه الفاحش وصعوده المفاجئ لمسرح الحياة النيابية وتغلغله في عدد من المؤسسات المنتخبة والهيئات العمومية وهو الذي يحرص على تقديمه نفسه كمجرد مهاجر عاد للاستثمار في منطقته ورفع العزلة عنها،وهي الاسطوانة التي يلجأ إليها كل من أراد أن يضع الماكياج على وجهه وإخفاء سيرته أمام الناس والتلاعب بمشاعرهم.أما تذكيرنا بتهميش الريف وعقاب أبنائه فهو من باب السخرية بالناس واستغفال عقولهم.فلا يحتاج الريف لاعتراف أو شهادة أحد بتضحيات أبنائه ولا يوجد منهم من يتوسل أو يتسول بمثل هذا الاعتراف اللهم أولئك الذين،من أمثال البرلماني التعيس،أرادوا أن يجعلوا من هذا الأمر ذريعة للردة أو المساومة والمتاجرة برصيد الأجداد وتحويل الريف المهمش والمقموع والمنسي إلى سجل تجاري يطوف به الانتهازيون والوصوليون من كل الألوان والأشكال في الداخل والخارج لتحصيل المغانم والمكاسب،منهم الأفراد والجمعيات المحلية والأحزاب المغازلة والمدغدغة لمشاعر البسطاء والسذج من أبناءه . وقد حان الوقت لتتوقف هذه الآلة البئيسة عن استدرار العطف وإثارة المشاعر وترويج الكذب والضحك على الذقون.لم يعد هناك من يصدق في الريف هذه الاسطوانة المشروخة للتهميش والإقصاء وللبطولة المزيفة التي أضحى كل فاشل يصطنعها لنفسه وحسابه كلما لاحت في الأفق أزمة في جيبه أو ضاقت به دروب الحزب أو الجمعية التي عول عليها فخيبت أماله.فكفى من ذرف دموع التماسيح،ولتتوقف هذه المندبة! 4) أما العجب العجاب فهو إذ يزعم السيد النائب المحترم أنه اصطدم عند عودته للريف ب"عقليات هجينة يتحكم فيها الفساد والمصلحة الشخصية والإجهاز على مقومات الدولة الحديثة" فيخال المرء نفسه أمام ملاك نزل من سماء الطهر والنقاء والصفاء لا شخصا معلوما في قرية صغيرة يعود إليها بين الفينة والأخرى غانما للملايين من تجارة ونشاط معلومين عند عامة أهل القرية وجوارها. فكيف تغفل عن هويته العدالة بهذا البلد السعيد؟الجواب يعرفه جيدا نائبنا المحترم:إنها عدالة معطوبة وخرقاء ترى ما تريد وتتعامى عن رؤية ما لا ترغب في رؤيته.ولو أنها كانت عدالة حقيقية تكيل بالقسطاس لفعلت ما ينبغي أن تفعله مع كل هؤلاء الذين تسيل أنهار من مداد الصحافة في تعقب فضائحهم وجرائمهم المالية وعلاقاتهم المشبوهة بمافيات المخدرات وشبكات الدعارة ولا حياة لمن تنادي. 5)أما وأن يتصنع غيرته الكاذبة على الريف،وهي التي درج الكثيرون على ادعائها طمعا في العطف والأصوات الانتخابية على نحو صار اليوم مبعث اشمئزاز حقيقي،ويسرد وقائع من الاجتماع الحزبي الذي حضره بمحض إرادته بما يفهم منه أنه فضح للمستور،فإنه لا يقول لنا لماذا لم يبادر إلى فضح ما يصوره للقارئ على أنه مؤامرة يقودها "الحزب الملكي العتيد" وانتظر مرور كل هذه السنين؟ من سيصدق أن ما يقوم به النائب المحترم هو غيرة ووطنية وليس مجرد تصفية حسابات في دائرة أصحاب مصالح معلومة وجماعات متنافسة على الكعكة لا علاقة لهم بالشعب ولا بالمصلحة العامة ولا بالنزاهة ولا هم يحزنون؟ 6)وحتى عندما يتعلق الأمر بكشف وقائع صغيرة وخاصة ،مثل التعليمات التي صدرت لمستشار "ناظوري" معروف لتنظيم "مسيرات احتجاجية" ضد الإسبان بالتنسيق مع "البطل"،فإن ذلك لا يزيد عن كونه تشويقا على حكاية هي أصلا معروفة إن لم يكن بتفاصيلها فعلى الأقل في مضامينها الأساسية. فالواقعة لا تبتعد عن الحقيقة التي يعرفها الأذكياء وذوي الفطنة والنباهة بقليل من الجهد التحليلي للأحداث بربطها بالسياقات العامة والخاصة. فمثلا لا أحد يصدق أن المستشار "الناظوري" الملمَح له،وهو معروف ببهلوانياته المتكررة،بوسعه أن يقدم على أية مبادرة من قبيل تنظيم مسيرات احتجاجية ضد أحد أو جهة كانت،فبالأحرى سادته من الإسبان،إذا لم يكن بأمر من الجهة المعلومة. وحدهم الأغبياء يمكنهم أن ينخدعوا بوطنيته المزعومة وشجاعته المكذوب عليها. فالمستشار لا تعوزه الخبرة في تدليس المعلومات واختيار القضايا المربحة بالداخل ولا أيضا الصلات الوثيقة بالأجهزة الأمنية والائتمار بأوامرها.ولا يظن بذلك أن السيد شعو يكشف سرا عندما يورد هذه الواقعة،فلا يحتاج المرء في الناظور أو الحسيمة أو أي شبر من أرض الريف إلى الخوض في كواليس السياسة وعلاقاتها السرية لمعرفة خلفيات الأشخاص ومصالحهم المعلنة والخفية،اللهم إذا كان لا يزال بيننا في القرن 21 من يعتقد بصدق ونية حسنة أن مليارديرا جمع ثروته المالية بطرق غير مشروعة قد يصير بين عشية وضحاها نبيا أو صالحا ،وهو ما لا يحدث إلا في الأفلام الهندية الهابطة. 7)نصل الآن إلى حكاية المنفى.السيد شعو يقول إنه منفي منذ سنة وعمله "كبرلماني معلق بأمر واقع وليس بأمر قضائي"،ولكن مرة أخرى لا يقول لنا لماذا الأمر كذلك،ولماذا لا يتشجع و"يترجل" قليلا ويخرج من "الأمر الواقع" إلى "الأمر القضائي" وتنتهي الحكاية ومعها المنفى المزعوم؟هل يعقل أن يهرب نائب"أمة" من المسؤولية ويتخلى عن وظيفته في تمثيل من صوتوا له من الناخبين هكذا لمجرد مزاعم من واقع وليس بأوامر من القضاء أو أحكام قانون؟وأين هي إذن البطولة المزعومة لشخص نذر نفسه كما يدعي للدفاع عن منطقته المهمشة ،والتي تفرض في مثل هذا الحال التحلي بالصبر والشجاعة في مواجهة الأعداء والخصوم وعدم الاستسلام؟ أم تراها لعبة أكبر من النائب المحترم الذي لم يضع في حسبانه أنه عندما يدخل حلبة الصراع السياسي من أجل المصالح سيجد نفسه في مواجهة أشخاص ليس بالضرورة من النوع الذي يهوى هزيمتهم وتنحيتهم بالطرق التي اعتادها في الأراضي المنخفضة؟هذه أسئلة بسيطة قد يطرحها أي شخص عادي،وبدون الإجابة عنها بوضوح وبالممارسة أيضا ستظل الشبهات تطارد السيد شعو حتى إشعار آخر.