بين شروط علم الفهرسة والمعرفة التاريخية العسكرية تعددت التساؤلات عبر مختلف الحقب التاريخية عن جدوى البحث في تطور الأفكار المُنتجة ضمن مختلف المعارف الإنسانية، سواء منها العسكرية أم السياسية والاقتصادية أو غيرها. فاختلفت المدارس التاريخية فيما بينها(1) بين تلك المرتبطة بالأصول "الواقعية" في التاريخ، ونقيضتها المتشبعة بمضامين المنهج التفكيكي الصارم للخطاب التاريخي وللعقليات والأفكار والمؤسسات من نيتشه إلى فوكو. أو ما رسمه بول فين في تحديد السياقات المؤدية إلى التعمق في البحث واستكناه عنصر الكشف في المضامين المنظمة للفعل التاريخي نفسه. فهل يحق لنا اليوم، أن نبحث عن إحدى تلك المضامين في تراثنا العربي والإسلامي؟ وهل يمكننا أن نسبر أغوار مصادرنا العربية، خاصة منها المهتمة بالتاريخ العسكري، للوقوف على حقيقة الاهتمام بالمضامين الفكرية للنظريات العسكرية العربية؟ والكشف عن مدى مقارعتها لتلك النظريات الغربية، والتي طالما تحدث عنها العديد من المهتمين؟ بمعنى آخر، هل يحتفظ تراثنا العربي بنظريات في سياسة الحروب وتدبير الجند كما يعتقد البعض؟ أم إن الأمر مقتصر في مجاله التنظيري والمعرفي على مختلف المدارس الغربية؟ والتي لقيت اهتماما موسعا من قبل المؤرخين العسكريين الغربيين والعرب أنفسهم. إن الإجابة على هذه التساؤلات تقتضي منهجيا البحث ضمن النماذج الموضوعاتية لعلم التاريخ العربي، خاصة منها ذات الاهتمام المباشر بتدبير الجند وسياسة الحروب وقوانينها. سواء منها المستندة إلى الخبر في جزئياته وتفاصيله، أم تلك المستندة إلى الحوليات والتواريخ على مستوى البناء(2). مضمون هذه المعارف لا يمكن استجلاؤه من دون تقديم جرد نوعي للمصادر العسكرية، وحصر البعض منها في سياق معرفي ضمن مؤلف جامع، يحتكم إلى أصول الفهرسة لهذا النوع من التآليف. فهل لدينا اليوم، خاصة في المغرب، نموذج فعلي لهذا الصنف من المؤلفات؟ الرد على هذا التساؤل في شكله العام، يجد له مبررا في تحديد الأسباب الموضوعية والدوافع العلمية للوقوف على الإصدار الحديث المعنون ب "مصادر من التراث العسكري المخطوط بالمغرب"، لصاحبه الباحث الكولونيل المتقاعد أحمد البسيري، الصادر عن مطبعة البيضاوي بالرباط في 392 ص. لقد جاء الكتاب مصنفا لمصادر هذا التراث العسكري المخطوط عبر تقسيم موضوعاتي، يشتمل على: مؤلفات في تنظيم الجيش وتحديثه مؤلفات حول جيش عبيد البخاري مؤلفات في الخيل والفروسية مؤلفات في السلاح والذخائر الحربية مؤلفات في فنون الرماية مؤلفات في شؤون البحرية مؤلفات في تدبير الجند وسياسة الحروب مؤلفات عامة متضمنة لقضايا عسكرية كنانيش مرتبطة بالجوانب العسكرية. فإذا كان الكتاب يدخل وفق شكله العام في مجال باب الفهارس، وذلك بحكم اعتماده على آليات الفهرسة، والمتمثلة في العديد من النقط منها: ذكره لاسم المؤلف مع التعريف به، ثم عنوان المخطوط، وعدد النسخ المحفوظة في مختلف الخزانات المغربية وأرقام تصنيفها. هذا مع اعتماد الترتيب الأبجدي للمؤلفات الواردة في الكتاب بهدف تسهيل عملية البحث على القارئ. فإن هذه المعطيات وظفت من جانب آخر كمنهج اختياري ونوعي. مما جعل المؤلف لا يقتصر في التصنيف على مرجعية واحدة، بل يتسع مضمون نصه إلى تصنيفات جديدة في مجال علم الفهرسة، قد تميل في شكلها الظاهري إلى التخصيص، أي الاهتمام بالمصادر المرتبطة بالتاريخ العسكري، لكنها بالمقابل تنهل من الآليات المعرفية التي يتداخل بين ثناياها عنصر التحقيق والبحث. وهي بذلك تتخذ منحى حديثا يفتح الباب أمام انتظام منهجي مركب، يحقق الشروط الأساسية المرتكزة على قواعد وتقنيات الفهرسة في حد ذاتها، وينأى عنها إلى حقول معرفية تحمل في واقع أمرها دلالات نصية للإنتاج البحثي التاريخي؛ كقيمة علمية تشكل بوادر إجرائية للتفكير في عمل علمي متكامل ضمن جانب من جوانب التاريخ العسكري العربي والمغربي أساسا. وبذلك يرتقي صاحب الكتاب في مضمون عمله من مجرد الوصف البراغماتي للنصوص المصدرية إلى أسلوب المقارنة والمقاربة متعددة الجوانب، وهنا نجد أن المؤلِف قد سطر لنفسه منهاجا خاصا اعتمده في عمله، يجعله مميزا ويقارب منهج العلامة المختص محمد المنوني صاحب مصادر تاريخ المغرب. وهو بذلك يملأ الثغرة الحاصلة في هذا الباب على المستوى المغربي، مقارنة مع السبق العربي الحاصل في هذا المجال ممثلا في أبحاث كوركيس عواد، ودراسات بعض المستشرقين، من قبيل ما رصده ريتشارد شاخت في مؤلفه مصادر التراث العسكري عند العرب. فالكتاب يميط اللثام، من خلال حصره لعدد من المخطوطات، عن طبيعة ما أَلفه العرب في سياسة الحروب وتدبيرها، والتي تنبني فيها العملية الحربية على ضرورة اجتماعية في حفظ السلام وتدعيمه، وسيادة العدالة الإنسانية. من خلال واقع تاريخي وحدثي يستند إلى التأصيل لشروط ملزمة للحرب، وحصرها في أبنية قانونية أساسها آداب مستوحاة في عمقها من الإسلام، منها على سبيل المثال لا الحصر: تحريم التمثيل بالأسرى، وتحريم التعذيب، تحريم قتل الجرحى، تحريم التخريب الاقتصادي والعمراني، ضبط سلوك الجند، عدم الاعتداء على رجال الدين من الملل الأخرى، تحريم أسلحة المهابدة، والتي تنحصر في السموم وطريقة استعمالها المعتادة. وغيرها من القواعد الضابطة لعملية الحرب. إن الكتاب، ومن خلال المحاور الغنية التي تحددها مضامين مختلف المصادر الواردة عبر ثناياه، يكشف بشكل جلي عن ذلك الاهتمام المبكر للمفكرين العرب بالتأليف في مجال سياسة الحروب وتدبيرها. وذلك من خلال اهتمامهم بتحديد ناصية ظروف الحرب، وشروط المعاملة الخاصة بالجند، وما يلازمها من استعداد واستنفار. وأهمية توجبها حيثيات المواجهة واللقاء. مع التدقيق في القواعد المنهجية والمنطقية المحافظة على خصوصيات التسلسل الهرمي المؤطر للجيش من القمة نحو القاعدة. فالمصادر الواردة عبر ثناياه، نجدها تخصص فصولا مستفيضة عن السلطان في علاقته بالجند. في كل ما يشترط من أمور التدبير وأصناف الرعاية، وما يلزمها من صفات خلقية يشترط توفرها في السلطان، يدخل في الاهتمامات الأساسية لكل مُؤلِف كتب عن شؤون الجند وسياسة الملك. وتماشيا مع منطق التسلسل المحدد سلفا، يتضح من خلال مضمون المصادر الواردة في الكتاب، تخصيصها في محورها الثاني من الدراسة للجوانب المرتبطة بشؤون القادة بصفة عامة، مع تحديد سبل وشروط اختيارهم. وما يمكن أن ينتج عن ذلك من أسباب الظفر أو الهزيمة. فضلا عن هذا، وبتتبع حيثيات مضامين محاور أبواب المؤلفات الواردة ضمن الفهرس المذكور، نجدها تقدم معلومات ضافية عن الجند أنفسهم، سواء ما تعلق بعملية الانتقاء وشروطها، أم بطبيعة الإجراءات المرتبطة بالتدريب والممارسة على جميع أصناف الحروب، وما يلزمها من شروط التحكم، والضبط لمختلف مكونات الجيش عامة. كان لتجهيز الجيش حظه من العناية أيضا، ضمن هذا الفهرس، إذ يتبين من خلال عناصره أهمية تجهيز الجيش وتمكينه من المعدات العسكرية، وتدريب الجند على استخدامها، مع إعطاء المعرفة العسكرية ما تستحقه من الاهتمام، لتحقيق المعرفة الشاملة، والمؤسسة على أبعاد معرفية وليس اعتباطية كما يعتقد لدى البعض. وبناء عليه، فإن حيز التأريخ للأفكار النظرية في مجال التاريخ العسكري العربي والمغربي، يصبح من خلال المعطيات المقدمة سلفا ممكنا، وهو ما يجعل الكتاب لا يتخذ صبغة موحدة من حيث المضمون والشكل، بل نجده يعطي للمؤرخ نظرة مغايرة عن طابع الفهارس الكلاسيكية، والتي تحدد معاييرها الانتقائية بناء على قواعد جازمة وصارمة أحيانا. إن الاستئناس بخصوصية المفاهيم التي أوردها مؤلف الفهرس ضمن عمله، تعطي فكرة عامة عن طبيعة المصادر العربية المهتمة بسياسة الحروب وتدبيرها، مما يسهل عليه عملية الانتقاء والتنقيب، ويضع أمامه زخما مصدريا متنوعا، يمكن عبره رسم "معالم نظرية عربية في مجال سياسة الحروب وتدبير الجند". غير أن ذلك لا يمكن أن يسعفه في دراسة تطور تلك الأفكار بشكل دقيق من دون العودة إلى النصوص في أصولها، ومقابلة أفكارها وتحليلها على ضوء ما هو مسطر ضمن الدراسات الغربية. حتى يتفادى الوقوع في اللبس المعرفي، من حيث الاختلاف المحكوم بطبيعة التنوع الإيديولوجي والأصول الفكرية في المجال العسكري. معطيات يمكن أن نستشهد على بعض منها من خلال تقديم أسباب نشوب الحرب من منظور كل من كلاوزفيتز وابن خلدون، إذ أن الأول يحددها في "نوعين مختلفين من الدوافع التي تجعل الرجال يقاتل بعضهم بعضا: المشاعر العدائية، والنوايا العدوانية...»(3). بينما يحددها الثاني قائلا: « اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله. وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من البعض...، وسبب هذا الانتقام في الأكثر: إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للملك وسعي في تمهيده... »(4). وهكذا فكل من موقعه يحدد معايير خاصة بسياسة الحروب وتدبيرها، إلا أن جوهرها يظل إنتاجا إنسانيا مشتركا، يقتضي في واقع الأمر تحقيق نوع من التكامل المعرفي، وتجاوز حيثيات السبق، إلى ما هو أعم وأفيد من حيث الحفاظ على المبادئ الإنسانية في هذا الباب. ما من شك في أن إصدار كتاب جامع لمختلف مصادر التراث العسكري المخطوط بالمغرب سيفتح الباب أمام الدارسين والمهتمين بالشأن العسكري بشكل عام في التعرف على قيمة المصادر العسكرية المخطوطة والمحفوظة بالمكتبات المغربية، والتي من شأن استغلالها في العملية التأريخية أن يغطي النقص الحاصل في مجال التاريخ العسكري، وإن كان ينقصها مجهود فكري يرقى إلى جمع مختلف الأفكار والآراء في مجال تدبير الجند وسياسة الحروب ضمن نظرية موحدة ومتكاملة العناصر. على شاكلة ما وضعه الغربيون بعد تأسيسهم للمدارس العسكرية، وتطوير مناهجها الدراسية ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي، لتعطى تلك الأعمال ما تستحقه من تقدير واهتمام بين الأوساط المهتمة على الصعيدين العربي والغربي عموما. هوامش: أنظر مثلا الصراع العنيف والطويل الذي نشب في النصف الأخير من القرن التاسع عشر بين المدافعين عن التاريخ السياسي والتاريخ العام للحضارة الأولى، في الفصل الخامس من التاريخ السياسي وتاريخ الحضارة لبوركار، ضمن أرنست كاسيرد، في المعرفة التاريخية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، 1997 ص. 55. الترحيني محمد أحمد، المؤرخون والتاريخ عند العرب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص131. كلاوزفيتز كارل فون، عن الحرب...، المرجع السابق، ص.105 أنظر الفصل السابع والثلاثون في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها عند بن خلدون، عبد الرحمان، مقدمة ابن خلدون، ص.211. لقد تم وضع بعض الدراسات والاجتهادات في هذا الباب، غير أنها تميل إلى طابع المنهج الإسلامي في التحليل، وهو ما جعلها محدودة الانتشار ومقتصرة في المفاهيم على منطق التبريرات لا التحليل العام، أنظر على سبيل المثال: زماني أحمد، النظام العسكري في الإسلام، الدار الإسلامية، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 337 ص.