أصبحت معاكسة التوجهات الملكية والمواقف الرسمية للدولة رياضة وطنية عند بعض المسؤولين والوزراء. وفي الوقت الذي يرفض فيه الملك استقبال الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريس، نرى كيف يسابق وزير الخارجية الطيب الفاسي الفهري الزمن، بعد لقائه الأخير بوفد البوليساريو المفاوض، لكي يطير من واشنطن إلى طنجة لحضور أنشطة منتدى ابنه إبراهيم الفاسي الفهري، ويجري لقاءات جانبية مع ضيوف المنتدى كما لو أن الأمر يتعلق بمؤتمر رسمي ينظمه المغرب وليس بمنتدى من تنظيم معهد مستقل. ولو اقتصر الأمر على الحضور وإجراء اللقاءات الثنائية الهامشية لهان الأمر، لكن المصيبة أن وزير الخارجية حضر إلى جانب ضيوف إسرائيليين رغم أن المغرب، رسميا، قطع علاقته بإسرائيل منذ وصول نتانياهو إلى الحكومة. ولعل قمة الغباء، أو ربما هو التغابي، هي أن يبرر ابن وزير الخارجية المدلل دعوته لضيوفه الإسرائيليين بكونهم كلهم مدنيين، وكأن الفتى المدلل يجهل أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يوجد فيها مدنيون. فلكي تكون مواطنا إسرائيليا يجب أن تكون أولا جنديا من جنودها مستعدا للقتال من أجلها، ولذلك فكل المواطنين الإسرائيليين، ذكورا وإناثا، هم في الواقع جنود احتياط خضعوا للتدريب على حمل واستعمال السلاح والقتل. ومن يسميهم إبراهيم الفاسي الفهري بالضيوف الإسرائيليين المدنيين ليسوا سوى كذبة لن تنطلي على أحد سواه، لأن الجميع يعرف أن ضيوفه الإسرائيليين هم في الحقيقة جنود احتياط مستعدون للدفاع عن دولة إسرائيل في أية لحظة. وهذا التبرير الغبي يضاف إلى لائحة التبريرات الغبية السابقة التي ساقها الفتى المدلل عندما أراد أن يبرر دعوته لمجرمة الحرب «تسيبي ليفني» السنة الماضية إلى حضور أشغال المنتدى نفسه، عندما قال لجريدة، احترف مديرها هذه الأيام لعق حذاء وزير الخارجية، إنهم دعوا ليفني لأنها تمثل المعارضة الإسرائيلية، وكأن المعارضة الإسرائيلية لديها مواقف في صالح القضية الفلسطينية، مع أن الجميع يعلم بأن المعارضة والحكومة الإسرائيلية إذا كانتا متفقتين حول شيء واحد فهو بالضبط إبادة الشعب الفلسطيني عن آخره. وقد كان يمكن أن نحسب تنظيمَ هذا المنتدى في طنجة واستدعاءَ كل هؤلاء الضيوف الإسرائيليين إلى جانب كبير المقاولين، عفوا، كبير المحاورين صائب عريقات، على رغبة الفتى المدلل في تبرير كل تلك الملايير التي يتلقاها كدعم من المؤسسات العمومية لصالح «نشاطه»، والتي لا أحد بالمناسبة يطالبه بتقديم الحساب حول طرق صرفها. لكن أن يسارع والده وزير الخارجية إلى إنهاء المفاوضات حول الصحراء في واشنطن لكي يعضد ابنه بالحضور الشخصي إلى جانبه في طنجة، ويظهرا معا في وسائل الإعلام العمومية باسمين كما لو أنهما حققا نصرا باهرا، فهذا ما يبعث على الخجل من الحالة المزرية التي وصلت إليها الدبلوماسية المغربية في عهد آل الفاسي الفهري. لم يبق لكي تكتمل الصورة العائلية للوزير وابنه سوى أن تحضر المدام حرم وزير الخارجية وتعرض خربشاتها التي تسميها لوحات في بهو الفندق الذي نظمت فيه اللقاءات. لقد وصلت صورة الخارجية المغربية حدا من الانحدار غير مسبوق مع هذا الوزير «المتساخف» الذي يضع وزارة بكاملها رهن إشارة ابنه المدلل. لم يسبق أن عاشت وزارة الخارجية المغربية زمن الصبيان مثلما تعيشه اليوم مع الطيب الفاسي الفهري وابنه وأفراد عائلته الكريمة. ويمكن أن نحسب ما تفوه به إبراهيم الفاسي الفهري في منتداه على الجهل التاريخي بأصل الصراع في الشرق الأوسط، وموازين القوى في العالم المعاصر بشكل عام. فالولد، الذي يظهر من أسلوبه أنه لا يفتح دفاتر أخرى غير دفاتر الشيكات، لا يستطيع أن يقول لنا ما الذي تحقق للمغرب من وراء دعوته لتسيبي ليفني وبقية ضيوفه الإسرائيليين على مستوى قضيته الوطنية الأولى. فقد رأى الجميع كيف كادت تحل الكارثة في الصحراء بعد مؤامرة العيون، لولا أن الله يرعى هذه البلاد بعينه التي لا تنام. فهل يستطيع أن يقول لنا الفتى المدلل ماذا صنع ضيوفه الإسرائيليون للدفاع -في الكونغرس والبيت الأبيض وتل أبيب، حيث يتم طبخ القرارات وصنع النزاعات وتغذية النعرات- لتقوية موقف المغرب وإسماع صوته في مراكز القرار الأمريكية والإسرائيلية؟ هل يستطيع أن يقول لنا ماذا ربحت القضية الفلسطينية من وراء استضافته في معهده لكل هؤلاء الصهاينة على حساب دافعي الضرائب المغاربة؟ لا شيء إطلاقا عدا المزيد من المستوطنات في القدس والمزيد من الجوع في غزة والمزيد من السلاح والمال لإسرائيل. إن قمة السخرية لا تتجسد في تطاول فتى غر لازال في العشرينات من عمره على الدبلوماسية التي «هرس» فيها السياسيون الكبار أسنانهم، وإنما قمة السخرية هي أن يأخذ أندريه أزولاي، رئيس مؤسسة «أناليندا المتوسطية للحوار بين الثقافات»، الكلمة ويطالب الرئيس الأمريكي «أوباما» بتوجيه خطاب سلام إلى اليهود مثلما صنع في القاهرة عندما وجه خطابه إلى المسلمين. لا بد أن «مسيو» أزولاي بدأ يعاني من أعراض النسيان، لأن أول من وجه إليهم «أوباما» خطابا حتى قبل أن يصبح رئيسا، هم اليهود، وذلك بمناسبة خطابه «التاريخي» في الرابع من يوليوز سنة 2008 عندما اعتلى منصة منظمة «الإيباك»، أقوى منظمة يهودية صهيونية في العالم. وهذا الخطاب الذي قطع فيه «أوباما» عهودا على نفسه إزاء إسرائيل ويهودها جاء أياما قليلة قبل نجاحه في دخول البيت الأبيض، أي أشهرا طويلة قبل خطاب القاهرة الذي «رقد» فيه العرب عندما قال لهم بلسانه المتلعثم «السلام عليكم». إن الفرق الجوهري بين خطاب «الإيباك» وخطاب القاهرة هو أن «أوباما» التزم بجميع ما وعد به اليهود، فيما أخل بكل الالتزامات التي وعد بها المسلمين. وحتى ننعش ذاكرة السيد «أزولاي»، ليسمح لنا بأن نذكره بأهم وأخطر التعهدات التي قطعها «أوباما» على نفسه أمام يهود العالم في ذلك اليوم المشهود. لقد قال «أوباما» إن أمن إسرائيل أمر لا نقاش فيه، ووصل به الأمر إلى القول إن أمن إسرائيل مقدس وغير قابل للتفاوض. وقال أيضا إن القدس يجب أن تظل عاصمة أبدية لإسرائيل وإن تقسيمها بين الفلسطينيين والإسرائيليين أمر غير وارد. وأضاف أن إسرائيل من حقها المحافظة على طابعها اليهودي. على الرغم من تحذيرات أبو الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي، البروفيسور «يحزكيل درور» الذي دعا إسرائيل قبل أمس، في مقال نشره في «هآرتس»، إلى حل قضية القدس باقتسامها بين المسلمين والإسرائيليين قبل أن تتعاظم القوة الإسلامية العالمية. لقد وعد «أوباما» إسرائيل بأنه لن يتخلى عنها، ولذلك فإنه سيخصص ميزانية قدرها 30 مليار دولار للعشر سنوات المقبلة لتقوية ما أسماه «التفوق النوعي» للجيش الإسرائيلي، وهاهو نتانياهو يعود قبل يومين من واشنطن بذخيرة حربية «ذكية وفتاكة». كما وعد إسرائيل بالوقوف إلى جانبها دائما في مجلس الأمن وفي العالم بأسره. وختم بنبوءة أثبت الزمن تحققها عندما قال إننا لا يجب أن نجبر إسرائيل على الذهاب إلى المفاوضات. كل ما وعد به أوباما اليهود في ذلك اليوم تحقق أو هو في طريقه إلى التحقق. فالتهويد يسير على قدم وساق، واستمرار بناء المستوطنات لم يعد في نظر البيت الأبيض حاجزا أمام استمرار المفاوضات، والأسلحة التي وعد بها «أوباما» الإسرائيليين تصل في موعدها، و«الفيتو» الأمريكي مستعد دائما في مجلس الأمن لإيقاف كل قرار ليس في صالح إسرائيل. وفي مقابل الالتزام الحرفي بالوعود التي قطعها «أوباما» على نفسه أمام يهود العالم، نندهش عندما نراجع شريط وعوده المعسولة التي أطلقها في خطاب القاهرة الذي وجهه إلى المسلمين. فقد وعد بتخصيص مئات الملايين من الدولارات لتطوير الاقتصاد الأفغاني وإعادة بناء المدن التي خربتها القوات الأمريكية. كما وعد بإغلاق سجن «غوانتانامو» وإعادة قوات الجيش الأمريكي إلى قواعدها إذا تأكد من عدم وجود متطرفين. كما التزم بعدم قبوله بشرعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية، والتزم بالدفاع عن حل الدولتين لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. فما الذي تحقق من كل هذا؟ لا شيء إطلاقا. المفاوضات أصبحت عبثية، والمستوطنات تتناسل مثل الفطر، والتهويد جار على قدم وساق، ومخطط تدمير الأقصى ماض لطمس المعالم الإسلامية في القدس وتهويدها بالكامل. عندما نقارن بين خطاب «أوباما» في منظمة «الإيباك» وخطابه في جامعة القاهرة، نكتشف كم هو منافق هذا الرئيس الأمريكي. وإذا كان بوش أكثر الرؤساء الأمريكيين غباء، إلى درجة أنه ألف كتابا يعترف فيه بالسماح بممارسة التعذيب، مما سيجر عليه دعاوى قضائية بلا حصر، فإن أوباما يظل أكثر الرؤساء الأمريكيين مداهنة ومكرا على الإطلاق. فأمام اليهود، يتحدث عن اللجوء إلى استعمال القوة من أجل أمن الحليفة إسرائيل. وعندما يقف أمام المسلمين، يكتشف منافع الدبلوماسية ويستحضر مقولة للرئيس الأمريكي «تشرشل» الذي قال إنه «كلما قللنا من الاعتماد على القوة اشتدت عظمتنا». أمام اليهود، يمجد اللجوء إلى القوة من أجل حماية النفس ويعد بحشد الأموال من أجل التسلح. وأمام المسلمين، يمجد الحوار ويدعو الفلسطينيين إلى التخلي عن المقاومة المسلحة، لأن طريق العنف مسدود دائما. عندما نراجع الخطابين نخرج بفكرة واحدة، وهي أنه في أمريكا لا ينتخب الرئيس وإنما في أمريكا يتم اختيار الرئيس. إذا كان «مسيو» أزولاي يريد أن يسمع خطابا من «أوباما» إلى اليهود، فما عليه سوى أن يفتح حاسوبه الشخصي وينقر اسم الرئيس الأمريكي ومنظمة «إيباك» في محرك البحث وسيحصل على الخطاب الكامل الذي وجهه «أوباما» إلى يهود العالم قبل انتخابه. وهو الخطاب الذي بدأ في تطبيقه حرفيا مباشرة بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية.