(1 - 4 ) كان رجل وديع هادئ وطيب الطباع يعيش في قرية صغيرة، يرعى أسرته ويربي أبناءه على القيم الراقية والأخلاق الحميدة، وقد حدث في حالة غفلة أو سهو أن فقد ابنه الأصغر الذي ضل عنهم الطريق في بعض دروب القرية فالتقطه نفر من الصعاليك ثم عبروا به إلى القرية الغربية وأودعوه لدى إحدى الأسر نظير مبلغ من المال، ولم تكن سن الطفل الصغير تسمح له سوى بان يحتفظ باسمه بالكاد، وقد تم تربيته في القرية الغربية على قيم ومبادئ وأخلاق مغايرة تماما لما كان يربي عليها أبوه أخوته، فما تربى عليه من ثقافة في القرية الغربية كان مضادا ومعاديا لما يلقنه الأبناء في القرية الشرقية، ومرت السنون وأصبح الطفل الصغير شابا قويا عندما حدث نزاع عنيف بين القريتين، واشترك هذا الشاب في قيادة الهجوم على قريته الأصلية وفي صدارتها أبوه وإخوته الذين لم يكن يعلم عنهم شيئا.. لقد أصبح هذا الشاب من وجهة نظر القرية الشرقية عدوا بينما اعتبره أهل القرية التي تربى فيها حاميا ومخلصا.. فهل ترى أن هذا الشاب في الحقيقة هو خائن لقريته الشرقية وعميل للقرية الغربية التي نشأ فيها؟ أم تراه انعكاسا طبيعيا لما تربى عليه من قيم وأفكار ومبادئ وممثلا جيدا لثقافة المجتمع الذي نشأ فيه؟ إن إجابتك على هذا السؤال تمثل مفتاح قضية الشعب والنخبة، فمنذ نهايات القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين كانت أغلب دولنا العربية والإسلامية ترزح تحت نير الاحتلال الأجنبي، وقد كان لهذا الاحتلال العسكري أهدافا اقتصادية واجتماعية وسياسية، وكان على هذا الاحتلال أن يحول شعوب هذه الدول إلى رعايا تابعين لدوله بإحلال هويته وثقافته فيها وطمس هوية وثقافة أصحاب البلاد الأصليين، وهكذا يكون قد نجح في فرض واقع دائم يربط الشرق بالغرب كتابع مستديم، كانت هذه الغاية باهظة الأعباء والتكاليف فلجأ الغرب المستعمر إلى خطة بديلة أقل كلفة، فبينما كان من المستحيل تغيير ثقافة الشعب كله، فإن اختيار عدد من الشباب النابهين ذوي النبوغ العقلي والطموح العلمي والمعرفي من هذا الشعب وتبنيهم في التعليم والمعرفة وابتعاثهم إلى دولة الاحتلال ليتشربوا ثقافة مجتمعها الأصلي ويعتنقوا مبادئها وأفكارها في التصور والسياسة والفكر والاجتماع والاقتصاد، ثم عودتهم إلى بلادهم وهم يحملون أعلى المراتب العلمية وما يصاحب ذلك من دعاية لما نبغوا فيه ووصلوا إليه، وهكذا تم صنع نخبة واعدة لا يمكن اتهامها بالعمالة للمحتل، أو الخيانة للوطن، فمن هؤلاء من تربى فعلا على قيم الحرية والمطالبة بالاستقلال والمساواة مع المحتل، لكنه كان يفعل ذلك منطلقا من قيم ومبادئ وثقافة وفكر القرية الغربية التي تربى ونشأ وترعرع فيها، كان بعضهم ويمكننا أن نقول اغلبهم أيضا وطنيا ومستقلا، لكنه لم يكن ابن بيئته التي أنجبته وإنما انعكاسا لثقافة البيئة التي تربى فيها، وهنا حدثت الهوة بين النخبة المتصدرة للفكر والاجتماع والسياسة والاقتصاد وبين الشعب، وعندما اضطر الاحتلال الأجنبي إلى الانسحاب العسكري تحت ضربات المقاومة الوطنية، فإنه انسحب بهدوء وهو يؤمن أنه استطاع تأمين بقائه عن طريق سيطرة هذه النخب التي تضمن أن تظل الدول المستقلة حديثا مجرد امتداد له في شؤون الحياة. ولم تكن قضية التوريث التي شاعت أخيرا في الأوساط السياسية مستحدثة ولا قاصرة على عالم الحكم والسياسة، وإنما هي كانت الطريقة التي تتعاقب بها النخب المتسلطة على الفكر والثقافة والتوجيه في عالمنا، وكان التوريث الفكري والثقافي النخبوي أكثر ذكاء وأبعد نظرا وأعمق أثرا من فكرة التوريث السياسي، فلم تكن النخب الفكرية تشترط التوريث إلى أبنائها من أصلابها، وإنما إلى أبناء أفكارها وثقافتها، مع إتباع نفس أسلوب الاحتلال في انتخاب النابهين والطموحين، ودعمهم وتبنيهم ليكونوا امتدادا مستمرا لفكر النخبة الذي ظل منفصلا عن الشعب، ولقد ساهم في فرض تلك السيطرة أن نظم الحكم الاستبدادية التي أحاطت نفسها بجيش من الأمن لحمايتها، كانت تلجأ إلى دعم وتأييد وصناعة نوع من النخبة يمكن اعتباره ملأ وبطانة وسياج يحمي النظم المستبدة من ثورات الشعوب، وكلما انفتحت آفاق الفضاء الإعلامي كانت تتوسع تلك القاعدة في الاختيار مع التركيز على أصحاب ثقافات وأفكار تربت إما في أحضان النظام، أو في أحضان ثقافة غربية وغريبة على الشعب وإن كانت تقف على خط المعارضة السياسية مع النظام القائم وربما قاومت انتشار وتغلغل الفساد، أو حاولت العمل على إصلاحه، وربما اختلفت مع النظام القائم على كل شيء ولكنها ظلت مشتركة معه على مبدأ واحد هو ( إقصاء الهوية الإسلامية للشعب عن الحياة العامة ).. شخصيا لا يمكنني أن أصف هذه النخب في مجموعها بالعمالة والتآمر وغيرها من التهم المعلبة، وإنما أنا على يقين من أن موقفها الثابت من رفض الهوية الطبيعية للشعب ناتج عن ميراث طويل من التربية على ثقافة مختلفة عن ثقافة الشعب وحملات التخويف الطويلة والمستميتة من المنهج الإسلامي، أضف إلى ذلك الصورة المسيئة التي قدمت بها بعض الجماعات الإسلامية المسلحة الدعوة إلى الالتزام الإسلامي باعتبارها دعوة تقوم على العنف والإكراه، بالإضافة إلى الجهود المستميتة التي فرضها النظام لمنع وكبت إعلام الحركة الإسلامية المعتدلة من الظهور والتأثير في الناس، مع قصور حقيقي لدى الحركة الإسلامية في مجال الفكر والثقافة والإعلام حيث جعلت للمواجهة السياسية الأولية المطلقة بينما همشت إلى حد كبير قضايا الإعلام والثقافة والفن. (2 - 4 ) صناعة النخبة في عهد مبارك لقد كنت شاهد عيان على عملية صناعة النخب الشبابية في أواخر الثمانينات من القرن الفائت، حيث أتيحت لي فرصة (اختراق) أحد المعسكرات الطلابية بجامعتي جامعة الإسكندرية، كان معسكرا طلابيا صيفيا، وكان مقره في المدينة الجامعية، وكان يتم تسجيل الطلاب فيه عن طريق ترشيح واختيار الحرس الجامعي وأمن الدولة وإدارات رعاية الشباب بالكليات، وكان يستثنى منه استثناء حازما الطلاب ذوي الاتجاه الإسلامي، وكانت الجماعة الإسلامية – شباب الإخوان المسلمين – هي التي تسيطر على اتحاد طلاب الجامعة في ذلك الوقت، فبرزت فكرة هذه المعسكرات لمواجهة مد الجماعة، ومحاولة تنظيم الصفوف الطلابية لمواجهة السيطرة الاخوانية على الاتحاد بمنافسة هؤلاء الطلاب الذين يتم إعدادهم عن طريق تلك المعسكرات، وأشيع وقتها أن المشاركة في هذا النشاط الصيفي سيكون هو أساس اعتماد المشاركة في الانتخابات الطلابية للعام الجديد، وعلى هذا تم الاتفاق على الالتحاق بهذه المعسكرات لمجموعة من طلاب الجماعة الإسلامية غير المعروفين مسبقا للأمن، وكنا نتخفى بارتداء السلاسل ( والانسيال ) لتسمح لنا إدارة المعسكر بالاشتراك فيه،- ولذا قلت اختراقه بدلا من قولي المشاركة فيه - وقد استضاف المعسكر على مدار أسبوع عدد من الشخصيات الهامة لإلقاء محاضرات والإجابة على الأسئلة في الفترة الثقافية اليومية، فحضره وزير الثقافة فاروق حسني، ووزير الداخلية زكي بدر، ووزير الأوقاف المحجوب ومفتي الجمهورية السيد طنطاوي ومن الإعلام موسى صبري، وهكذا.. مازلت أتذكر مشاهد من هذا المعسكر، ونوعية الشباب الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة فيه، بل والألفاظ النابية التي كانت تنساب على لسان احد المشرفين وكان مدرسا مساعدا بالجامعة! ولا أنسى أنه كان يقود فريق العمل الطلابي في الهتاف والغناء في الحافلات في تنقلنا من المدينة الجامعية إلى الشاطئ والمزارات السياحية وكذلك تنظيم فرق استقبال الضيوف والترحيب بهم طالب ضخم الجسم تنطبق عليه كل أوصاف البلطجة كان اسمه وليد وكان من محافظة دمياط، وكان وليد خبرة عشر سنوات في الجامعة حيث مر على عدة كليات من التجارة والآداب والحقوق، وكان كلما استنفذ عدد سنوات الرسوب في إحدى الكليات في السنة الدراسية تم تحويله إلى كلية أدنى وهكذا، ولقد فوجئت بالحفاوة البالغة التي سلم عليه بها زكي بدر وزير الداخلية وهو يدخل قاعة إلقاء المحاضرة، ومعرفته إياه بالاسم، بل وإشادته به على المنصة ودعوته لباقي الطلاب أن يكونوا مثل الأخ وليد الدمياطي! في الوقت الذي دخلنا نحن باقي الطلاب القاعة مرتديين ( تي شرت) موحد تم توزيعه علينا ظهر نفس اليوم مع ( شورت ) قصير وبعد خضوعنا مع ذلك لعملية تفتيش ذاتي! ومازلت أحفظ بعض الأراجيز التي كان يتغنى بها الطلاب ونحن في الحافلات وداخل المعسكر، فكانوا يقولون مثلا: ( يا عم يا سواء انزل الترعة.. علشان نموت كلنا ونجيب مصيبة لأهلنا )!! وحدث في الأمسية الثانية من أمسيات السمر التي كانت تقام أيضا في قاعة المحاضرات والاحتفالات، وكان يطلب المشرفين من كل صاحب أو صاحبة موهبة بالتقدم لتقديم موهبته الفنية، وحدث أن أحد إخواننا من الطلاب من الفئة القليلة المندسة التي نمثلها والتي اخترقت هذا المعسكر- لم نكن نعرفه -، استفزه ما يراه من رقص وتهريج، وكان منشدا عذب الصوت، فتقدم للجنة الإشراف باعتباره صاحب موهبة ليجاري هؤلاء، وأدى نشيد رائع بعنوان ( جند محمد )، ونال النشيد إعجاب الجميع وصفق له الطلاب والطالبات، لكننا فوجئنا في صباح اليوم التالي مباشرة بإخراج ذلك الأخ من المعسكر وإنهاء عضويته بالمعسكر!! كنت طالبا جامعيا في السنوات التي تلت ذلك ثم مشرفا طلابيا، مما جعلني على تماس مع عملية اختيار وصناعة النخبة من الشباب عبر تنظيم ( حورس ) الذي ابتدعه الدكتور عبد المنعم عمارة بداية من عام 1991م وقطار الأقصر وأسوان والرحلات المختلطة وكيفية اختيار الطلاب لها عبر جامعات مصر، ثم معسكرات مجاويش فمرحلة تجفيف المنابع التي رفع رايتها الوزير حسين بهاء الدين، وغيرها من سياسات انتخاب وصناعة النخبة. عملية انتخاب وصناعة النخب شكلت دائما بالنسبة لي إستراتيجية متكاملة وواضحة أيدتها دراساتي التاريخية وقراءاتي التحليلية وتجاربي الشخصية وكوني كنت شاهد عيان لعدة سنوات على الطريقة التي يتم بها تصعيد الشباب، والذين احتكوا بمراكز الشباب وقصور الثقافة وعشائر الجوالة ومعسكرات الحزب الوطني في المحافظات وغيرها من الفعاليات التي يتم من خلالها انتخاب وتصعيد وتلميع النخب الشبابية يدركون تلك العملية ويستطيعون أن يضيفوا إلى تلك الشهادات من واقع خبراتهم الميدانية، ولذا تشكلت لدي نظرية مفادها أن هناك فجوة حقيقية كبيرة بين ثقافة الشعب، وبين ثقافة النخبة، وان الفكر المخالف الذي تطرحه هذه النخب ومخاوفها الدائمة في حالة مرضية ونوع من الفوبيا من كل ما هو إسلامي على سبيل المثال، ليس بالضرورة ناتجا من عمالة أجنبية، ولا من موالاة وتجنيد من قبل مباحث أمن الدولة والتي كان لها دورا لا شك فيه في عملية انتخاب الشباب، واستبعاد أي من ذوي الميول الإسلامية ليس فقط من منصات التأثير عبر الأدب والفكر والإبداع، بل والحرمان من التعيين في الجامعات، ومن ثم في المدارس على خلفية الميول الإسلامية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة عمالة وتدجين كل النخب الحالية، فمنها ما هو صريح المعارضة لنظام الحكم الاستبدادي، ولكن تأتي الفجوة بينه وبين ثقافة الشعب كونه تلقى ثقافة أخرى مغايرة. ( 3 - 4 ) وعي الشعب ووعي النخبة! وفق نظرية صناعة النخب التي اعتمدها الاحتلال الأجنبي للحفاظ على نفوذه في أوطاننا بعد رحيله العسكري( والذي عرف زمنا باسم الغزو الثقافي والفكري )، ونظرية التوريث الفكري والأيديولوجي الذي اعتمدتها تلك النخب في عملية انتخاب نخب متواصلة تظل متصدرة المشهد العام، حدثت فجوة حقيقية بين وعي الشعب وثقافته وبين وعي النخب وثقافتها، وحدث ما هو أخطر من ذلك أيضا بإقصاء تلك النخب كل خطاب ثقافي وفكري مخالف لما اعتمدته هي ذاتها، فسادت أنواع من الثقافة والفكر والإبداع الأدبي والفني مخالفة ومتنافرة مع وعي الشعب، في الوقت التي يُنزع فيه مصطلح الثقافة عن كل متمسك بقيم ومبادئ الشعب الأصيلة ولو كان عالما وشاعرا وفنانا وأديبا، فيبقى مجهلا مغمورا في عالم النخبة رغم أن إنتاجه الثقافي يؤهله أن يتبوأ منصات التتويج والقيادة! ولقد آن الأوان لمراجعة هذا الواقع الثقافي النخبوي برمته وفق ثلاث حقائق جديدة. 1 – نخبة جديدة وإعلام جديد.. أبرزت ثورة 25 يناير المصرية ومن قبلها ثورة الياسمين التونسية دور وتأثير الإنترنت وعالمه الافتراضي فيما عرفت هذه الثورات بثورات ( الفيس بوك ).. لقد أتاح التواصل عبر العالم الافتراضي والشبكة العنكبوتية صناعة جيل جديد من الإعلام لا يخضع لنظم صناعة الإعلام التقليدي، كما أفرز نوعا جديدا من النخبة الثقافية الشبابية لا يمكن انتخابها عبر عملية الانتخاب التي كانت تصنع عبر مؤسسات صناعة القرار وأجهزة الأمن وعبر عملية التوريث الثقافي بشكل أيديولوجي ممنهج مع إقصاء المخالفين، لقد أسقط عالم الانترنت كل هذه المعايير فتشكلت نخب لا يمكن ممارسة عملية الاحتواء والانتخاب والاستقصاء عليها، وبالتالي أمكن إنتاج إعلام الهدف منه التواصل وتلاقي الرؤى والأفكار وتنقيحها، ولقد وصل نجاح هذا النوع من الإعلام أن اجتذب إليه المؤسسات الإعلامية التقليدية، فأصبحت كل جريدة أو مؤسسة إعلامية أو قناة فضائية تسعى لإنشاء صفحتها على الفيس بوك للتواصل مع هذا الشباب الذي أصبح صانعا ومتلقيا لهذا النوع من الإعلام في نفس الوقت.. إعلام الإنترنت لم يُسقط فقط فكرة الرقابة الأمنية للدولة على المصنف الإعلامي، ولكنه أسقط البعد الأهم والأعمق واخترق عملية صناعة النخب عبر مصانعها التقليدية التي استقرت عقودا من الزمن، وأدى كل هذا الإنجاز الإعلامي والنخبوي إلى تفجير وقيادة الثورات العربية وفق مفاهيم ووعي جديد.. وهذا يفسر إلى حد كبير تقدم وعي النخبة الشبابية صناع الثورة على وعي النخب التقليدية قبل وأثناء وبعد الثورة، فبينما وقفت النخب التقليدية مصدومة تماما مما يحدث على الأرض، كان شباب النخبة الجديدة أو شباب الفيس بوك يدير ثورته بكل ثقة واقتدار. 2 – تحليل أداء النخب قبل وأثناء وبعد الثورة: ونقصد بهذه النخب كافة المتصدرين للمشهد العام لمصر من نخب سياسية تمثلها القوى التقليدية والنخب الثقافية والإعلامية، لقد كررت معظم هذه النخب مقولة واحدة قبل الثورة وهي أن مصر غير تونس، وما جرى هناك ليس ممكنا أن يحدث هنا، وعندما تزايدت وتيرة الاحتجاجات قبيل 25 يناير قيل حتى من القوى السياسية المعارضة أنه لا مستقبل لاستنساخ الثورة التونسية، فلكل شعب خصوصياته وإبداعه في التعبير عن رفضه. ( بصرف النظر عن وجاهة هذه الرؤى إلا أنها كانت تصب في خانة الإحباط والتهوين من شأن الثورة المنتظرة ). أما أثناء الثورة فقد انقسمت النخب إلى فريق مؤيد بشكل مطلق للنظام السابق، ونخب معارضة للنظام ومؤيدة للثورة، غير أن هذا الفريق الثاني قد تم دغدغة مشاعره واحتوائه بشكل كبير على مدار أيام الثورة الثماني عشرة وعبر خطابات مبارك التي يعد فيها بإصلاحات، أو يعلن عن رغبته في استكمال فترة حكمه، ولقد رأينا أغلب النخب ليلة التنحي تعلن اكتفائها بما أعلنه الرئيس المخلوع من تفويض صلاحياته لنائبه، وطالبوا شباب الثورة بفض اعتصامهم!! أما بعد الثورة فلقد عرفت ظاهرة ( المتحولون ) التي شملت أغلب أطياف النخب المصرية من كتاب ومفكرين ورؤساء تحرير ومذيعين ومقدمي برامج، فيما انقسمت آراؤهم حول ما يجب أن يكون عليه مستقبل مصر بعد الثورة. 3 – وعي الشعب وحجم تأثير النخبة على المشهد بعد الثورة: ويتصدر المشهد هنا الاستفتاء على التعديلات الدستورية – وبعيدا تماما عن الجدل السياسي بين نعم ولا فهذا خارج موضوع دراستنا الحالية – فقد رصدنا تحالف كل فئات النخبة السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية للتصويت ب( لا ) ومع ذلك جاءت نتيجة التصويت بنسبة ( 78% ) لصالح ( نعم )، لا يمكن بحال من الأحول لأي دارس أن يعزي هذا الفارق الواضح في التصويت لتأثير جهود الإخوان وفتاوى السلفيين المؤيدة ل نعم، وإلا لكان ذلك إعلانا بتسليم الحكم لهذا التيار الذي له تلك السطوة السياسية الساحقة! لقد كان للإخوان والسلفيين جهودهم للتصويت ب ( نعم )لاشك في ذلك، لكن عمق وعي الشعب كان له القول الفصل في حسم هذا الأمر، ففي الحالة المصرية يظل الوعي الشعبي أعمق من الوعي النخبوي، ويظل هذا الشعب هو الذي يحتوي ويؤثر في التيارات الفاعلة فيه وليس العكس!! وهنا يمكننا القول: أن إرادة الشعب تلاقت مع دعوة الإسلاميين. الحدث الآخر في هذا السياق ( التحليلي ) هو فرق الاحتشاد بين جمعتي الحماية والتطهير (1-8 إبريل )، لقد غاب الإسلاميين عن المشهد الأول في ميدان التحرير بينما دعموا المشهد الثاني، وكان فرق الاحتشاد في ميدان التحرير بين نصف مليون متظاهر إلى مليون ونصف متظاهر! لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون مليون شاب هو عدد الإسلاميين في القاهرة وحدها! ولا حتى نتاج حشدهم! معنى ذلك في الواقع هو تلاقي وجهات نظر هذا الشعب الراقي مع بعض وجهات النظر التي يطرحها الإسلاميين أحيانا، أو يطرحها غيرهم في أحيان أخرى.. المهم أن تكون وجهات النظر هذه نابعة من الشعب نفسه ومن ثقافته ووعيه! هذه الفجوة بين النخبة والشعب تظل نتاجا طبيعيا للطريقة التي تم بها اختيار وتصعيد وصناعة هذه النخب المتصدرة. ( 4 – 4 ) الخلاصة والتوصيات بداية يجب التأكيد على أنه لا وصاية ولا خوف على الشعب بوعيه وثقافته العميقة، إن أغلب النخب ترصد تعاطف الشعب مع الشعارات الإسلامية باعتبار أن ذلك نوع من اللعب والتأثير على العاطفة الإسلامية للشعب، وكأن الإسلاميين يسرقون أصوات الناس عبر دغدغة مشاعرهم الدينية، والحقيقة هي عكس ذلك تماما، حيث يمكن اعتبار الشعارات الإسلامية المرفوعة إنما هي ناتجة من الفطرة المتدينة للشعب وانعكاسا له وليس العكس، الشعب إذن هو الذي يفرز الاتجاه الذي يسانده.. الخلاصة أنه ليس هناك عداوة بين الفكر والثقافة والإبداع والإعلام والفن وبين التيار الإسلامي، وإن كان هناك قصورا واضحا في تبني ودعم هؤلاء المبدعين لوضعهم على قدم المساواة مع اقرانهم المدعومين من تيارات شتى ومؤسسات أغلبها نافذ ومسيطر، أو على الأقل توفير البيئة المناسبة لهم للصمود والمواجهة، كما أن النخب في مجملها ليست متهمة بالعمالة والخيانة، وإنما هي على خلاف ثقافي حقيقي مع الشعب، لست بصدد مناقشة نوعية الثقافة التي تؤطر فكر النخبة، ولا مدى رفعتها من عدمه، إلا أنها تظل في كل الأحوال منفصلة ومتباعدة عن ثقافة الشعب بفطرته وحسه ووعيه الأصيل، ويظل الشعب عبر ممارساته الواضحة عندما تتاح له الفرصة أن يحكم على الأمور بعقل واع وحكمة بالغة، فهذا الشعب لا يمكن خداعه أو تضليله أو الحجر على أصالته، ولا سرقة فكره الأصيل وثقافته المستقرة لا من النخب التغريبية ولا من النخب الإسلامية على السواء، فالشعب أذكى واحكم من النخب وأكثر وعيا بقضاياه ومصيره، وإن المحلل لأداء الشعب في اختباري الاستفتاء على التعديل الدستوري، ثم اختبار جمعة التطهير يدرك ذلك بوضوح.. ونصيحتي الصادقة للنخب المتنفذة الآن في الإعلام والفضائيات والمتصدرة للمشهد الثقافي ( سياسة وفكرا واجتماعا ) ككل، أن تأخذ دورة تدريبية في ثقافة الشعب المصري بعد أن تنزل لمعايشته على أرض الواقع في العشوائيات والمدن والقرى والنجوع، والاحتكاك بالمواطن المصري في مسجده وكنيسته وفي مقهاه وعلى المصطبة – إن أمكن – قبل أن تسمح لنفسها بتصدر المشهد للحديث عن ثقافة ووعي شعب لا تعرف عنه إلا القشور، قارنوا مخاوفكم من التيار الإسلامي بمخاوف الشارع، وستدركون الفارق لا لأنكم ابعد نظرا ولا أعمق فكرا في الظواهر والمآلات، ولكن لأن هذا الشعب الذي يتعايش متصالحا مع ثقافته وواقعه يلتحم بممثلي هذا التيار، ويدرك بالتجربة والخبرة والمعايشة قدرته على الفرز والاختيار. كما أتقدم إلى التيار الإسلامي بمطلب واضح وصريح وهو إن كان ولابد أن يقدم نوع من التنازل السياسي – غير مبرر لي – في هذه الأوقات الحرجة كضمانة على عدم نيته على الهيمنة على المشهد السياسي، لكنه غير معذور أبدا فيما يتعلق بالمشهد الثقافي والإعلامي والنخبوي، فعلى هذا التيار أن يعمل بسرعة وعزم على إعادة الاعتبار إلى الفكر والثقافة والفن الأصيل المعبر عن روح هذا الشعب والذي ظل عقودا طويلة محاربا من النظام، ومستثنى من النخبة المتنفذة ومخذولا من الحركة الإسلامية التي عليها دعمه والانتصار له. وليس هذا بقصد احتكار المشهد الثقافي، ولا إقصاء الآخرين، ولكن ليتبوأ الأجود والأصلح بمقياس الإبداع – والإبداع وحده – مكانته المرموقة ، فما زالت الساحة الإبداعية والنخبوية في انتظار ما يعبر عن أصالة هذا الشعب. علاء سعد حسن عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية