'التجربة الإبداعية والنقدية'للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو كما يرى الباحث عز الدين نزهي. أستاذ التعليم العالي، تخصص أدب فرنسي " حاوره: البوسعيدي. تعريف الفن والتخييل الشعري، وعلاقة الصورة بالنص" قال: إن كيليطو مدرسة مغربية لن تفهم إلا في ظل التنوع الثقافي والتعدد اللغوي اللذين يمتحان من مرجعيات متنوعة. 1- بداية أستاذي الفاضل، وبعد شكر جزيل، كيليطو مفكر مغربي وعربي بمرجعيات غربية، ومحلل قارئ أين التجديد؟ شكرا، لعل ميزة كيليطو تكمن أساسا في تمكنه من اللغتين الفرنسية والعربية، وهو مكسب كبير للرجل. كما أن اشتغاله نابع من ثقافة رصينة منبعها جدية المنهج وكمال دقة المعرفة، والكاتب يروم دوما قراءة النصوص القديمة، ككتب الجاحظ: البخلاء مثلا، وكتاب كليلة ودمنة، وعالم المقامات وابن رشد و لسان العرب.. وهي كتب ذات توجه كلاسيكي.. لكن الجميل عند قراءته لهذه المؤلفات تلك الروح المرحة النقدية القارئة بعمق، والمسائلة لمنزع الكتابة ضمن سياقاتها، ومحاولة فهمها كما هي عند أصحابها. ما يجعل القارئ- خصوصا الواعي بما يقرأ- أمام تجربة نقدية وبلغة إبداعية تستحق لقب تجربة جديدة. لكن لا يعني أن كيليطو رغم ثقافته الغربية ظل سجين التكوين الفرنسي، بل إنه صافي المنبع العربي كذلك، ويتجلى ذلك مثلا في دقة اختياره لأمهات كتب التراث العربي، وحسن المساءلة واعتماد النكهة العربية الفكرية القادمة والحاضرة في نصوصه الإبداعية المعاصرة، رغم أبعادها الخيالية والتجريدية. والعمل على مقارنتها إبداعيا مع النصوص الغربية في ظل مفاهيم التناص، أو التعالق النصي بلغة سعيد يقطين. ويلتمس هذا مثلا عند كيليطو حينما يرى أن رواية دونكيشوط التي كتبت في الأدب الغربي في القرن 16م ربما تعود لأصول عربية، إذ الأمر يتعلق بمخطوط عربي تركه حامد بنجلي بالأندلس - كما يروى- فعمل سرفانطيس على ترجمته إلى الاسبانية. كما نجد كتبا غربية حاضرة الملامح في جل كتابات كيليطو الروائية. كمطولات بروست، وفلوبير.. ويظهر ذلك جليا أن- وكما يرى كيليطو دون أن يجزم- من يقرأ كتاب 'في الحب' ل Stendhal، سيجد أن هناك علاقة بينه وكتاب 'طوق الحمامة' لابن حزم الأندلسي ... و هو ما يدفعني أن أقول: إن أهمية الكاتب تكمن في التأسيس السليم لحوار الثقافات والتخييل الإبداعي، ومقاربة النصوص الكونية، دون التجريح بهذه الأعمال، أو ممارسة التعصب الفكري.. 2- هل ترون مثلا أن بعضا من أعمال كيليطو الروائية والإبداعية في حاجة أكثر إلى تأصيل نظري داخل المنظومة التربوية. إذا كان كيليطو نفسه قد صرح بقتل الكاتب حين وضعه في برنامج تعليمي، فأنا كذلك معه، لأن العمل الإبداعي أو النقدي يبقى مساحة جسدية أكثر من مدة برنامج للدراسة، أو حصص للتعلم.. كما إن مكر الزمن الدراسي حتى لو كانت ميزته تكمن في التنظيم، فإنه غالبا ما يسيء إلى المؤلَّف المدروس، مع العلم أن الأدب أكثر من أن يحد ويقيد بالزمن.. لأن حد الأدب يعني قتله، والحكم عليه بالمحدودية وزوال المنفعة.. 3- شاركت مؤخرا في ندوة دولية حول ريادة الناقد، ما موقع كيليطو ثقافيا في زمن الفايسبوك وثورة الإعلام؟. إذا كان لكل زمن رجاله وأعلامه، فعبد الفتاح أحد رجالات هذا الزمن من الناحية الفكرية، الذين يعول عليهم في التنوير العقلي والفهم الثقافي، ومن تم فالحاجة ضرورية لمساءلة العقل العربي ومساءلة الذات، بل و مساءلة التراث بغية فهمه، وتسخيره في خدمة أغراضنا وحل مشاكلنا.. ولعل ما يحدث من موجات الربيع العربي ومحن الفايسبوك ومكر الإعلام وسلطة التكنولوجيا، لفي حاجة إلى مسايرة معرفية وتجديد عقلي أساسه بالدرجة الأولى القراءة و إعادة القراءة. ونحن هنا مدعوون إلى قراءة العروي وأركون والخطيبي والجابري وكيليطو... لأن مشاريعهم الفكرية والثقافية ربما فيها ما يسائل الضمير الإنساني الجمعي، كما أن ما كتبه هؤلاء في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، يبقى بمثابة فكر عصر الأنوار، لدى فالحاجة ضرورية لفهم أفكارهم ضمن سياقاتها السليمة. فكيليطو يعمل دوما على تنوير الذات القارئة والتسلح بكل ما يمنع من عدم الوقوع في أخطاء القراءة الجاهزة، والفهم الضيق والمحدود. حيث طرح في بعض مؤلفاته،- وهذا ما أظهرناه من خلال مداخلتنا التي تمحورت حول حياة طفل مغربي بين النص والصورة، من خلال بعض أعمال الناقد الإبداعية، أن علاقة الطفل عبد الله بالصورة يمثل نوع المغربي الذي اكتشف الصورة مؤخرا بكل تجلياتها، لكن أباه وجدّه تبرما من هذا الاكتشاف. ورفضا معه المدرسة الغربية، لأنها عمل شيطاني وتفكير كافر في نظر الجد عبد المالك - تخاصم الصور-لا فائدة منه. وهو ما يمنح الجهل الذي يتخبط فيه العقل العربي بسبب محدودية بحثه، واطلاعه الضيق. وكتاب 'تخاصم الصور' و'حصان نيتشه' يعطيان صورة المغربي بين ثقافته الغربية الحديثة، وثقافته الأصيلة القديمة... ولو أن العرب قد تخلفوا منذ زمان بالنسبة لثقافة الصورة، ما يجعل كيليطو يطرح سؤالا ربما ملتبسا إلى حد ما؟ ماذا اكتشف وربح العرب عندما اخطئوا موعد التعبير التشكيلي منذ الأزمنة الأولى للأدب العربي، والاهتمام بالتصوير السينوغرافي.. وغالبا ما تكون شخوص كيليطو الروائية مستمدة من ماهية الوجود الإنساني، حيث ترمز لشخصيات تاريخية ورمزية وواقعية بشتى أفكارها المتنوعة وأحداثها المعيشية، وكأنها جزء من رواية ماضية، ومنبع لأحداث متداولة ومألوفة .. شأن ذلك مثلا في قصته القصيرة "الشاب والمرأة" التي تدور أحداثها حول علاقة عشق على إثرها وجد الشاب العاشق نفسه في حاجة إلى شراء قميص لمعشوقته، ولما قصد مكانا لبيع الملابس توهم أن دمية بلاستيكية ابتسمت له ابتسامة حب، فتعلق بها متوهما أنها أنثى حقيقية، ليأخذ نفس القميص الذي تلبسه إشهارا للمشتري. ولما عاد إلى منزله وجد في استقباله بعد فتح الباب نفس الدمية.. طبعا عالم منبعه الخيال، لكنه مليء بأكثر من عبرة.. ولو كان هذا البطل/ القارئ مثلا على بينة من أمره، لما حدث له ما حدث، وكأن الرهان،هنا، رهان غياب القراءة وما قد يسببه الجهل لصاحبه... وهي نفس الأعمال التي جسدتها كفاءات غربية من حجم رولان بارث في S/z حيث عمل من خلال تحليله ودراساته العميقة- بناء على روايات بلزاك وغيره- على تفسير واقع المجتمع الغربي. واستنطاق بناه.. كما حصل مع كيليطو منذ أن كنا طلبة عنده، ولو أن بعض أعمال الكاتب يلفها الغموض و الالتباس الفلسفي والميتافيزيقية الضاربة في أعماق الخطيئة الأولى، وأبعاد تفسير أصل الخطيئة بصفة عامة. 4-غالبا ما يقال إن الجامعة هي قاطرة للتمنية والمعرفة، لكن واقع كلية الآداب والعلوم الإنسانية اليوم خلاف ذلك؟ ما هي في نظركم بعض أسباب هذا التخلف؟ لعل أبرز متناقضات الجامعة المغربية هو ذلك ا للأدب السائد بين صفوف الناشئة والمجتمع وبعض أوساط من يعتبرون أنفسهم بالنخبة، مع العلم أن الحاجة ملحة لفهم أهمية الأدب، ودور الأديب في المجتمع، وما يلعبه من دور فعال في تنمية الملكات، وبث الإصلاح الاجتماعي والسياسي .. فالجهل بأهمية الأدب جهل مترتب عنه تخلف كبير. ونحن نلاحظ أن الأمم الناجحة هي الأمم المحترمة لتراثها، والمؤمنة بمشاريعها الفكرية، واللغوية البناءة. وكما يلاحظ الجميع محنة الطالب المغربي- رغم وجود قدرات يشهد لها بالكمال و المقبولية - مع ضيق الوقت في الوحدات النظامية، وتحويل الشواهد إلى وجبة مطبوخة قياسا وعدم التكوين العميق، وغياب صلابة البحث الأكاديمي المؤسس على شروط العلمية، ناهيك عما يحدث من إكراهات عن بعض الصراعات الضيقة داخل الجامعة المغربية من تضارب الآراء، الذي حبذ لو تحول إلى نقد بناء. أما عن تدريس الأدب فيحتاج إلى حرفية الإبداع، كما إلى حرفية النقد الجاد، والمساهم في تشكيل الوعي الطبقي، والإصلاح الاجتماعي المنشود. كما يرى لوسيان غولدمان. ومن هنا أرى أنه لا مانع من تداخل العلوم وتكاملها. فالحديث عن الرياضيات مثلا: هو حديث عن هندسة للفضاء والمكان .. أي حديث عن خيال وتخييل وتخيل كما حسم في ذلك القرطاجني- في كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء- وعمل الرياضي هو عمل تجريدي لا يتحقق إلا على مستوى العلوم الفيزيائية والطبيعية. وهنا أعطي على سبيل المثال ما قد يجسد في الفنون المعمارية، حيث الرسم والنحت والزخرف.. كلها خيالات كما في المعلمة المغربية الدينية 'مسجد الحسن الثاني'، إذ قبل أن تجسد الرسوم والفسيفساء في شكل بناية مجسمة ضمن لوحة ملموسة- هي فكرة الحسن الثاني الذي عبر عن انتظارات شعبية تروم خلق معلمة-كانت في البداية مجرد أفكار ذهنية.. كما هو الحال للأدب، قد يعبر عن الواقع في شكل رؤى خيالية تحدد فيما بعد.. وهنا أعطي مثالا بروايات Jules Verne في القرن 19م، التي تناول من خلالها غزو الفضاء أدبيا، عبر صور تخيلية ومجازية. وهو المشروع العلمي الذي تحقق إبان الثورة العلمية والتكنولوجيا.. إذن، فالأمم تتقدم بتقدم الآداب والعلوم في نفس الوقت.. وبخط متواز. وهذا ما نعمل عليه في إطار مجموعة البحث حول المتخيل والتراث بكلية الآداب ببني ملال. حيث ندرس العلاقة التكاملية بين العلوم الإنسانية والعلوم الحقة. وقد لامسنا ذلك من خلال ندوتين دولتين سنة 2008 بعنوان: L'imaginaire de L'emigration et guerre و2010 بعنوان: Imaginaire et dépassement وحتى أربط فهم الأدب بجدية التدريس بالجامعة، لابد للدولة في شخص الجامعة أن تعيد النظر في إصلاحات جوهرية، تخلص التعليم ببلادنا من هول ما يرى اليوم من تدن في المستوى، وتراجع في البحث العلمي المرتبط بالآداب والعلوم الإنسانية.. وأتمنى للجامعة نجاحا فيما تنكب حوله من إصلاحات تلامس من خلاله نظام تقييم البحث، ونظام الدكتوراه وإعادة هيكلة ما ينبغي تجاوزه .. وعلينا جميعا كأساتذة وطلبة ونخب أن ننخرط في هذا المشروع التربوي والأكاديمي الذي انخرطت فيه الوزارة الحالية.