من خلال استقراء القضايا التي وردت في الخطاب الملكي الموجه إلى القمة 29 لمنظمة الاتحاد الإفريقي، يتبين أن جلالة الملك محمد السادس يتبنى بوضوح المقاربة الجيوستراتيجية لقضايا إفريقيا والأفارقة، على عكس من يرى فوق أرنبة أنفه، لأن القارة اليوم بحاجة لمن يفكر في مستقبلها لا بمن يعيش على أوهام الماضي ومآسي الحاضر ف"المغرب يريد أن يساهم في إقلاع إفريقيا جديدة: إفريقيا قوية وجريئة، تدافع عن مصالحها؛ وإفريقيا مؤثرة على الساحة الأممية". وفي كل الجولات الملكية التي قادت جلالته إلى ربوع القارة السمراء كان يركز على مستقبل إفريقيا، رافعا شعار "كفى من انتهاك خيرات هذه القارة" وداعيا إلى أن يكون مصيرها بيد أبنائها، من أجل بناء جديد ومتجدد كعنوان لقارة تقف فوق كنوز الأرض لكن يستمتع بها غيرها، موجها خطابا واضحا للغرب بأن دول وشعوب هذه المجموعة لم تعد تستحمل استغلالها.
مصير إفريقيا هو الذي يتحكم في الرؤية الملكية لإفريقيا، قال جلالته في خطابه المذكور "إن إفريقيا اليوم توجد في مفترق الطرق، ويجب علينا أن نختار أنجع السبل الكفيلة بالدفع بها إلى الأمام. ففي هذه الآونة، تتزايد الرهانات التي تواجهها قارتنا، كتعدد الفاعلين غير الحكوميين، مما يتسبب في خلق عدم وضوح الرؤية، وتهديدات الإرهاب العابر للحدود، والتطرف العنيف، إضافة إلى الآثار الناجمة عن الاحتباس الحراري. فأمام هذه التهديدات الجديدة المحدقة بقارتنا، لا بد للاتحاد الإفريقي من مباشرة تطوره، حتى يتمكن من إيجاد أجوبة مناسبة ومجدية".
المقاربة الجيوستراتيجية هي المقاربة المتعددة الأوجه، التي تنظر للمستقبل من خلال معطيات الواقع، خصوصا وأن المستقبل اليوم أصبح من الصعب التحكم فيه، مما يطرح العديد من التحديات على قادة القارة وأبنائها، ناهيك عن تداخل الكثير من العوامل في هذه التهديدات، فقد يلتقي الإرهاب بالجريمة المنظمة، ويلتقي تجار السلاح بالتنظيمات التكفيرية ويساهم الاحتباس الحراري في الهجرات الكثيفة مع ما ينتج عنها من تحولات في الجغرافية والسياسة.
خطاب علمي وواضح. يقول جلالة الملك "لهذه الغاية، نرى أنه من الأساسي أن تحدد الدول الإفريقية أهدافا واقعية وعملية، تقوم على الأولويات الحقيقية للقارة. فإفريقيا لم تعد في حاجة إلى الشعارات الإيديولوجية، وإنما تحتاج إلى العمل الملموس والحازم، في ميادين السلم والأمن والتنمية البشرية".
يريد جلالته أن يقول للأفارقة إن العصر عصر علم وليس عصر الإديولوجيات التعبوية التي كانت ربما صالحة خلال حركات التحرر الإفريقي التي قادتها أجيال سابقة، ولكن اليوم نحن في حاجة إلى برامج واقعية تتطلع إلى المستقبل لكن من خلال ما يختزنه الواقع من معطيات كثيرة، لا يمكن استبعاد أي واحد منها.
وأصر جلالته على أن يكون الاتحاد الإفريقي هو الأداة الوظيفية لتحقيق طموحات الجغرافية السياسية للقارة "إن الاتحاد الإفريقي اليوم مطالب بأن يشكل آلية في مستوى رهانات قارتنا. كما يجب عليه أن يواكب تحديات المرحلة. فتقدم إفريقيا يمر عبر إعادة هيكلة مؤسساتها القارية، بما يضمن الاستجابة الكاملة والضرورية للتحديات التي يتعين رفعها". يعني إن القارة لم تعد في حاجة إلى منظمة شكلية تجتمع كل سنة أو سنتين وتنتخب هياكل لكن بدون مضمون فعلي وواقعي يُمكن من الدفاع عن مصالح القارة تجاه العالم، الذي تحكمه اليوم المصالح الكبرى للدول والتجمعات.
خطاب جلالة الملك كان مبنيا على معطيات دون لا يمكن الجواب عن الإشكالات المطروحة "إن انتهاج سياسة إرادية موجهة نحو الشباب، من شأنه تركيز الطاقات على التنمية. فمستقبل إفريقيا يبقى رهينا بشبابه، إذ أن ما يقارب 600 مليون إفريقي وإفريقية من الشباب. كما يرتقب وصول عدد الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 سنة، إلى 400 مليون شخص في أفق 2050". الرؤية الملكية تنبني على الاهتمام بالشباب تعليما وتكوينا وتوجيها وخيارات وتشغيلا، وإلا ستصبح القارة قنبلة موقوتة قاتلة.
يقول جلالة الملك "إن إفريقيا الجديدة ستستثمر أفضل ما لديها من إمكانيات لأنها تزخر بخيرات وافرة. وإن المغرب لعازم على المشاركة في إقلاع إفريقيا الجديدة. فإفريقيا مدعوة لمواجهة مستقبلها بكل حزم معتمدة بالأساس على إمكانياتها الذاتية".