لقيت دعوة كريمة من منظمي المؤتمر العلمي العالمي المكرس لإبداع أنطون تشيخوف - الذي سيعقد في موسكو من 29 يناير ولغاية 1 فبراير2019 - للمشاركة في المؤتمر، بقراءة ورقة في موضوع يتعلق باحد جوانب حياة وأدب هذا الكاتب ، الذي يحظى بمكانة سامية في الأدب العالمي تشيخوف يبدو اليوم بعد أكثر من قرن على رحيله ، كاتبا معاصراً لنا ، وما زالت كتبه تطبع ويعاد طبعها في بلدان كثيرة ، ،ويلتقي المشاهد بأبطاله على مسارح موسكو وبطرسبورغ ونيويورك وطوكيو ولندن وباريس وبيونس ايرس وغيرها من المدن وقلما نجد كاتبا قصصيا او مسرحيا منذ تسعينات القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا لم يتأثر بفن تشيخوف . وثمة عدد هائل من الكتب والبحوث والأطاريح العلمية المكرسة لإبداعه ، كما أن الكثير من مؤلفاته أخرجت سينمائيا وتلفزيونيا .
وتحتوي اللغة الروسية الحديثة على العشرات من العبارات والأقوال السائرة الذكية واللاذعة ، التي دخلت هذه اللغة عن طريق مؤلفاته ، ويستعملها الروس في حياتهم اليومية دون ان يفطنوا انها لم تكن موجودة في لغتهم قبل تشيخوف. ولهذا يبدو لاول وهلة ، ان من الصعب على اي باحث أن يأتي بجديد عن ابداع تشيخوف ، الذي اشبعه الكتّاب والنقاد والباحثون دراسة وتحليلاً . وبعد تأمل الموضوع قلت في نفسي :" ان لكل باحث قراءته الخاصة لأعمال أي كاتب كبير. وأنا عندما أعيد قراءة روائع تشيخوف بين حين وآخر ، اكتشف فيها جديداً في كل مرة . إلا أن هذه القراءة لن تكتمل من دون قراءة رسائله ودفاتر يومياته وزيارة الأماكن التي عاش وكتب فيها ، من اجل فهم أعمق وأفضل لأعماله الأدبية . ولم اكن اول من يفعل ذلك ، فقد اعتاد العديد من المخرجين والممثلين المسرحين في روسيا زيارة الأماكن، التي كتب فيها تشيخوف أعماله المسرحية ، للعيش في أجوائها ولو لفترة قصيرة فبل تجسيدها على المسرح . عزبة تشيخوف في ميليخوفو في فبراير 1892 كتب نشيخوف رسالة الى صديق له يقول فيها :" إن كنت طبيباً ، فإنني بحاجة الى مرضى ومستشفى ، وإن كنت أديباً فعليّ أن أعيش في وسط الناس ، لا في زقاق مالايا ديمتروفكا ... إنني في مسيس الحاجة الى (قطعة) من الحياة السياسية والإجتماعية . وأما هذه الحياة بين جدران أربعة ، حيث لا أناس ولا وطن ، ولا صحة ولا شهوة ، فهي ليست حياة ، وإنما هي الموت بعينه . وفي آذار من السنة ذاتها ابتاع تشيخوف عزبة صغيرة في قرية " "ميليخوفو ". وكان ذلك إختياراً موفقاً. فهي قريبة نسبياً من موسكو ، حيث يمكنه زيارة أصدقائه من الكتّاب والفنانين والتواصل مع الناشرين ورؤساء تحرير المجلات الادبية ، وهي في الوقت نفسه تقع في منطقة خضراء ساحرة في عمق الريف الروسي بعيداً عن صخب العاصمة ، ومكان هاديء ومثالي للتفرغ للكتابة . انتقل تشيخوف الى هذه العزبة مع أسرته المؤلفة من والديه وشقيقه الأصغر ميخائيل وشقيقته ماريا في آذار عام 1892 ، ولم يكن قد تزوج بعد . كانت العزبة مهملة وبحاجة الى ادخال تحسينات شاملة عليها، وزراعة الأشجار المثمرة واحواض الزهور فيها . واعترف تشيخوف في احدى رسائله ، انه لا يفقه شيئا في امور الزراعة . ولكن لم يمض سوى وقت قصير حتى شرع افراد اسرة تشيخوف في احياء المزرعة المهجورة . فقد تولّى والد تشيخوف بافل ايغوروفيتش تمهيد المماشي والإعتناء بالأشجار ، وبادرت ماريا بافلوفنا ، شقيقة تشيخوف الى زرع أصناف فرنسية من الخضراوات في ركن سمّتها " ركن فرنسا " . وكان تشيخوف يمضي معظم وقت فراغه في الحديقة ، وخلال السنة الأولى غرس اكثر من 240 شجرة بينها عدد كبير من اشجار التفاح وشجيرات الكرز والليلك . وكان يجد لذة حقيقية في زرع الورود ورعايتها.وقال في ما بعد مازحاً:" يبدو لي أنني لو لم أكن كاتباً ، لكنت بستانياً " . عاش أنطون تشيخوف في ميليخوفو سبعة اعوام ( 1892- 1899 ) ، حيث كتب خلالها اكثر من اربعين مؤلفاً ، منها مسرحية "النورس" وقصص "الراهب الأسود" و"العنبر رقم ستة". " البيت ذو العلية " و "الطالب " تناول فيها الحياة اليومية بسخرية لاذعة و صوّر مشاهد عائلية ،وروى حكايات ابطالها من التجار و الطلاب و الموظفين . وتعد هذه الفترة من أنضج وأخصب فترات حياته الإبداعية . وقال أنه كتب هنا أفضل أعماله . في عالم تشيخوف وصلتُ الى العزبة – التي تحولت الى متحف تشيخوف الرئيسي - بالسيارة في صباح يوم صيفي جميل في منتصف شهر أغسطس 2018 . وكان أول ما لفت نظري هو الأجواء الإحتفالية فيها . ثمة المئات من الزوار القادمين من مختلف أنحاء روسيا والعالم ، وباصات مدرسية تنقل مئات التلاميذ من الجنسين بصحبة معلميهم لزيارة المكان الذي تدور فيه أحداث العديد من قصص ومسرحيات تشيخوف ، التي تدخل في المناهج الدراسية في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي . تجولت في كافة زوايا وجنبات المتحف للتعرف على كل ما يرتبط بحياة الكاتب، وقضيت ساعات أتمعن في الجو الذي عاش وكتب فيه تشيخوف أعماله الرائعة. يضم المتحف أكثر من 20 ألف قطعة أثرية جمعت من الأدوات والأشياء التي كانت تحيط بالكاتب ، بينها لوحات الفنانين من أصدقائه، وصور التقطت له ولأفراد أسرته ، وسريره ومكتبه ، ورسائله ومخطوطاته ، ومعطفه ونظارته ، والطبعات الأولى لكتبه ، والمجلات الروسية القديمة الصادرة في موسكو وبتروغراد، التي نشرت قصصه ومسرحياته . وضمن مكتبته المنزلية - التي تعكس اهتماماته الأدبية والفلسفية والتأريخية –حوالي 400 كتاب نادر من القرن الثامن عشر . يحافظ المكان على كل لحظة من تاريخ حياة الكاتب في ميليخوفو ويوفر للزائر الفرصة لكي يعيش في الجو نفسه الذي عاش فيه تشيخوف في نهاية القرن قبل الماضي . وقد أحسست به قريباً مني أكثر من أي وقت آخر. بضم المتحف عدة بنايات اكبرها المبنى الرئيسي -الذي كان يقيم فيه تشيخوف مع افراد اسرته ويحتوي على الجزء الأكبر من الأشياء التي تخصهم . كانت ماريا ، شقيقة تشيخوف ، معلمة وفنانة تشكيلية بارعة وما يزال العديد من لوحاتها معلقة على جدران غرفتها .وتدور في كواليس المتحف حكايات عن علاقة حب بينها وبين الكاتب ايفان بونين ، وعندما تقدم الأخير لخطبتها ، سألت شقيقها انطون عن رأيه في بونين وهل تتزوجه أم لا ؟ فقال لها قرري ذلك بنفسك . وكان أن رفضت ماريا الزواج من بونين . في قصة " ابريق القهوة الثاني " التي ترجمناها عن الروسية ونشرت العام الماضي يتحدث بونين عن الفنانة ماريا ويقول بأنها لم تكن فنانة موهوبة . ويبدو ان ماريا تركت ندبة لا يندمل في قلب بونين . أما ميخائيل ، شقيق تشيخوف الأصغر ، فإن مذكراته عن شقيقه العظيم ، أصبحت مصدراً مهما لدراسة حياة تشيخوف عموما وعن فترة ميليخوفو خصوصاً . هنا استقبل الكاتب الأصدقاء القادمين من موسكو. وكان سعيدا دائما لرؤية الضيوف ، وكتب في احدى رسائله : " ان كل مثقف يمر بالقرب من عزبتي يرى من الضروري أن يزورني " . وتحت نافذة المنزل شرفة رحبة كان يفضل شرب الشاي فيها مع ضيوفه . ولكن تدفق الزوار على عزبته كان يشغله عن التفرغ لعمله الإبداعي . وفي عام 1894 بنى بيتا صغيرا منفصلا يحتوي على غرفتين صغيرتين : مكتبه وغرفة نومه . وتوجد لوحة معدنية بقرب باب المبنى تفيد بان تشيخوف كتب هنا مسرحيته الشهيرة " النورس " . وتوجد في العزبة بناية كان يستقبل فيها مرضاه ، ويقدم الأدوية اللازمة لهم مجاناً وكان يضطراحياناً لقطع عشرات الكيلومترات للوصول الى مريض في حالة حرجة يإحدى القرى . وثمة بناية أخرى، يقول عنها المرشدون أنها المدرسة التي أنشأها تشيخوف لأطفال الفلاحين وتوفير كل مستلزمات الدراسة فيها على حسابه الخاص . أغلب الظن أن تشيخوف – كما قال أحد زملائه الأطباء – قد أصيب بمرض التدرن منذ شبابه . ولم يتم التأكد من ذلك الا في عام 1897 ، عندما تردى صحته كثيرا . وكان نيكولاي تشيخوف احد أشقاء الكاتب قد توفى بهذا المرض قبل ذلك بعدة سنوات . وحين تفاقم مرض تشيخوف عام 1899 ، أدرك - وهو الطبيب المتمرس -ضرورة الإنتقال الى مكان لطيف المناخ ، فباع العزبة وقلبه يعتصر ألماً ،، لأنه كان يحب الإقامة في (ميليخوفو) ، فاختار مصيف ( يالطا ) الساحلية الجميلة في شبه جزيرة القرم ، وابتنى فيه منزلا اطلق عليه أصدقاؤه إسم ( البيت الأبيض ) . انتقلت العزبة بعد ذلك من يد إلى يد. وانهار المنزل الرئيسي فيها وتفكك بالكامل ، وظلت العزبة مهملة الى عام 1940 ، حين قررت الحكومة المحلية إنشاء متحف تشيخوف في ميليخوفو . والروس يعتبرون هذا التأريخ عام تأسيس المتحف ، رغم أن العمل الفعلي لم يبدأ في إنشاء المتحف إلا في 29 حزيران عام 1950 ، حيث تم الشروع باعادة بناء منزل تشيخوف وأسرته ، كنسخة من المنزل الأصلي ، ولم تنته أعمال الترميم والإصلاح في ارجاء العزبة الا مع حلول الذكرى المئوية لميلاد الكاتب في 29 يناير عام 1960 . في عام 2006 تم افتتاح مسرح " ستوديو تشيخوف " وقد اطلعت على ريبورتوار (برنامج ) المسرح ورأيت ان المسرح يقدم عروضاً مستمدة من قصص تشيخوف : " السيدة " و" الدب" , "المرضى النفسيين " وغيرها . والى جانب ذلك ثمة مدرسة تشيخوف المسرحية ، حيث يقوم ممثلون ومخرجون مشهورون بالإشراف على " ورشة الإبداع المسرحي "لطلاب المعاهد المسرحية. ومنذ عام 1982 يقام هنا مهرجان مسرحي دولي يحمل اسم " ربيع ميلوخوفو " .