تقررت الرقابة القضائية على دستورية القوانين في المغرب بمقتضى دستور 2011 ، الذي نص على إنشاء محكمة دستورية أسند إليها بالإضافة إلى اختصاصات التي يختص بها المجلس الدستور الحالي، اختصاص النظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية نص قانوني أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق عليه في النزاع يمس بالحقوق وبالحريات التي يتضمنها الدستور (الفصل 133 من الدستور)، وأحال الدستور على قانون تنظيمي ليبين شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل. فالدستور المغربي الجديد قد جمع بين أسلوب الرقابة السابقة باعتبارها رقابة وقائية يمكن أن تمنع إصدار قانون وافق عليه البرلمان إذا تم الطعن فيه من قبل الجهات التي حددها الدستور في الفصل 132، لكن هذه الرقابة غير كافية لأنها يمكن أن تتأثر بالاعتبارات السياسية، كما أنها غير متاحة أمام الأفراد. وأسلوب الرقابة اللاحقة التي من خلالها يمكن للأفراد الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم التي قد تعتدي عليها القوانين.
وفي ترقب صدور القانون التنظيمي المتعلق بتطبيق الفصل 133 من الدستور، سنتعرض لأهم ملامح الرقابة اللاحقة على دستورية القوانين وفق أسلوب الدفع الفرعي بعدم الدستورية، انطلاقا من اطلاعنا على مجموعة من التجارب المقارنة، خاصة التجربة الفرنسة، والأبحاث والدراسات المتصلة بهذا الموضوع، وذلك على الشكل التالي:
أولا: أصحاب الحق في الدفع بعدم الدستورية
يحق لجميع الأشخاص الدفع بعدم دستورية نص تشريعي بمناسبة دعوى موضوعة أمام إحدى الجهات القضائية، إذا كان هذا النص يعتدي على أحد الحقوق والحريات الأساسية التي يحميها الدستور المغربي، وقد يفهم من عبارة "أحد الأطراف" الواردة في فحوى الفصل 133، جميع الأشخاص، الطبيعية والمعنوية ( أشخاص معنوية عامة مثل الهيئات العامة والمؤسسات العامة والإدارة، أشخاص معنوية خاصة مثل الشركات والجمعيات والاتحادات) كما أنها لا يجب أن تقتصر هذه العبارة على المواطنين وحدهم بل يجب أن تشمل أيضا الأجانب.
ويثور السؤال عن مدى إمكانية التصدي لهذا الدفع مباشرة بواسطة القاضي أو النيابة العامة في حالة لا يتمسك فيها أحد الخصوم بهذا الدفع؟ فإذا اعتبرنا الدفع بعدم الدستورية دفع متعلق بالنظام العام يترتب على ذلك أنه يجوز للقاضي إثارته من تلقاء نفسه ولو لم يتمسك به أحد الأطراف الدعوى، ويذهب غالبية الفقه والاجتهادات القضائية إلى أن الاعتداء على أحد الحقوق والحريات الأساسية التي يضمنها الدستور تعتبر من الأمور المتعلقة بالنظام العام، والتي يجوز للقاضي أو للنيابة العامة إثارته مباشرة.
ثانيا: معيار المصلحة العامة في الدعوى
يشترط لقبول الدعوى أن يتم تحريكها بواسطة دفع فرعي يقدم أثناء نظر إحدى الدعاوي أمام جهة من جهات القضاء، بشرط أن يستند هذا الدفع إلى نص تشريعي مطعون فيه يتضمن اعتداء على أحد الحقوق والحريات الأساسية التي يكفلها الدستور، وبذلك فإن المصلحة في هذه الدعوى تتمثل في المنفعة التي تتحقق من الحكم بعدم دستورية النص الذي اعتدى على هذه الحقوق والحريات.
وينبغي كذلك أن تكون هناك صلة بين الدعوى التي أثيرت بصددها الدفع بعدم الدستورية والدعوى الدستورية، عن طريق اشتراط أن يكون النص أساسا للدعوى الموضوعية، ويعنى أن المسالة الدستورية يجب أن تعتبر مسألة أولوية يتعين الفصل فيها أولا لكي تتمكن المحكمة من الفصل في الدعوى الموضوعية التي أثيرت بمناسبة الدفع. ولا يشمل الدفع بعدم الدستورية، الجوانب الشكلية التي يحددها الدستور لإصدار القانون، فلا يمكن إثارتها إلا وفق أسلوب الرقابة السابقة على إصدار القانون.
وتشمل الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور:
الحقوق والحريات التي نصت عليها ديباجة الدستور الحقوق والحريات الأساسية التي نصت عليها نصوص الدستور ثالثا: طبيعة النصوص القانونية محل الرقابة
إن السؤال المثار في الصدد، هو ما مدلول عبارة " قانون" الواردة في مضمون الفصل 133؟ بمعنى هل يشمل الدفع الفرعي كل ما ينطوي تحت الفصل 71 من الدستور، أم أن هناك قوانين تستثنى من هذا الدفع؟
وللإحاطة بهذا السؤال نستعين ببعض التجارب المرتبطة بهذا الموضوع من أجل تحديد طبيعة النصوص التي تندرج ضمن هذه العبارة، وعموما فالدفع الفرعي يشمل كل من:
التشريعات التي يصدرها البرلمان والتي لم تخضع للرقابة السابقة للمجلس الدستوري والمحكمة الدستورية مراسيم بقوانين التي تتخذها الحكومة بناءا على الفصلين 70 و81 من الدستور، بعد عرضها على البرلمان والمصادقة عليها للإشارة، فالقوانين المشارة إليها أعلا، لكي تكون موضوع الدفع الفرعي بعدم الدستوري يجب أن تتصل بالحقوق والحريات الأساسية التي يضمنها الدستور وذلك حسب الفصل 133 من الدستور.
وتخرج من دائرة الدفع الفرعي بعدم الدستورية القوانين التنظيمية، نظرا لأنها تعرض وجوبا على المجلس الدستوري والمحكمة الدستورية قبل إصدارها لكي يتحقق من مدى مطابقتها للدستور، وقرارات المجلس الدستوري والمحكمة الدستوري تحوز حجية الشيء المقضي به وتلزم الجميع ولا يجوز إعادة النظر فيها (الفصل 134 من الدستور) .وكذلك ربما لا يشمل الدفع الفرعي المعاهدات الدولية نظرا لأنها لا تندرج تحت عبارة النصوص القانونية التي لها قيمة التشريع حيث تتمتع وفق ديباجة الدستور بقيمة قانونية أعلى من قيمة التشريع اذ جعلها المشرع الدستوري المغربي تسمو على القوانين الوطنية فور نشرها وإن كانت تخضع للرقابة السابقة التي تمارسها المحكمة الدستورية.
وهناك بعض الدساتير تستثني القوانين المالية والضريبة والعفو العام، ويبقى تحديد طبيعة النص القانوني الذي يشمله الدفع الفرعي خاضع لإرادة المشرع.
رابعا: إجراءات رقابة الدستورية عن طريق الدفع الفرعي
يمكن إثارة الدفع بعدم دستورية بمناسبة دعوى أمام إحدى الجهات القضائية، وتقديمه في أية مرحلة من مراحل التقاضي، الدرجة الأولى والاستئناف والنقض.
ولتبسيط هذه الإجراءات سنوضح طبيعة التنظيم القضائي للمملكة المغربية، فوفق أخر تعديلات النظام القضائي المغربي (أكتوبر 2011)، فالنظام القانوني المغربي يأخذ بازدواجية القضاء، قضاء عادي وقضاء إداري.
فالقضاء العادي يشمل: المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، ومحاكم تجارية ومحاكم الاستئناف التجارية.
أما القضاء الإداري يشمل: المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية.
ومحكمة النقض التي حلت محل المجلس الأعلى، وتتكون من ستة غرف، غرفة مدنية تسمى الغرفة الأولى وغرفة للأحوال الشخصية، غرفة تجارية، غرفة إدارية، غرفة اجتماعية، وغرفة جنائية. وتعتبر محكمة النقض أعلى درجة التقاضي سواء بالنسبة للقضاء العادي والقضاء الإداري. وبالتالي يكمن إثارة الدفع الفرعي أمام إحدى هذه الجهات الثلاث.
وفي جميع الحالات يجب تقديم الدفع بعدم الدستورية في مذكرة مستقلة عن مذكرة الدعوى أو الطعن مبينا فيها أسباب عدم الدستورية وتكون مرفوقة بتوقيع صاحب المصلحة مع بيان صفته واسمه الشخصي والعائلي وتوقيع محام مسجل في إحدى هيئات المحامين بالمغرب. ويتعين على المحكمة التي أثير أمامها الدفع أن تحيله إلى محكمة النقض سواء كانت تلك المحكمة تابعة لجهة القضاء العادي أو لجهة القضاء الإداري، وذلك إذا قدرت المحكمة أن النص القانوني المطعون فيه يتضمن اعتداء على أحد الحقوق والحريات الأساسية التي يكفلها الدستور يعد أساسا للفصل في المنازعة ولم يكن هذا الدفع منعدم السند، لأن المحكمة تملك سلطة تقديرية في فحص الدفع والبت فيه بحيث إذا تبين لها أن الدفع منعدم الأساس ولا يتسم بالجدية فإنه تملك رفضه ولا تلزم بإحالته إلى محكمة النقض والاستمرار في النازلة، وفي هذه الحالة يجب على المشرع تحديد المهلة الزمنية لتقرير المحكمة بقبول أو رفض الدفع، وفي حالة قبول المحكمة الدفع تحيل الأمر على محكمة النقض التي تملك بدورها سلطة تقديرية لإحالة الأمر على المحكمة الدستورية ، فإذا تبين لها أن الدفع لا يتسم بالجدية تعيد الملف إلى المحكمة التي أثار أمامها الدفع واستمرار النظر في الخصومة.
كما يمكن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام محكمة النقض مباشرة فإذا قبلت الطلب تحيله مباشرة على المحكمة الدستورية في مدة زمنية معقولة. وفي جميع الحالات المحكمة الدستورية هي التي تملك كلمة الفصل في مدى دستورية النص المطعون فيه.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك دساتير تخول للأفراد إمكانية الدفع الفرعي بعدم الدستورية مباشرة أمام المحكمة الدستورية.
ويترتب على قبول الدفع بعدم دستورية النص القانوني المطعون فيه من قبل محكمة الموضوع على أساس أنه يمس بأحد الحقوق والحريات الأساسية، وقف الدعوى، أي تأجيل النازلة إلى غاية صدور حكم محكمة النقض في حالة رفض الطلب وكذلك صدور قرار المحكمة الدستورية في حالة قبول الطلب، نظرا لأن مسألة مدى اتفاق هذا النص مع الدستور تعتبر مسألة أولوية ينبغي الفصل فيه أولا حتى يمكن الحكم في الدعوى، ولا يجوز للمحكمة التي تنظر في الدعوى أن تتخذ اي إجراء فيها ما عدا الإجراءات التي من شأنها منع تقيد الحرية الشخصية أو في الحالات التي يلزم فيها القانون المحكمة بأن تفصل في الدعوى في مدة محددة أو على وجه السرعة، فإنها لا تلزم بوقف السير في الدعوى حتى لو قبلت الدفع، وكذلك في حالة التي يكون فيها الهدف من الدعوى إلغاء إجراء مقيد للحرية الشخصية.
ووفق الفصل 134 من الدستور إذا قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية النص الذي أثار بشأنه الدفع الفرعي، فلا يمكن تطبيقه وينسخ ابتداء من تاريخ الذي تحدده المحكمة الدستورية في قرارها، ويستفاد من هذا الفصل أن المشرع الدستوري ترك أمر تحديد أجل سريان قرار عدم دستورية النص المطعون فيه للمحكمة الدستورية، فهل هو أثر مباشر أم رجعي؟ وسنترك الإجابة عن هذا السؤال للمحكمة الدستورية. حجاجي أمحمد طالب باحث بسلك الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية