ارتأيت أن أستهل مقالي بمقتطف من خطاب جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه الذي ألقاه بتاريخ 15 أكتوبر 1975 معلنا من خلاله انطلاق المسيرة الخضراء، ويقول المقتطف : "غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غدا إن شاء الله ستطالون أرضا من أراضيكم، وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون أرضا من وطنكم العزيز ......." فاختياري لهدا المقتطف لم يكن اعتباطيا وإنما لما يحمله هدا الأخير من رسائل قوية ودلالات كبيرة أهمها شحذ همة الشعب المغربي للتعبير عن وطنيته فعلا وليس قولا فقط. لأن المسيرة الخضراء لم تكن خطبا لدغدغة العواطف ولا دروسا نظرية فيما يهم الوطنية، بل ممارسة فعلية وسلوك حقيقي يترجم أهم القيم الوطنية النبيلة أي حب الوطن، فالعديد من المحللين السياسيين يعتبرون المسيرة الخضراء محطة تاريخية مفصلية في الدراسات المتخصصة المعنية بتتبع هوية الشعب المغربي وتاريخه النضالي الذي أسهم في تأصيل الروح الوطنية. فالمسيرة الخضراء كانت وسيلة ضغط من جهة ووسيلة تقارب من جهة أخرى، فحينما أراد الشعب المغربي أن يظهر عزمه وقراره بأنه مستعد للاستشهاد من أجل صحرائه كانت المسيرة عنوانا للشجاعة، وحينما وقف وتروى واحتكم للعقل والمنطق نظم مسيرة خضراء سلمية بشرية إنسانية، شارك فيها 350 ألف مغربي ومغربية مجتازين الحدود الوهمية للصحراء، من أجل استرجاع الأقاليم الجنوبية إلى حضن المملكة المغربية. فتحدوا أيما تحدي جيش فرانكو بعتاده في منطقة "الطاح"، بسلاحين اثنين: العلم الوطني والقرآن الكريم، وفي ذات الوقت الذي دعا فيه مجلس الأمن المغرب إلى العدول عن مشروعه، أعطى جلالة المغفور له الحسن الثاني الأمر إلى المتطوعين بالتقدم فقدمنا للعالم قاطبة معنى حب الوطن والتضحية من أجله. وبالفعل، نجد المغاربة قاطبة نساء ورجالا لبوا النداء وأبانوا عن وطنيتهم في أبهى صورة، وتوجهوا في مسيرة سلمية مظفرة صوب الأقاليم الصحراوية، مسلحين بقوة الإيمان وبأسلوب حضاري سلمي فريد من نوعه، مظهرين بذلك قوة وصلابة موقف المغرب في استرجاع حقه المسلوب، وإنهاء الوجود الاستعماري بأقاليمه الجنوبية. لذلك فهي تعتبر حدثا ثابتا وتحمل في ثناياها عبرا متجددة، في حياة شعب، استلهم منها روح النضال الطويل من أجل التنمية والديمقراطية واستكمال الوحدة الترابية وبناء المؤسسات، والدفاع عن القيم الدينية والوطنية والإنسانية. باعتبارها حدثا غير مسبوق، ونموذجا نضاليا سلميا في التعاطي مع المشاكل السياسية، مما جعل المغرب قبلة للعديد من المؤتمرات العربية والدولية بفضل حنكة الراحل الحسن الثاني وذكائه السياسي الذي لا يجادل فيه إثنان... وإن أردنا الحديث عن مشاركة المرأة المغربية في المسيرة الخضراء علينا استحضار أن تضحية المرأة بحياتها من أجل قضايا وطنها الكبرى هي من الأمور الطبيعية، وقد تأتى ذلك بعد اندماجها في الحركات الوطنية وتفاعلها معها وقيامها بدور بارز في الانعطافات الوطنية التي مر بها المغرب، كدورها في مقاومة الاستعمار، ومشاركتها في المسيرة الخضراء، بنسبة عشرة في المائة من مجموع المشاركين، كانت مشاركة فعالة ومتميزة في هذه الملحمة التاريخية بجانب صنوها الرجل، الشيء الذي جعلها تكون في مقدمة المتطوعين لتحرير الصحراء المغربية من الاستعمار الإسباني. والمثير في الأمر أن المرأة الحامل لم تتخلف عن المشاركة أيضا.. فمنهن من فجاءهن المخاض وهن يؤدين واجبهن الوطني إحداهن اختارت لمولودها إسم "مسيرة" لتبقى لها أجمل ذكرى تحتفظ بها على مر العصور. فأي تعبير راق هذا عن الحس الوطني الذي يجعل امرأة في شهرها التاسع تشارك في مسيرة لتحرير الأقاليم الصحراوية من براثن المستعمر؟ ومن ضمن النساء اللائي كن في الصفوف الأولى وتركن بصماتهن في النضال الوطني التطوعي، وأصبحن رمزا من رموز المرأة المغربية في جل المجالات نذكر على سبيل المثال لا الحصر السيدة ميلودة بيسكوس والسيدة مقتاني السعدية التي كانت أصغر مشاركة وشحها جلالة المغفور له الحسن الثاني بوسام ملكي فور رجوعها وذلك بالقصر الملكي بالدار البيضاء، والمناضلة الفاعلة الجمعوية السيدة لالة السعدية نعيم العلوي والسيدة فاطمة الذهبي العضوة المؤسسة للاتحاد الوطني لنساء المغرب بتعيين من جلالة المغفور له الحسن الثاني والتي لازالت تحمل مشعل العمل الجمعوي لحدود الساعة بالرغم من أنها بلغت من السن عتيا، فتحية إجلال وتقدير للمرأة المغربية المواطنة الحرة الأبية التي لا تكل ولا تمل من العطاء من أجل وطنها. وربطا للماضي بالحاضر والمستقبل، وسيرا على نهج أسلافه المنعمين يواصل صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مسيرة البناء، بعد مسلسل استكمال الوحدة الترابية للمملكة، مؤكدا في العديد من المناسبات على عدم التفريط في أي شبر من تراب أقاليمنا الصحراوية التي تشكل جزء لا يتجزأ من تراب المملكة، وهو ما أكد عليه جلالته في الخطاب السامي الذي ألقاه في زيارته التاريخية لمدينة العيون في مارس 2002 حيث قال "إن حفيد جلالة الملك المحرر محمد الخامس ووارث سره جلالة الملك الموحد الحسن الثاني قدس الله روحيهما والمؤتمن دستوريا على وحدة المغرب، ليعلن باسمه وباسم جميع المواطنين أن المغرب لن يتنازل عن شبر واحد من تراب صحرائه غير القابل للتصرف أو التقسيم"، ولعل الإنجازات التي تلت هدا الخطاب لخير معبر عن مدى عزم صاحب الجلالة الملك محمد السادس على استكمال ما بدأه جلالة المغفور له الحسن الثاني حول القضية الوطنية والتي تعتبر قضيتنا جميعا وهي أمانة في عنق كل مغربي ومغربية إلى يوم الدين. * رئيسة وحدة دراسات النوع الاجتماعي وقضايا الأسرة بمركز أطلس الدولي لتحليل المؤشرات العامة، رئيسة منتدى أسرة