إن وجود المرأة الريفية في الهيئات السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة وإشراكها في عملية صنع القرار والسير بالمجتمع قدما لم يعد ترفا بل بات ضرورة تلح عليها ظروف المنطقة المنخرطة في مشاريع التنمية المختلفة, فالمرأة تجسد نصف المجتمع الريفي, ومعنى أن لا تبلغ صوتها وإرادتها أن نصف المجتمع صامت متقوقع لا يشارك في تنمية محيطه, ويستحيل أن تنطلق تنمية حقيقية بنصف المجتمع هذا. ثمة خيط بدأ ينتظم في الريف جامعا عناصر ثلاث: المرأة والتنمية والتمكين كاشفا عن دينامية آخذة في التشكل من شأنها أن تشهد إن هي أبانت عن جدية مجهوداتها وحسن نواياها وعن جدارة المرأة وأحقيتها بالفوز برهان المساواة والمناصفة. * صعوبة المرأة الريفية في المشاركة السياسية مع كل حملة انتخابية تتأكد صعوبة مشاركة المرأة الريفية في الحياة السياسية والعامة, كشريك أساسي لوضع لبنات البناء الديموقراطي, كونهن يشكلن الفئات الاجتماعية المحرومة, سواء داخل الدائرة الخاصة للأسرة أو الدائرة العمومية, ولأنهن ينتمين إلى الفئة الضعيفة اجتماعيا (ليس من المنظور العددي وإنما السلطوي) ولكونهن كذلك يعانين من الأمية والفقر, وكذا الأفكار النمطية الشائعة والتمثلات الجمعية التي تؤثر القيادة الرجالية, فالحملة الانتخابية تجري في شارع عام, وتتأثر تبعا لذلك لسلوكات الشارع واخلاقياته وقيمه التي تكون معادية لوجود المرأة في الفضاء العمومي. ونقص تمثيل العنصر النسائى في المجالس النيابية واقع ملموس, وهناك أداتان اقترحتا لتفادي هذا النقص وهما : نظام الحصص(الكوطا) , ونظام التكافؤ ويجب التمييز هنا بين نوعين من (الكوطا) الموجهة نحو تسهيل ولوج النساء إلى المكاتب الانتخابية ومراكز المسؤولية السياسية: من جهة تلك التي وضعتها التشريعات الوطنية, ومن جهة اخرى التي وضعتها الأحزاب السياسية. لكن رغم إقرار اللائحة الوطنية لجعل العنصر النسائي مرئيا(visibilité) وموجودا في البرلمان, وتقديمهن كنماذج يمكن الاقتداء بهن من طرف الأخريات, إلا أن تمثيلية النساء في الريف ظلت مع ذلك دون المستوى المطلوب, فرغم رمزية تلك الإشارة القوية –نظام الحصص- إلا أن عدد المترشحات الريفيات لمجلس النواب في انتخابات سنة 2016 يكاد ان يكون شبه منعدم باستثناء بعض الوجوه اللواتي عشن وترعرعن خارج الريف، وهذا مؤشر يؤكد مدى السيطرة السلطوية لذوي النفوذ على هذه الانتخابات, وقلة وعي الناخبين بأهمية تواجد المرأة في مناصب صنع القرار وأهمية تمثيلها بشكل عام. وبالرجوع إلى انتخابات المجالس الجماعية الأخيرة كمؤشر على الوضعية المتدنية للمشاركة النسائية نفسها نلمس بالدليل الواضح تأثير العراقيل والصعوبات على مشاركة النساء في هذه الانتخابات, حيث وصلت نسبة المترشحات إلى 11,22 في المائة فقط مقابل 89,77 في المائة من المترشحين رجالا. يتضح من خلال هاته المؤشرات أن المرأة الريفية بالرغم أنها تكون نصف المجتمع من الناحية العددية, إلا أنها من الناحية الفعلية ليست كذلك فهي تمثل أقلية بالمفهوم السياسي وتجربتها السياسية تجربة متواضعة وحديثة حرمتها من كسب مواقع ذات أهمية إما لأن الأحزاب تهمش النساء أو لأنه لا تأخذ قضايهن بعين الاعتبار كقضايا سياسية, وهذا سبب بديهي جعل النساء الريفيات بعيدات عن مواقع السلطة التي استفرد بها الذكور, وإن كانوا أقل مستوى من الناحية الثقافية والتعليمية حيث دفعت النساء المنتخبات لشغل مناصب ثانوية من قبيل الأعمال المكتبية أو المشاركة في لجان الدعاية الانتخابية وهذا طبعا يؤثر سلبا على تعبئة النساء السياسية مستقبلا إذ سيزهدن أكثر فأكثر في العمل السياسي, الذي أقل ما يمكن ان يوصف به كما ذكرت إحدى المستشارات هو الميزوشينية, أي كره النساء. ما يمكن استنتاجه من التجارب الانتخابية السابقة أن الناس تختار من المترشحين المعروفين أو ذوي النفوذ والأموال القادرين على الإنفاق على حملاتهم الانتخابية بسخاء شرعي وغير شرعي وتلك إمكانات تعز على نساء الريف اللائي لا يتوفرن على ثروات تذكر ففي أحسن الأحوال هن أطر أو من شهادات عليا أضف إليه أنهن غير منخرطات في الحياة العامة إما لعدم انشغالهن بالأمور الاجتماعية أو لأنهن يعملن في مجالات بعيدة عن اهتمام الناخبين وهو ما أضعف من إمكانية إنطلاق مشاركة حقيقية لهن. وأيضا يرجع ضعف المشاركة السياسية للنساء في هذا الربع العزيز من الوطن إلى الاعتقاد السائد في المجتمع بأن المشاركة النسائية تتمثل وتنحصر في عملية الانتخاب والترشيح وبعبارة أخرى ينظر إلى عملية المشاركة النسائية كعملية موسمية تلجأ إليها الأحزاب لكسب المزيد من المقاعد وتنتهي بانتهاء الانتخابات ولا تأخذ بعين الاعتبار أي جهد سياسي منتظم ودائم للتعبئة والتأطير ونتساءل هنا عن دور الأحزاب التي فازت باكبر عدد من المقاعد وعرفت أكبر مشاركة نسائية ونتساءل كذلك عن عدد الحملات والندوات التي نظمتها لصالح تحسيس النساء بأهمية المشاركة السياسية بعد نهاية حملات الانتخابات سيكون الجواب في أغلب الظن لا شيء. هكذا يبدو أن معظم المعيقات التي تقف حاجزا أمام بلوغ المرأة مراكز صنع القرار ومشاركتها الفعالة في المجتمع, ناجمة عن عادات وتقاليد وقيم اجتماعية سائدة وممارسات سياسية رسخت الفروق في القيادة بين الرجال والنساء و سواء تعلق الأمر باحتلال مواقع داخل هيئات سياسية أو مناصب رسمية أو تمثيلية, وجرى تحديدها باعتبارها فروقا بيولوجية, في حين أنها تخضع لمعايير وقيم ثقافية تمتد جذوره في تاريخ هذا المجتمع, ولذلك فتحرير النشاط السياسي ببلادنا لا يستطيع أن يحقق الشيء الكثير بالاهتمام بتغيير القوانين فحسب بل لابد أن يقترن النضال من أجل تغيير القوانين بنضال مماثل, بل من أجل تغيير المؤسسات الاجتماعية: كالأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام... إلخ. * تفوق في الباكالوريا ونجاح باهر في مسابقات التعليم والتمريض "كانت المدرسة دومًا لاعبًا كبيرًا ومؤثرًا في رحلتي الشخصية، فقد سمحت لي بالانفتاح على العالم، وبالحركية الاجتماعية كذلك، هذا كما سمحت لي بإثراء ذاتي، وبالإدراك والتعليم" هذا ما تصرح به دائما الريفية ."نجاة بلقاسم" - أول امرأة تشغل منصب وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي في تاريخ فرنسا على مستوى إقليمالحسيمة، فكما يبدو أن النساء الريفيات طبقن هذه المقولة في حياتهن التعليمية ليصلن إلى مكانة مرموقة في المستقبل، وينعتقن من تلك التقاليد المجتمعية المحافظة التي تقيد حريتهن وإمكانيتهن، فقد بلغت نسبة النجاح بالحسيمة مثلا السنة الماضية 30ر61 بالمائة من اصل 2097 مرشحا ومرشحة تقدموا لاجتياز الدورة العادية لامتحانات الباكالوريا، منهم 1012 ناجحة من أصل 1520 من المرشحات، و1085 من الناجحين من أصل 1901 من المرشحين الذكور، يعني نسبة النجاح من المرشحات الإناث تفوق نسبة نجاح من المرشحين الذكور، وهي نسب عادة ما تتكرر سنويًّا. وفي هذا الإطار يؤكد عديد من المختصين في الشؤون التربوية أن اكتساح العنصر النسوي للتعليم في الريف يعود إلى “الحافز اللاشعوري” الذي يجعل المرأة تباشر رحلة البحث عن “مكانة مرموقة” بالمجتمع الذي تنتمي إليه، ببذل مجهودات أكثر لتحقيق النجاح والتفوق في الدراسة، لتصبح الدراسة ذات بُعدين: الأول معرفي، والثاني “اجتماعي” بالدرجة الأولى. فالإناث يمثلن الحلقة الأقوى في الامتحانات الرسمية، لاسيما امتحانات نهاية المرحلة الابتدائية، والتعليم المتوسط وشهادة البكالوريا، بل في اختبارات الولوج للوظيفة كمباريات ويعد التعليم والتمريض أكثر المجالات التي يتفوق فيه العنصر النسوي في منطقة الريف، فالحافز اللاشعوري لدى المرأة في الريف يعد عاملًا إيجابيًّا أو بمثابة “الأكسجين” الذي يمنحها هامشًا من الحرية، خاصة أن المرأة الريفية تدرك جيدًا بأن الفرصة الوحيدة للحصول على مكانة مرموقة في المجتمع، هو مواصلة الدراسة والوظيفة سواء في التدريس أو التمريض تحت أية ظروف، المهم هو تحقيق الذات وفقط. * المرأة الريفية و المشاركة القوية في الاحتجاجات منذ اللحظة الأولى لانتفاضة الغضب في الريف إثر واقعة مقتل بائع السمك "محسن فكري" تجلى بوضوح المشاركة المكثفة للنساء الريفيات في هذه الاحتجاجات، حيث عرفت كل المسيرات التي شهدتها مدينة الحسيمة إثر هذا الحادث مشاركة نسبة كبيرة من النساء من مختلف الاعمار، ولأول مرة في تاريخ الاحتجاجات في تلقى مثل تجاوبا كبيرا وحضورا مكثفا وهو ما ساهم حسب الكثير من النشطاء في ضمان سلمية الاحتجاجات. ولم يقتصر احتجاج المرأة على صعيد مدينة الحسيمة فقط بل شاركت نساء الناظور أيضا في وقفة احتجاجية... للمطالبة بإنشاء مستشفى لعلاج مرض السرطان في منطقة الريف. ولعل مسيرة اليوم التي تخلد اليوم العالمي للمرأة والتي خصصت حصريا للعنصر النسوي، لدليل واضح على أن المرأة الريفية بدأت تخرج من قوقعتها وتثبت بأنها امرأة مناضلة وتدافع عن مطالبها المشروعة. ربما كانت مشاركة النساء الريفيات عمليًا على أرض الواقع هي أول تجاربهن الحياتية لإثبات ذواتهن والبحث عن هوياتهن المفتقدة لعقودٍ خلت. وقد أثبتت النساء على اختلاف مراحلهن العمرية قدرتهن على تحمل المسؤولية ومشاركة الرجال جنبا إلى جنب في هذه الاحتجاجات في إدارة شؤون المجتمع المدنى بكفاءة عالية، يكفي فقط أن تراهن في المشهد ينظمن صفوفهن ويرددن الشعارات ويقدمن الكلمة ويقترحن الآراء لكي يعلنّ رأيهن في صراحة وقوة ووضوح، ويكسرن روتين الاحتجاجات بصيحات زغاريدهن المدوية، يكفي أيضًا أن تراهن وقد ضحين بأعمالهن المنزلية ورعاية أطفالهن، ليخرجن للشارع وينتفضن على الظلم والقهر والمطالبة بحياة كريمة. هذه هي قوة الريف الحقيقة، وهي الأمل الذي افتقدناه طويلا في ظل مجتمع رجولي بامتياز، لا ننكر أننا في حاجةٍ إلى قوة الرجال وسواعدهم، لكننا في حاجة أشد إلى حكمة النساء وعقولهن، بل أرى أن السبب الرئيس لتخلفنا هو إهمالنا لهذه القوة الضخمة التي إن أحسنا استثمارها أسرعت بنا الخطى نحو مستقبل مشرق. ولعل أبرز المكاسب التي حققتها النساء الريفيات بانتفاضتهن هاته، هو الخروج عن حاجز التقاليد المجتمعية المحافظة التي تقيدهن منذ عقود من جهة، ومن جهة أخرى كسر حاجز الخوف لديهن في تعاملهن المباشر مع السلطات الحكومية وجهاز الشرطة. وفي تقديري أن هذين الحاجزين لن تقوم له قائمة بعد الآن فقد انهار في نفوسهن إلى غير رجعة. ختاما: باستقراء المستقبل يحدونا الأمل لتبوء النساء الريفيات مكانتهن المرموقة بل الدخول في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية وغيرها, ولكن لن يتوفر ذلك إلا بتكاثف الجهود, وضرورة إرساء وتعزيز الشراكة بين المنظمات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص والنقابات والمنظمات النسائية وذلك للنهوض بأوضاع المرأة الريفية والعمل على تغيير ظروفها.