محاولة معرفية لفهم أسباب تعثر الربيع العربي طالب باحث/ [email protected] إن مما لا يقبل الشك أن التحولات السياسية التي عاش في خضمها العالم العربي خلال سنوات "2011-2012-2013" لا تعد طفرة سياسية في عالم الثورات العالمية، فبمجرد القيام بمسح كرونولوجي للقرن التارخي السابق سنجد أمثلة شبيهة لما حدث منذ ثلاثة سنوات في الوطن العربي. فقد عرفت معظم الأقطار العربية حركات احتجاجية كثيرة كانت تارة ضد المستعمر وتارة ضد النظام السياسي القائم وتارة أخرى ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وأيضا السياسية، وكذلك عرفت انقلابات عسكرية وتحولات سياسية مهمة منذ مطلع القرن 20، وحدث على إثرها ضجات لا تقل صخبا عن هذا الضجيج الذي نعيشه في الآونة الأخيرة. لكنها وبلا شك أيضا تعد حركة نوعية في الساحة السياسية، حيث جعلت الشارع العربي يعيش سنتين من الانتشاء بحلم النهوض والالتحاق بركب البلدان المتقدمة، والذي طرق أبواب هذه الأقطار دون سابق إعلان ثم رحل بعد ذلك بسرعة فجائية لا تقل عن السرعة التي جاء إثرها أول الأمر. ومن خلال هذه المعطيات توجب علينا أن نقف حيال هذه التحولات وقفة منهجية لإيضاح سياقها وخصوصياتها ولكشف العوامل التي أدت إلى بزوغها ثم محاولة فهم تعثرها وانعكاس مسارها. 1- نظرات في دلالات مصطلح الحراك الإجتماعي: الحراك الإجتماعي (la mobilité sociale): يتكون المصطلح من كلمتي "حراك وإجتماعي" وتدل الكلمة الأولى على الحركة، بمعنى حدوث سلسلة أفعال تطفوا إلى السطح فتسير مادة متداولة قابلة للقياس والدراسة، وسلسة الأفعال هذه يكون لها استمرارية في الزمن وتطور في الجوهر واللب ونمو في الكم. أما الكلمة الثانية "إجتماعي" فيدل على أمرين إثنين، الأول هو أن هذا الحراك له عمق في المجتمع بمعنى أنه سلسلة أفعال أفرزتها بنيات المجتمع وهي النظم المترابطة والمتداخلة والمتكاملة بنائياً ووظيفياً، بنائيا من حيث مركب الشعور الجمعي لمجتمع معين أي "المدركات الجماعية لمجتمع معين"، ووظيفيا بمعنى مجموع سلوكيات المجتمع، فأي تغير يحدث في مجتمع لا بد وأن يؤدي إلى ظهور سلسلة من التغيرات الفرعية التى تصيب معظم جوانب الحياة بدرجات متفاوتة، ومعناه جملة التحولات التي تحدث خلال فترة زمنية محددة في النظم والأنساق والأجهزة الاجتماعية، سواء كان ذلك في البناء أو الوظيفة. والدلالة الثانية لمصطلح اجتماعي هي أن لسلسلة الأفعال تلك عمق اجتماعي، أي انطلقت ابتداء من أفراد المجتمع ككل، وعكسه طائفي أو فئوي بمعنى أحدثته فئة من فئات المجتمع. أي هو الانتقال الأفقي ما بين أجزاء المجتمع الجغرافية، والانتقال العامودي على السلم الاجتماعي، ما بين الوظائف والشرائح الاجتماعية، دون وجود جدران وأسقف مانعة. ويعتبر كل من (جيرث ) و( ميلز ) ان الحراك الاجتماعي هو: التحول الذى يطرأ على الأدوار الاجتماعية التي يقوم بها الافراد، وهو كل ما يطرأ على النظم الاجتماعية، وقواعد الضبط الاجتماعي التي يتضمنها البناء الاجتماعي في مدة معينة من الزمن . ويذهب جنزبرج الى أن الحراك الاجتماعي هو: كل تغير يطرأ على البناء الاجتماعي في الكل والجزء، وفي شكل النظام الاجتماعي، ولهذا فان الأفراد يمارسون أدواراً اجتماعية مختلفة عن تلك التي كانوا يمارسونها خلال حقبة زمنية سابقة للحراك. أي أننا إذا حاولنا تحليل مجتمع في ضوء بنائه القائم، وجب ان ننظر اليه من خلال لحظة معينة من الزمن، أي نلاحظ اختلاف التفاعل الاجتماعي الذى حدث له . ويشير عاطف غيث الى أن الحراك الاجتماعي هو مجموع التغيرات التي تحدث في التنظيم الاجتماعي، أي في بناء المجتمع ووظائف هذا البناء المتعددة والمختلفة . ويرى ان هذا الحراك الاجتماعي هو مجموع تغيرات اجتماعية لها صور شتى: التغير فى القيم؛ التغير في النظام الاجتماعي؛ التغير فى مراكز الاشخاص… وفي ضوء هذه التعريفات السابقة يمكن أن نعرف الحراك الاجتماعي تعريفا جامعا ملخصا فنقول بأن الحراك الاجتماعي هو كل تحول يحدث فى البناء الاجتماعي والمراكز والأدوار الاجتماعية، وفي النظم والأنساق والأجهزة الاجتماعية خلال فترة معينة من الزمن. وهذا عينه تعريف جي روشي الذي يقول أن الحراك الاجتماعي يعني كل تحول في البناء الاجتماعي يلاحظ في الزمن، ولا يكون مؤقتاً سريع الزوال لدى فئات واسعة من المجتمع ويغير مسار حياتها . فالحراك الاجتماعي عند ( جى روشى ) له صفات دالة عليه وهي : 1- أنه ظاهرة عامة توجد عند افراد عديدين تؤثر في أسلوب حياتهم وأفكارهم . 2- يؤثر في هيكل النظام الاجتماعي . 3- يبدأ بفترة زمنية وينتهى بفترة زمنية ، يمكن من خلاله مقارنة الحالة الماضية بالحالة الراهنة ، ويمكن الوقوف عبره على مدى التغير . 4- يتصف الحراك الاجتماعي بالديمومة والاستمرارية ، وذلك من اجل ادراك التغير والوقوف على أبعاده، أما الحراك الذى ينتهي بسرعة يصعب فهمه، فلا يتضح الحراك إلا من خلال ديمومته . 2- وقفات في تحديد ماهية ما عرفه الشارع العربي سنة 2011: انطلق شرارة الثورة في تونس لتطيح برأس النظام التونسي زين العابدين بنعلي وتعطي شارة انطلاق حمى الثورة في باقي أقطار العالم العربي، فانطلقت الاحتجاجات في مصر فأسقطت رأس السدة هناك وكذلك في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين والمغرب والأرض لكن على نحو مختلف عن ذاك الذي وقع في كل من تونس ومصر. وعلى إثر ما وقع برزت تحليلات تحاول تفسير ماهية وعاومل وأسباب وسيرورات تلك الاحتجاجات التي اجتاحت المنطقة العربية، وقد شكل اندلاعها مفاجأة للمحللين والباحثين الغربيين وجزء من المثقفين في العالم العربي، بحيث كانوا يتصورون المجتمعات العربية "راكدة" و"عصية على التغيير" بسبب من ضعف، بل من غياب، إحساس شعوبها بالحاجة إلى الديموقراطية، وما تنطوي عليه من مبادئ ومعايير وآليات خاصة بالتمثيل السياسي والرقابة والمحاسبة؛ أي أنها عدت مجتمعات "اسثنائية"، تعهدها عسف سلطة استبدادية على مدى قرون. كما شكل انحسارها وتراجعها وانعاكس طريقها بعد ذلك صدمة لمجموعة من الكتاب والمحللين الذين كانوا يرون فيها مشعل النهضة ونقطة انطلاق البناء الحضاري للأمة العربية. غير أنه الأن يقف الجميع محللون وفاعلون سياسيون عاجزون إزاء تحليل الأمر بشكل حاسم، وأظن أن السبب في ذلك يعود إلى عدم تحديد طبيعة ما عرفه العالم العربي سنة 2011. فهل ما عرفه الأخير من احتجاجات منذ سنة 2011 وما عقبها من اسقاط لأنظمة سياسية استبدادية يعتبر حراكا اجتماعيا أم هو شيء أخر من قبيل ما يمكن اعتبره أحداث سياسية عابرة؟ لا يمكن تحديد طبيعة هذا الحراك وماهيته وتطوراته إلا من خلال التوسل بأسلوب منهجي نقارب هذه الأحداث من خلال، وعليه اخترنا اسقاط معايير الحراك الاجتماعي التي حددناها في مدخل هذا المقال على أحداث ومكونات ما وقع في سنة 2011. إن أي حراك إجتماعي كما سبق التحديد في مدخل هذا المقال لابد له أن يختص بأربع خصائص جوهرية، تتمثل في كونه له عمق اجتماعي وسند جماهيري ؛ له نتائج جوهرية ملموسة على أرض الواقع؛ أن يكون ممعلما في الزمن؛ وأن يتصف بالاستمرارية، فإلى أي مدى يشتمل ما سمي بالربيع العربي على خصائص الحراك الاجتماعي؟ 2.1- الحراك العربي من خلال فاعليه ونتائجه على النظام الاجتماعي : تجدر بنا الإشارة في هذا الباب أولا إلى أن علماء علم الاجتماع يميزون بين الحدث الاجتماعي والتغيير الاجتماعي، فيعتبون الأول محدود في الزمن ومحدود في الأثر فهو لا يمكن أن يؤثر إلا بشكل مقدر في حياة المجتمع، فالانتخابات والاحتجاجات والانقلابات وغيرها تعتبر أحداثا اجتماعية، إلا أنها على أهميتها لا يجب أن نحملها فوق ما تطيق، إذ لا ترقى إلى درجة التغيير الاجتماعي وإن كانت تراكماتها بحسب كل واحدة تساهم بشكل أو بآخر في هذا التغيير الاجتماعي… فالتغيير الاجتماعي الحق هو الذي يستعيض بتوازن اجتماعي ما توازنا اجتماعيا آخر. كما أن التغيير الفاعل هو التغيير الذي نجد صداه في العقل الجمعي المجتمعي، فنجد له أثرا على ثقافة المجتمع وفكره ومستوى نضجه. 2.2- الحراك العربي بين لحظتين " ما قبل الربيع وما بعد الربيع" : قد يكون الربيع العربي ممعلما في الزمن لكن هل كانت سنتين كافية لتأتي على ثقافة الاستبداد التي ترسخت في الذهن العربي عبر قرون من الزمن؟ طبعا أي تغيير لابد له أن يكون له امتداد في الزماني، وكل الثورات العالمية بشتى أنواعها احتاجت الى وقت طويل من أجل تغيير العقول لتستوعب التغيير الفعلي الذي يجب أن نرى صداه في الواقع. فالثورة الفرنسية احتاجت إلى قرنين لترسخ ثقافة الأنوار في الكوادر وكذلك التغيير الذي وقع في المملكة المتحدة وروسيا وكل التغييرات الاجتماعية الحقيقية التي نرى ثمارها اليوم في الواقع. لكن الربيع العربي كان هبة ريح وحدث سريعا سرعان ما انطفئ نوره وعادة المجتمعات لتعانق الاستبداد من جديد، فكل ما وقع هو تغيير من شكل الاستبداد أما اسقاطه وتعويضه فلم يتم بعد. 2.3- الحراك العربي وعمقه الاجتماعي: مهما بلغ حجم المليونيات الاحتجاجية التي خرجت للمطالبة بالتغيير فلا أن نعتبر ذلك عمقا اجتماعيا، فالدراسات التي رصدت واقع الاحتجاجات العربية تؤكد أن المليونيات الاحتجاجية لم تكن ذات عمقا اجتماعيا وذلك للأسباب التالية: – كون تلك المليونيات لا تمثل إلا نسبة بسيطة من الشعوب العربية. – كون جل من خرج في هاته المليونيات هم جمهور المنتمون إلى أحزاب وحركات اجتماعية، فمن خرج في مصر اغلبهم منتمون لجماعة الإخوان المسلمون، ومن خرج في البحرين ينتمون للطائفة الشيعية؛ وكذلك من خرج في المغرب سنة 2011 جلهم ينتمون إلى جماعة العدل والإحسان وبعض الأحزاب اليسارية الصغيرة. – أن الحراك الذي قادته هذه الأحزاب والجماعات السياسية لم يتم تطعيمه للشعب وهذا ما يفسر ارتداد الشعوب عند أول انقلاب على مكتسبات ما وقع في 2011. 2.4- ما بعد الحراك العربي : ليكون الحراك اجتماعيا يجب ان يتحقق شرط الاستمرار، أي الاستمرار في تسلسل التغييرات الجوهرية في البنى الاجتماعية، فهل لازال الحراك العربي مستمرا في تغييره؟ لا يخفى على أحد أن الحراك العربي توقف بعد توقفت الاحتجاجات ونحن نعيش اليوم ردة على تلك الشعارات التي رفعت خلاله، فمصر الثورة ليست هي الان مصر الانقلاب، وما تعيشه تونس من تراجع هو الاخر ينم على ان الحراك قد توقف ، وقس على ذلك في باقي الأقطار التي عرفت الاحتجاجات سنة 2011. يمكن الخروج من خلال هذه الاسقاطات أن الشارع العربي لم يعرف حراكا اجتماعيا وانما يمكن القول ان جملة ما حدث هي احداث اجتماعية او حراك سياسي، شكل في لحظة من اللحظات حلم جميلا للنهوض والقيام لكن سرعان ما تلاشى ثم استفاق الشعب على هول الصدمة !