ضمن تعليقات القراء على مقالنا السابق " الدكاترة ودورهم في التربية والتكوين" ، وردت ملاحظة عميقة لإحدى القارئات ، تفيد أن المكان الطبيعي لفئة الدكاترة هو الجامعة ، وليس مراكز التكوين ، التي بدا أن نص المقال ، في فكرته الرئيسية ، قد جعل منها المؤسسات الوحيدة التي يمكن لهذه الفئة أن تجد عبرها الحل لوضعها النشاز بوزارة التربية الوطنية. ويمكن التأكيد أن فكرة مماثلة هي ما يجب أن يؤسس للتصور الرئيسي لكل الدكاترة حول قضيتهم ، ليس من منطلق أن الجامعة هي مكانهم الطبيعي الذي يتوجب أن يجتازوا مباراة ، أو ما في قبيل ذلك ، ليلجوا إليه ، وإنما باعتباره ، ولو من منطلق نظري بحث فحسب ، حقهم القانوني والدستوري الذي لا يجب أن يحول بينهم وبينه أي حائل مهما كان. واليوم يدفع الدكاترة المشتغلون بوزارة التربية الوطنية ، وحدهم ، ثمن أخطاء السياسات التعليمية السابقة ، من خلال ما يفرض عليهم الآن من حالة الاستبقاء بالمؤسسات الثانوية للوزارة ، بل وحتى بالإعداديات !! ونتيجة للربط التحليلي بين فئة الدكاترة ، بما تمثله من رمزية علمية ، وبين دورها المفترض بمراكز التربية والتكوين ، فإنه كان يمكن توقع عدم التفات المقاربة إلى مفاد الملاحظة المذكورة. وإننا رأسا نشدد على ممالأتنا المطلقة لمضمون الفكرة المطروحة ؛ فبرأينا إذن ، أنه ليس من مكان مثل الجامعة يمكن أن تجد فيه هذه الفئة نفسها ، وأن تكون فيه أكثر عطاء ومردودية ، وأكثر إسهاما في تتنمية الوطن ، وفي تحقيق أهدافه العليا في التقدم والازدهار والحرية والديمقراطية. وسوف نعمد إلى تقديم دليل معزز على هذه الفكرة شديد الوضوح ، مادام أننا بتنا لا نعدم من يثير الشكوك حول أكثر الحقائق يقينية. وبرأيي أن عدم وجود دولة ضمن دول عالمنا في معظمها –مع استثناءات مخصوصة لا يعتد بها – تندر هذه الفئة الأعلى مستوى من خريجها ، وتكرسها لمستويات التدريس الثانوية ، لهو أقوى دليل على ما نعتقده في هذه القضية. ثم إن فئة الدكاترة ، في مجموع بلاد العالم ، هي فئئة مخصوصة من خريجي الجامعات ، خضعت لتكوين وتأطير علميين وتربويين ، بحيث تصبح مؤهلة لمهام وأشغال البحث العلمي ، وتأطير الطلبة المشتغلين به ؛ إنه سيكون إهدار ، بالغ السوء أن لا تستمر هذه الفئة في أي مجتمع من المجتمعات ، سواء في ذلك المتقدمة منها أو من تعيش حالة التخلف ، في البحث العلمي ، وفي تطويره في التخصصات والمجالات البحثية المختلفة ، بما يستجيب ويلبي حاجيات ومتطلبات القطاعات الاقتصادية خاصة ، بمؤسساتها المختلفة في الصناعة والتجارة والفلاحة والإعلام والصحة والبيئة.. وغيرها. ونعتقد أن هذا معطى لا يحتمل أي جدل في واقع الأمر. على أن هنا فكرة يجب التنبه إليها ، والتأمل طويلا في مخاطرها وعواقبها ، وهي أننا باستبقائنا لهذه الفئة بمؤسسات التعليم الثانوي – التي يفترض أن لها أطرها التربوية الخاصة بها – نكون قد حلنا بينها وبين كل فرص وشروط البحث العلمي الحقيقي والمنتج. ولنا هنا أن نتأمل مدى قسوة هذا العدد من المسؤولين – من وزراء ومن تحتهم – ممن تعاقبوا على هذا الملف ، دون أن يتحرك واحد منهم لحله ، ولو أساسا بدافع من عدل هذا الملف ومشروعيته ؛ لقد كانوا كالصخر صلادة وبرودة وموتا ، فصموا آذانهم ، وعطلوا عقولهم ، وتجاهلوا ضمائرهم ، كيلا يستمعوا لنداء الواجب فيما تمليه عليهم مسؤوليتهم تجاه مصالح الوطن العليا ومصالح هذا الشعب الجدير بكل ثقة ، وبكل تقدير وبكل عناية وإكرام. إن ثمة أسبابا حقيقية كي نخشى أن منطقا جنونيا بات يسيطر على كثير من مسؤولينا وهم يواجهون المشاكل والملفات التي تتوالى تترى. لقد غدا التجاهل والقسوة وسوء الظن والاستهانة والغموض هو ما يعتمده هؤلاء في مواجهة إلحاح الناس ومطالباتهم. ولقد باتت لدينا قناعة أننا مهما حاورنا ، ومهما وضحنا لهؤلاء المسؤولين ، ومهما حررنا من المقالات لنعرفهم بحقائق مطالبنا ومشروعيتها ، فإن كل هذا لن يعني شيئا بالنسبة لهم ؛ فإن القوم لهم بلا ريب ، منطقهم الذي يتحركون وفقه ، والذي لا ندرك كنهه فيما يبدو !! إن أحدا من دكاترة وزارة التربية الوطنية لم يكن طموحه أن يعمل بالتدريس الثانوي بهذه الوزارة ؛ ولذلك فهذا وضع استثنائي فرض على هذه الفئة سيئة الحظ ، وهي ترفضه كل الرفض ، لأنه لا يحفزها مطلقا على العمل بالحماس المفترض ، وعلى الاجتهاد وتطوير الذات ، وتعتبر أن مكانها الطبيعي هو الجامعة كما أشرنا إلى ذلك قبل. ولذلك ، فإنه مهما تحاول وزارة التربية الوطنية أن تستأثر بهذه الفئة وتجعلها جزءا منها ، فإنها ستظل غريبة عنها ، رافضة لكل أساليبها ووسائلها وإغراءاتها التي ترمي من خلالها إلى استسلامها وخضوعها للأمر الواقع ؛ وسوف لن يكون حتى النظام الأساسي المنتظر نفسه قادرا على إرغام هذه الفئة على القبول بحل لا ترضاه ؛ وهي بسبب من إيمانها العميق بحقها في تغيير الإطار ، وفي أن تواصل البحث العلمي خدمة للوطن ، سوف لن تتوقف عن نضالاتها ، وعن تصعيد هذه النضالات. إن الحقيقة الموضوعية التي لا تقبل الجدل في هذه القضية ، هي أن وضع الدكاترة بوزارة التربية الوطنية هو وضع غير طبيعي ، والدكاترة لا يتحملون أي مسؤولية عنه. إن هذا الوضع نتج ، في واقع الأمر ، عن سياسات سابقة لم تكن موفقة في التخطيط للتربية والتعليم. كما يعود إلى أن الجامعة عندنا لم تكن مرتبطة بعجلة التنمية في مناحيها المختلفة ؛ ولم يكن البحث العلمي الحقيقي ، والفاعل في التنمية ، مما تسهر عليه هذه الجامعة حقيقة ، أو تحرص الحرص الواجب لتوافر شروطه المفترضة تخطيطا وبنيات تحية. كما يمكن إضافة أن وضع بلدنا باعتباره بلدا ضمن العالم الثالث لم يكن مما يسمح بقيام نهضة تتأسس على اقتصاد وتنمية بشرية قوامهما البحث العلمي المنبثق من صميم حاجيات البلد والمراعي لثقافته ومختلف اشتراطاتها.. إنه لن يكون صعبا ، بعد وقوفنا على هذه العوامل –أو أي عوامل أخرى محتملة – أن نتبين أن الدكاترة بوزارة التربية الوطنية هم ضحية ظروف وعوامل استثنائية ، وأن وجودهم بهذه الوزارة هو وجود بالخطأ ليس إلا ؛ وعمليا ، فإن الأمر تم ، بخصوص العدد الأكبر من هؤلاء ، بأن جرى توظيفهم ، بهذه الوزارة وبغيرها ، لحل مشكل التشغيل الذي مثلته وفرضته هذه الفئة عبر احتجاجاتها التي لا تتوقف بالعاصمة الإدارية ، وبغيرها كذلك. كما أن أشكال توظيف أخرى اعتمدت لم تكن طبيعية سواء على صعيد ملابساتها أو على صعيد تعييناتها. ولذلك فإنك لن تعدم أن تجد أشكال إهدار أخرى لهذه الفئة ، ليس بوزارة التربية التي نتحدث عنها ، وإنما بوزارات أخرى ، إذ تجد دكاترة يشتغلون بوظائف ومناصب لا تمت بأدنى صلة إلى تخصصاتهم ؛ وحيث يعبر الوضع في مجمله عن صورة من الإهدار بعيدة المدى في مفارقتها. إن وجود الدكاترة بوزارة التربية الوطنية هو مؤشر على اختلال بنيوي وهيكلي تعرفه منظومتنا التعليمية ، ولن يبرره الآن أنه إنما جرى توظيف هذه الفئة بالوزارة لأنه كان هناك احتقان اجتماعي نتيجة لعدم تشغيل هؤلاء الدكاترة ؛ إن هذا وضع خطأ ولا بديل عن تصحيحه شأن أي خطأ لا يمكن استمراره. وينبغي أن لا نتجاهل أن هذا الخطأ يتصل بأكثر العناصر أساسية في رهان التنمية المنشود ، وهو البحث العلمي. إن هذه حالة إهدار لأعظم طاقة في البلد ، دامت طويلا ولا يجب أن تستمر ؛ وإلا فإن هذا الوضع سيزداد تعقيدا مع الوقت وتتفاقم إشكالياته. إن جزءا مهما من إصلاح تعليمنا ، ومن إصلاح أوضاعنا ، بالأحرى ، يمكن أن يتحقق بإصلاح وضع الدكاترة ، وباستثمارهم ضمن برامج تربوية وتنموية حديثة لا تتركهم للإهدار والعطالة. ونحسب في هذا السياق أن السبب المفترض لعدم المراهنة على هذه الفئة ، برأي المسؤولين ، هو أن لا يكون لهذا الرهان من كبير جدوى. ودون أن نناقش هذه الفكرة التي تبدو غير دقيقة ، فإننا نلفت إلى فرض أن يكون هذا الرهان ، وهذا البدء بالإصلاح ، هو الخطوة الأولى في طريق لاحب نحو الإصلاح الشامل المنشود ؛ وإلا فهل باستبقاء الأوضاع المختلة ، بالوزارة وبالبلد ، يمكن تحقيق ما نطمح إليه جميعا من تقدم ومن نهضة نفخر بها. إن الإصلاح لا يتم دون تجاوز الأخطاء ، ودون تجاوز الأوضاع المختلة ، وخاصة إذا كانت ترتبط بقطاعات حيوية في العملية برمتها. وما كنا نقصد إليه - قبل الاستدراك الحالي – هو أن يتم استثمار الدكاترة إلى أقصى الحدود ، وأن تتم متابعتهم فيما يناط بهم من مهام بحثية وغيرها. إن مجمل هذه الأفكار ، وما في قبيلها مما هو معزز ، أكثر من ذلك ، بلغة الإحصاء والتوثيق ، قد جادلت به النقابات بخصوص ملف الدكاترة ، لكن استجابة الوزارة تكون عادة بكيفية لا تقنع أحدا ؛ فهي إما أن ترفض كلية ، أو أن تجزئ الحلول.. هاجسها في كل ذلك إكراه الميزانية. لكن هذا الإكراه غير مطروح فيما يخص ملف الدكاترة كما هو معروف. * * * إدماج الدكاترة بمراكز التربية والتكوين ، هو حل من درجة ثانية في واقع الأمر ، وذلك لأنه لا يتيح الاستثمار الأمثل لقدرات الدكاترة في مجال البحث العلمي. وإذا كنا نتطلع فعلا إلى إصلاح حقيقي بعيدا عن الارتجالية وعن سياسة "سلك وعدي ورقع" فلن يسعنا أن نتجاهل أن المكان الطبيعي لفئة الدكاترة ، بما هي فئة تمرست على البحث العلمي ، دون أكثر من أي فئة من الفئات التعليمية الأخرى ، هو الجامعة ، أو ما في قبيلها من مراكز البحث العلمي ومؤسساته الرسمية أو الخاصة ، والتي يفترض أن لها ارتباطا مباشرا بمشاريع التنمية وأبحاثها ، إننا لا نكاد نفهم الأسباب التي تجعل المسؤولين لا يحسمون بمرة أخيرة مع الأوضاع والملفات والقضايا التي يكون استمرارها بمثابة نزيف مزمن في جسد البلد ، يجعله يخسر الوقت ، كما يخسر على صعيد المقدرات ماديا ومعنويا.. واليوم تعاني الجامعة المغربية أوضاعا مزرية سواء على صعيد استراتيجياتها التربوية وسياساتها التكوينية ؛ إذ لا نجد مخرجات مواكبة كما بات معروفا ، أو على صعيد مواردها البشرية وبنياتها التحتية. وهذا واقع أكده عدد من المسؤولين والمحسوبين على التعليم العالي من عمداء وأساتذة وغيرهم. وفي القلب من هذه المشاكل نجد هذا الخصاص المهول الذي تعرفه غالبية المؤسسات الجامعية على مستوى الموارد البشرية وخاصة هيئة التدريس ، والذي افتضح أمره في أكثر من موقع إعلامي مع بداية الموسم الدراسي الحالي. وإذا كان البعض لا يرى بأسا أو فضاضة في أن هذا الخصاص يتم سده كل سنة بجيش العرضيين (وأغلبهم لا مؤهل لهم ولا شواهد عليا) ، الذي يغزو الجامعة ويستنزف ميزانية الدولة ، لأن هؤلاء لهم مناصبهم المالية القارة ، ثم تضاف إليها تعويضات ومستحقات التدريس العرضي التي تؤخذ من ميزانية الدولة زيادة على رواتبهم الأصلية ، فنحن نرى أن هذا هو عين الخبط والتناقض ؛ إذ نشكي من الميزانية ثم نستنزفها في الآن ذاته بمصاريف عرضية كان يمكن الاستغناء عنها. ولعل وزير التعليم العالي ، قد تنبه إلى هذه المفارقة عندما قرر الاستعانة بدكاترة وزارة التربية الوطنية باتفاق مع السيد الوفا. وسوف لن يندم السيد الحسن الداودي على قرار الإلحاق هذا ؛ فهؤلاء الدكاترة سيشكلون إضافة نوعية حقيقية بالتعليم العالي ، لأنهم مارسوه ، كما أنهم تمرسوا على مهارة ضبط صفوف المتعلمين ، وهو ما ينقص لدى كثير من أساتذة الجامعات ، ثم إننا نتساءل أي شيء لا يمكن تعلمه والتمرس عليه من طرف هؤلاء الدكاترة مما يقتضيه التدريس بالجامعة ، وهم درسوا بها وتخرجوا منها ، وكثير منهم مارسوا التدريس بها عرضيا. إن قمة الإغراض أن يحتج البعض من المسؤولين الجامعيين بهذه الحجة الواهية ، فالأمر لن يكون بريئا بحال من الأحوال. كما أن السيد الوزير لن يندم إذا التزم بقراره ومضى به إلى النهاية ، لأنه سيوفر على حكومة حزبه مناصب مالية هي بحاجة إليها ، كما سيكون له أكبر الفضل في طي ملف عمر طويلا دون أن يجد مسؤولا حكيما وشجاعا ومؤمنا بالعدل يقوم بحله. لقد غيرت الوزارة الإطار – إلى أستاذ التعليم العالي – لعدد من الدكاترة يناهز ثلث العدد الإجمالي للدكاترة العاملين بوزارة التربية الوطنية ، وتركت الثلثين تقريبا دون أن تغير إطارهم بلا وجه حق في واقع الأمر ؛ فليس بين الفئة الأولى والثانية من فرق بالمعنى الحرفي للكلمة. وهذا حيف صارخ وتمييز مذل يجب على الدكاترة المتبقين أن يتصدوا له بكل الوسائل الممكنة ، ودون أن يتخلف واحد منهم ويكل أمر دفعه إلى آخرين. ولسنا نحرض بهذا الكلام ، بقدر ما أننا نستفز الدكاترة ليدافعوا عن حقهم القانوني والدستوري في وجه فئة من المسؤولين بوزارة التربية الوطنية تحقد عليهم ، وتسعى بكل وسيلة إلى عدم حصولهم على حقوقهم .