ما يشهده حقلنا الحزبي والسياسي هذه الأيام، وما تقترفه بعض الزعامات من مواقف وتصريحات وخرجات إعلامية يجعل كل الأفواه فاغرة، ويبعث على كثير استغراب وحيرة. نذكر هنا بداية ولكل غاية مفيدة، أن البلاد خرجت منذ أيام فقط من انتخابات تشريعية، يمكن أن نقول عنها كل ما نريد ولكنها الآن كرست نتائج صارت رسمية وأفرزت خارطة تموقعات هي التي ستحدد طبيعة المرحلة القادمة، كما أنه جرى تكليف زعيم الحزب المتصدر لنتائج الاقتراع بتشكيل الحكومة الجديدة، وهو بصدد التشاور مع مختلف الأحزاب لتكوين الأغلبية. ورغم أن البلاد لا زالت في مرحلة المشاورات الحزبية التي تعقب الإعلان عن نتائج الانتخابات، فإننا سمعنا عن جلسات ليلية واجتماعات لبلورة أغلبية موازية تفرز رئيسا من المعارضة لمجلس النواب، وسمعنا عن مذكرات للمطالبة بتعديل الدستور، وأخرى تهم طريقة تعيين رئيس الحكومة، وثالثة لها طبيعة الشكوى من بروز حزب واندحار آخر، وتبحث عن تدخل ما لصنع واقع سياسي استعصى صنعه بالنضال الذاتي واعتمادا على الانتخابات... ونسمع إلى الآن كذلك من يعرض علينا خواطر إنشائية تجريدية متعالية تستبطن إقرارا بفشل مخطط، وتتوسل من أجل أن يصلها حبل نجاة أو يجري تمكينها من مكان آخر تحت الشمس، ولو كان من خلال مسح كامل سلوك وخطاب الأمس لمراجعته أو حتى لتغييره بصلح ذات البين مع الجميع بلا استثناء، والعودة من جديد الى البدايات. ياك لا باس؟ ماذا يحدث؟ لا نريد هنا فرض الذات لمناقشة مواقف وقرارات أحزاب، وحدهم أعضاؤها يمتلكون حق دراستها وتقييمها وتحمل مسؤوليتها، ولكننا فقط نسجل أن قضايا وطنية كبرى وعميقة مثل إصلاح أو تعديل الدستور ما سبق التعاطي معها بكل هذا الاستسهال الملحوظ اليوم. لم يسبق أيضا أن خرج قادة أحزاب يعلنون مواقف كبرى ومهيكلة فقط لأن مزاجهم أوحى لهم بذلك، ومن دون أي مشاركة ولو شكلية للهياكل القيادية في هيئاتهم. ولم يسبق كذلك أن كان قادة أحزاب يفتقدون للوعي بدور السياق في صياغة المواقف والتعبير عنها، إلى هذه الدرجة. هل التوقيت اليوم مناسب مثلا لرفع مطلب تعديل الدستور؟ وماذا كان سيحدث لو انتظر الداعون اليوم لذلك، على الأقل، إلى أن تتكون الأغلبية وتتشكل الحكومة وينطلق عمل المؤسسات التي أفرزها اقتراع سابع أكتوبر؟ كيف نروج قبل أسابيع فقط، وأثناء الحملة الانتخابية، لخطاب وتوجه يقومان على قطائع قسرية واصطفافات حدية تتجاهل الواقع، وفور بروز نتائج غير منتظرة من صناديق الاقتراع، نقلب كامل الطاولة، ونرفع خطابا مناقضا للأول، وكأن هذه البلاد قطر بها سقف السياسة ليلة أمس، ومواطنوها عمي صُم بكم لا يفهمون؟ كل هذا لا يعني سوى أن بعض السياسيين الطارئين هم من لم يفارقهم العمى، أو أن دوخة كبيرة أصابتهم وما تركت لديهم لا بصرا ولا بصيرة. المغاربة منذ القدم عبروا عن هذه الحالة الذهنية أو الباتولوجية بدعوة من تصيبه إلى أن يجلس إلى الأرض ويلتزم الهدوء والتروي في التفكير. "لي تلف يشد الأرض"!!!! إنه الشعار الذي يجب فعلا أن يرفعه اليوم ويعمل به بعض سياسيينا الذين خابت توقعاتهم من الانتخابات الأخيرة، وفشلت كل مخططاتهم ومناوراتهم التي سعت لفرض تصورات سياسية أخرى غير ما أفرزه تصويت الناس. المطلوب اليوم من هؤلاء هو أن ينجحوا بالذات في استيعاب دروس هذه الخيبة، وبالتالي، الاقتناع بفشل ما كانوا يخططون له ويبشرون به، أو أيضا ما كانوا يخيفون به شعبنا، ومن ثم السعي لتقوية دولة القانون والمؤسسات وتطوير التعددية السياسية والحزبية الحقيقية، وصيانة استقرار مجتمعنا وتميز ديناميته الديمقراطية. اليوم من الضروري ترك دينامية ما بعد الانتخابات تستكمل جميع مراحلها، وترك البلاد تشكل مؤسساتها الدستورية ضمن الأساليب السياسية العادية، وبما يتيح تقوية استقرار المغرب ويعزز مسيرته الإصلاحية. عدا هذا فكل هذا "التنقاز" الذي ينط حوالينا من هذه الجهة الحزبية أو تلك، ومن بين سطور بعض الكتابات الغارقة في "التلفة"، هو بلا معنى، ولا يعفي من يقترفه اليوم من ضرورة الاعتراف بفشل مخططاته، وقصر نظره، ومعاناته من... العمى. مرة أخرى، "لي تلف يشد الارض". هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته