الموسوعية عيب في المعرفة العلمية لكنها إيجابية في العلوم الإنسانية جميل حمداوي ناقد أدبي وباحث مغربي متعدد الاختصاصات، ولد بمدينة الناظور سنة 1963، تنقل في تعليمه بين الناظور ووجدة وتطوان وفاس، وحصل على دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث والمعاصر سنة 2001، ألف أكثر من ثمانمائة مقال محكم وغير محكم، وأصدر أكثر من اثنين وثمانين كتابا شخصيا ومشتركا، كما أنه حاصل على عضوية العديد من المنظمات والجمعيات الثقافية والحقوقية. ما نسجله على جميل حمداوي أنه مسافر كبير في المعرفة وفي شتى ضروب الإنتاج الثقافي، فهل من تعليق على هذه الملاحظة؟ وهل من أسباب ساهمت في هذا التعدد؟ يجمع الكل على أنني أشتغل ضمن رؤية موسوعية، ربما تكون تلك الموسوعية عيبا في مجال المعرفة العلمية، إذ لا يمكن للباحث مهما أوتي من قوة أن يلم بجميع العلوم والمعارف والفنون؛ لأن ذلك سيسقطه بلا محالة في السطحية والبساطة والسذاجة، لكني أرى الموسوعية صفة إيجابية للباحث والناقد الأدبي في مجال العلوم الإنسانية؛ لأنها تؤهله ليكون أكثر اطلاعا وانفتاحا على باقي العوالم المعرفية الكائنة والممكنة. وأكثر من هذا، فالمثقف العربي القديم كان موسوعيا يأخذ من كل فن مستطرف بطرف، فقد كان ابن سينا – مثلا- متعدد المعارف والعلوم والمشارب. وينطبق هذا على معظم علماء الثقافة العربية القديمة كالفارابي، والقاضي الجرجاني، والباقلاني، وأبي حيان التوحيدي، وابن الأثير، وابن رشد ، وابن خلدون، وغيرهم... ومن جهة أخرى، قد نقبل إلى حد ما التخصص في الحقول العلمية الدقيقة، مثل: الطب، والرياضيات، والهندسة... ولكن لا يمكن قبول ذلك في مجال الأدب والفنون، فالناقد الأدبي لابد أن يكون مثقفا موسوعيا يعرف الأدب والسرد والمسرح والسينما واللسانيات وجميع شعب المعرفة الأدبية والفنية والعلمية . والهدف من كل ذلك هو التسلح بتصوراتها النظرية، وتمثل آلياتها التقنية والمنهجية بغية تطويق النص الأدبي تفكيكا وتركيبا وتأويلا ، سيما النص المعاصر منه. إذاً، كيف يمكن – مثلا- مواجهة نص سردي للروائية السعودية رجاء عالم التي تستثمر السحر والفلك والحساب والهندسة والفلسفة والتصوف والتاريخ في نصوصها الروائية؟ فلابد - إذاً- من ناقد جهبذ يلم بمختلف العلوم والمعارف الإنسانية، ويتقنها جيدا نظرية وممارسة ووظيفة. والسبب الثاني أنني نشأت في مدينة تنتمي إلى بيئة ثقافية أمازيغية في عمومها، كانت تتطلب مني – أولا- أن أكون مثقفا موسوعيا منفتحا ، و أكون – ثانيا- متسلحا بمجموعة من المعارف والعلوم لخدمة الثقافة المحلية من ناحية، وإثراء الثقافة العربية من ناحية أخرى. برأي جميل حمداوي، هل الكتابة عن أرض الريف المغربية تمكنت من رصد كل ما تزخر به هذه المنطقة من العناصر المتعددة (الكتابة الإبداعية) نومئ لكل من: الأمين الخمليشي، كمال الخمليشي، حسين القمري، أحمد بنشريف، نجيب الخمليشي، سومية البوغافرية... ؟ لقد شهدت منطقة الريف في سنوات الألفية الثالثة انتعاشا ملحوظا في مجال الكتابة الإبداعية كما وكيفا، لاسيما الروائية منها. فقد ظهر كثير من الروائيين الريفيين الذين يكتبون باللغة العربية في قضايا كثيرة متنوعة ومتشعبة، مثل: الهوية، والكينونة الأمازيغية، والهجرة، وجدلية الأنا والآخر، والفقر، والتهميش، واسترجاع الذاكرة والتاريخ، والحديث عن الإنسية الأمازيغية، ورصد التجارب الذاتية والرومانسية في علاقتها بالتجارب الموضوعية. بل ثمة مجموعة من الروايات التي اختارت أشكالا سردية متنوعة، مثل: القالب البيكارسكي، والقالب التاريخي، والقالب السياسي، والقالب الأوطبيوغرافي، والقالب التراثي، والقالب الواقعي، والقالب الشاعري، والقالب الفانطاستيكي، والقالب الصوفي العرفاني... هذا، وما تزال البيئة الريفية فضاء خاما بامتياز، يحتاج إلى من يسبره إبداعيا وفنيا وجماليا، ويرصد مختلف تناقضاته الجدلية، ويعبر عنه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فيحول أجواءه وفضاءاته وشخصياته وأحداثه ووقائعه إلى مادة إبداعية ثرية، أو يتخذه متخيلا لبناء عوالم جمالية واقعية أو محتملة. وقد كان محمد شكري أول مبدع أمازيغي يصور البيئة الريفية إبان الاحتلال الإسباني بصدق وأمانة واقعية في روايته الخالدة (الخبز الحافي). كما صورها كذلك بشكل من الأشكال كل من: عبد الحكيم امعيوة، وميمون الحسني، ومصطفى الحسني، وحسن محمد الحسني، وحسين الطاهري، والحسن المساوي، وسمية البوغافرية، وإسماعيل العثماني، وعمر والقاضي، وعباس خليفي، وأحمد المخلوفي... ومن ثم، فقد أصبحت النصوص الروائية ، سواء أكانت عربية أم أمازيغية، وثيقة تاريخية صادقة في تعبيرها عن وقائع الريف في مختلف تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والحضارية . هل من إمكانية للحديث عن طابو أو محرم في الحياة والمجتمع الريفيين على مستوى الكتابة والإبداع؟ من المعروف أن المجتمع الأمازيغي مجتمع محافظ بامتياز، لكن إبداعه جريء إلى حد ما في تكسير الكثير من الطابوهات الدينية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية ، والدليل على ذلك ما كتبه كل من: محمد شكري في روايته البيكارسكية (الخبز الحافي)، وعبد الحكيم امعيوة في روايته الشبقية (بعيدا عن بوقانا)، وعمر والقاضي في مجمل رواياته السياسية التي ينتقد فيها اليسار المغربي ، خاصة في روايته (الطائر في العنق) ، وبشير القمري في نصوصه السردية والمسرحية، وبالضبط في مسرحيته (أحيدوس) التي تتضمن جرأة سياسية كبيرة، تتمثل في انتقاد أوضاع البلد سياسيا بريشة تهكمية كاريكاتورية ساخرة... وتتميز الجرأة كذلك في تكسير التقليد والثورة عليه باسم الحداثة والتجديد والتحول، كما يبدو ذلك جليا في النقد الأدبي لدى كل من: نجيب العوفي، وعبد الله شريق، وجميل حمداوي، ومحمد أقضاض، وبشير القمري، وأحمد أعراب الطريسي، ومحمد منيب البوريمي، وموسى أغربي... علاوة على ذلك، فقد رأينا مؤخرا مجموعة من المبدعات والفنانات يلجن عالم الكتابة والتمثيل والمسرح والسينما والرقص والغناء والتشكيل والنحت والإعلام ، وتقديم البرامج الفنية والثقافية، وفي طليعتهن وفاء مراس، وسميرة المصلوحي، ولويزا بوستاش... ما نصيب الإبداع الذي يأتينا من أرض الريف الجميلة والحبيبة من المواكبة النقدية؟ ما يزال النقد في منطقة الريف عاجزا عن مواكبة كل الإنتاجات الإبداعية الصادرة بها؛ نظرا للتراكم الكبير الذي حققه هذا الإبداع في السنوات الأخيرة بالمنطقة إن كما وإن كيفا. وعلى الرغم من ذلك، فهناك أقلام نقدية جادة تواكب هذا الإنتاج من حين إلى آخر، مثل: عبد الله شريق، وجميل حمداوي، ومحمد أقضاض، وفريد أمعضشو، وأمحمد أمحور، وجمال الدين الخضيري، وعبد الواحد عرجوني، وأحمد الكبداني، وعيسى الدودي، ونور الدين الفيلالي، وميمون حرش، وعبد الرزاق العمري، وبلقاسم الجطاري، وحسن بنعقية، ومحمد أسويق، والحسين فرهاد، وعبد المطلب الزيزاوي... لقد سبق لكم أن اشتغلتم على موضوع السيرة الذاتية، وأصدرتم كتابا في هذا الشأن، فما الخلاصات التي خلصتم لها؟ وماذا عن دواعي هذا الاشتغال؟ - اشتغلت بفن السيرة درسا ونقدا وتأريخا، فقد توصلت من خلال قراءتي لبعض النصوص والمتون إلى مجموعة من النتائج، منها أن السير أنواع عدة، فهناك سيرة ذاتية، وسيرة غيرية، وسيرة أدبية، وسيرة دينية، وسيرة ذهنية، وسيرة تاريخية. بل يمكن الحديث عن نوعين من السيرة: السيرة المرجعية كسيرة (الأيام) لطه حسين، والسيرة التخييلية كما في رواية (العلامة) لبنسالم حميش... ومن ثم، تستثمر هذه السيرة ماهو ذاتي وماهو موضوعي. كما تستفيد من المعطيين: التاريخي و الشخصي. بمعنى أن هناك صراعا جدليا بين الذات والموضوع أو بين الإنسان والواقع. ولا يمكن في الحقيقة كتابة سيرة ذاتية إلا في أواخر عمر الإنسان بعد خدمة الإنسانية ماديا أو معنويا، وأيضا عند مواجهة العوائق والحوائل التي تمنع الذات من استكمال مشروعها المستقبلي بشكل طبيعي. وقد تبين لنا بأن الكاتب الأمازيغي القس أوغستان أول من كتب سيرة ذاتية في تاريخ الإنسانية عنوانها (الاعترافات). من المباحث التي أخذت منكم وقتا ليس بالقصير، وكذا الجهود المضنية، تلك التي لها صلة بالمسألة التربوية والتعليمية، إنها مباحث أسهمت بالكثير، فلماذا هذا الموضوع؟ دفعني اهتمامي بالتربية والتعليم منذ وقت مبكر إلى أن أخوض في المسألة التربوية التعليمية، فكتبت مجموعة من الكتب والمقالات والدراسات والأبحاث في مستجدات التربية والتعليم، فقد كان آخرها حول (مناهج البحث التربوي). وأكثر من هذا، فنحن ننادي إلى نظرية تربوية جديدة نسميها (البيداغوجيا الإبداعية) التي تجمع بين ما هو نظري وتطبيقي ، وتقوم على الإبداع والإنتاج والابتكار. وقد شاركنا - مرارا وتكرارا - في تنشيط ملتقيات وندوات تربوية عدة تتمحور حول الجديد في التربية والتعليم. كما كنا سباقين إلى تبيان مفهوم الأستاذ المرشد. ودافعنا كثيرا عن الترقية العلمية لتكون بديلا عن الترقية بالأقدمية. وأشدنا كذلك بفلسفة التنشيط التربوي والقراءة الممسرحة وغيرها من أفكار تربوية جديدة. موضوع آخر أثير لدى الباحث المقتدر جميل حمداوي يتعلق بالتصوف والحركة الصوفية، ماذا عن التصوف بالمنطقة الريفية التي عُرفت بكثرة رجالاتها وصلحائها وزواياها؟ تعج منطقة الريف بمجموعة من العلماء والمصلحين والمفكرين ورجال الدين والتصوف، وقد برعوا كثيرا في الأدب والفقه والشريعة والقضاء وأصول الفقه. وكانت تمسمان وكبدانة وباديس وغيرها من المراكز والحواضر طوال التاريخ منارات للعلم والأدب والثقافة، دون نسيان المدارس العتيقة والكتاتيب القرآنية التي قامت بدور كبير في نشر الدين والعلم والثقافة. وقد ترتب على ذلك أن انتشرت بالريف مجموعة من الزوايا والطرائق الصوفية، فهناك الطريقة العلوية، والطريقة العيليوية، والطريقة القادرية، والطريقة الشاذلية، والطريقة الجيلانية، والطريقة العيساوية، والطريقة البودشيشية. من الروافد المهمة التي تضخ في المغرب الثقافي ما لا يعد من البضاعة المعرفية والثقافية ما يصطلح عليه بالأدب والثقافة الأمازيغيين، نريد توضيحا أكثر من شأنه أن يقربنا من هذه الحركة الإشعاعية المتميزة؟ عرفت منطقة الريف على الصعيد الثقافي مجموعة من المراحل بعد استقلال المغرب: مرحلة التهميش في سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي، ومرحلة الانطلاقة الثقافية الأولى في سنوات السبعين ، ومرحلة الركود في سنوات الثمانين، ومرحلة الانطلاقة الثقافية الثانية في سنوات التسعين، ومرحلة النضج والازدهار في سنوات الألفية الثالثة مع بناء المركبات الثقافية بالناظور والحسيمة. ومن ثم، ترتبط منطقة الريف بالثقافة الأمازيغية التي تجسدت في الآداب والفنون والمعارف، وقد انتعشت هذه الثقافة بفعل الحركة الديناميكية للجمعيات والأحزاب السياسية الأمازيغية التي تدافع عن الثقافة المحلية ودسترة لسانها، وتتشبث باللغة والهوية والكينونة الأمازيغية. ومن الطبيعي أن تعبر هذه الثقافة عن تطلعات هذه الحركات السياسية والجمعوية، و تتعاطى مع وقائع الريف من خلال رؤية هوياتية محلية، سواء أكانت ضيقة أم منفتحة. ومن ثم، فقد تحقق إنتاج زاخر في الثقافة الأمازيغية نقدا وإبداعا ومسرحا وقصة ورواية وسينما وتشكيلا ونحتا... إلى أي حد استطاعت الكتابة الروائية والقصصية أن تعيد كتابة تاريخ المغرب المعاصر، وترصد أهم لحظاته ومحطاته البارزة (المشكلات السياسية والأحداث العاصفة)؟ لقد أصبحت الكتابة الروائية أداة تعبيرية وفية وصادقة في تسجيل وقائع التاريخ المعاصر بمنطقة الريف التي شهدت كثيرا من الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية. وتمتد الفترة التي تم التخييل عليها فنيا وجماليا وإبداعيا من القرن التاسع عشر إلى سنوات الألفية الثالثة. وهكذا، نجد مجموعة من النصوص التي تلتقط أنفاس تاريخ الريف المعاصر برصد مجاعاته وأوبئته وهجراته كما في رواية (جنوب الروح) لمحمد الأشعري، ورواية (شجرة الدردار) لعباس خليفي.... والإشارة إلى أوضاع الريف خلال فترة الاحتلال الإسباني ، ويتجلى هذا واضحا في رواية (الخبز الحافي) لمحمد شكري، وروايتي (الطائر في العنق) و(الحجرة الصدئة) لعمر والقاضي. وكانت هذه الرواية أيضا تعنى بتصوير مقاومة محمد الشريف أمزيان كما هو الحال في رواية (الفرس الأزرق) لحسن محمد الحسني، وتجسيد مقاومة محمد عبد الكريم الخطابي كما في رواية (حقيبة ماريا روسا الحمراء) لمصطفى الحسني. وكانت هذه الرواية كذلك تلتقط أحداث الريف ما بعد الاستقلال كما في رواية (انكسار الريح) لأحمد المخلوفي، ورواية (صهيل الذاكرة) لعبد السلام فزازي، ورواية (الرقص على الماء) لحسين الطاهري، ورواية (من البحر إلى البحر) لأحمد أبابري، وروايتي (العودة) و(جذور الضباب) لميمون الحسني.. موضوع النشر والتوزيع من القضايا التي تعرف أزمة وصعوبات، فهلا حدثتنا عنه وعن بعض تداعياته وخصوصا بمدينتي الناظور والحسيمة ونواحيهما؟ على الرغم من الانتعاش الثقافي الذي حققته منطقة الريف في السنوات الأخيرة على جميع المستويات والأصعدة، فما يزال كتاب منطقة الريف يجدون صعوبات جمة تتعلق بعملية الطبع والنشر والتوزيع؛ لأن دور الطبع بعيدة عن المنطقة، فأغلبها توجد بوجدة أو فاس أو الرباط أو الدارالبيضاء. لذا، يلتجئ الكتاب إلى المدن القريبة كالناظور وبركان ووجدة وفاس، بيد أن واقع الطباعة في هذه المدن رديء، والتكلفة غالية جدا؛ مما يؤثر ذلك سلبا على المنتوج الثقافي تداولا وتوزيعا واستهلاكا. لذا، فحاجتنا ملحة إلى المطابع المتخصصة في مجال الكتب والصحافة. ونتمنى أن يقوم بعض رجال الأعمال بالمنطقة باقتناء الأجهزة الطباعية الرقمية المعاصرة لتفادي كل المشاكل التي يتخبط فيها مثقفو المنطقة ومبدعوها ونقادها ومفكروها. ما قراءتك وتصورك الشخصي بشأن المجلات والدوريات، وكذا الملاحق الثقافية التي تعرفها بلادنا؟ يلاحظ في بلادنا قلة المجلات والدوريات مقارنة بالبلدان العربية الأخرى (مصر، وتونس، والكويت، وقطر، والسعودية، والإمارات العربية المتحدة...)، مع توقفها بسرعة لأسباب مادية محضة. أما الملاحق الثقافية والفنية والتربوية التي ترتبط بالصحف في بلادنا، فهي ظاهرة إيجابية ومتميزة، مادامت تقوم بدور تنويري وتثقيفي وإشهاري، حيث تعرفنا بالجديد من الإصدارات والنظريات والمترجمات، وتطلعنا على المقالات الفكرية والنقدية والنصوص الإبداعية. وينضاف إلى ذلك، أنها تسهل علينا تتبع مجمل الرسائل والأطروحات الجامعية التي نوقشت في رحاب الكليات والمعاهد والجامعات الوطنية والأجنبية. لذا، فهي بلا شك تعوض المجلات الثقافية التي بدأنا نفتقدها واحدة تلو الأخرى في السنين الأخيرة؛ إذ توقفت معظمها لأسباب مادية، وانعدام الدعم المالي، و تراجع مستوى القراءة والثقافة لدى المواطن المغربي. من الملتقيات الوازنة، بل من المفاخر الكبرى التي يحق أن يفخر بها مغربنا الثقافي والإبداعي ملتقى القصة بمدينة الناظور. سعداء بأن تبرز لنا كيف تبلورت الفكرة إلى أن أضحت فكرة عربية وعالمية؟ لقد انتعشت القصة القصيرة جدا في منطقة الريف بانعقاد المهرجان العربي الأول الذي نظم بمدينة الناظور ما بين 03 و04 فبراير سنة 2012 بإشراف جمعية الجسور للبحث في الثقافة والفنون ، ورئاسة جميل حمداوي، وإدارة جمال الدين الخضيري. وقد ضم أكثر من ستين قاصا ومبدعا وناقدا من المغرب والبلدان العربية الأخرى (تونس والعراق و السعودية وليبيا)، وحضره جمهور غفير في مختلف الأعمار. وقد كرم فيه بعض المبدعين والمثقفين ونقاد القصة القصيرة جدا. كما نظمت هذه الجمعية الدورة الثانية للقصة القصيرة جدا أيام15و16و17مارس سنة 2013 تحت شعار(القصة القصيرة جدا: أسئلة الإبداع وآفاق التجريب)، وكانت هذه الدورة مرتبطة بالمبدعة سمية البوغافرية. وقد حضر هذا المهرجان كثير من المبدعين والنقاد من المغرب وخارجه. وقد كرم فيه كل من : مصطفى لغتيري، وعبد الله المتقي، ومحمد رمصيص، وسمية البوغافرية، وحسن المساوي، وميمون حرش، وعبد الدائم السلامي، ويوسف حطيني، وحسن علي البطران. وقد ترتب على هذه الدورة تأسيس الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا برئاسة المغرب، وذلك في شخصي الدكتور جميل حمداوي وجمال الدين الخضيري. وقد تفرعت عن هذه الرابطة مندوبيات إقليمية تمثيلية عبر ربوع الوطن العربي. هذا، وقد انعقد الملتقى الوطني الأول للقصة القصيرة جدا بالناظور برئاسة الجمعية نفسها، وقد انصبت دراسات الملتقى على أعمال كل من عبد الله المتقي، وحميد ركاطة، وجمال الدين الخضيري، وشارك فيها بعض النقاد: محمد أمحور، و عيسى الدودي، و نور الدين الفيلالي. وعليه، فقد تأسست مؤخرا (جماعة الناظور للقصة القصيرة جدا) التي يترأسها جميل حمداوي، وتضم كلا من: جمال الدين الخضيري، وعبد الله زروال، وعبد الواحد عرجوني، ونور الدين الفيلالي، وأمنة برواضي، ونور الدين كرماط، وفريد أمعضشو، وأمحمد أمحور، وأحمد الكبداني، وعيسى الدودي، وحنان قروع، وميمون حرش، وحسن المساوي، والحسين الطاهري، وإحسان الرشيدي... في الكتابة القصصية هناك من يتحدث عن لغة التكثيف (الومضة/ القصة القصيرة جدا..)، فما حاجتنا لهذا النوع من الكتابة؟ وهل من شروط دعت لذلك؟ القصة القصيرة جدا جنس أدبي ومضي حديث يمتاز بقصر الحجم ، والإيحاء المكثف، والانتقاء الدقيق، ووحدة المقطع، علاوة على النزعة القصصية الموجزة، والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب، واستعمال النفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر المضطرب وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ماهو بياني ومجازي ضمن بلاغة الإيحاء والانزياح والخرق الجمالي. هذا، وتتمثل سمات القصة القصيرة جدا في الإدهاش، والإرباك، والاشتباك، والمفارقة، والحكائية، وتراكب الأفعال، والتركيز على الوظائف الأساسية دون الوظائف الثانوية، والإقبال على الجمل الفعلية، والتكثيف، والتلغيز، والتنكيت، والترميز، والأسطرة، والانزياح، والتناص، والسخرية، وتنويع صيغ السرد القصصي تهجينا وأسلبة ومحاكاة، وتصغير الحجم أكثر ما يمكن تصغيره انتقاء وتدقيقا وتركيزا. هذا، وقد ظهرت القصة القصيرة جدا في العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين، وربما قبل ذلك مع قصص جبران خليل جبران كما في مجموعتيه (المجنون) و(التائه)، استجابة لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المعقدة المتشابكة التي أقلقت الإنسان، وما تزال تقلقه وتزعجه ذهنيا ووجدانيا وحركيا، ولا تتركه يحس بنعيم التروي والاستقرار والتأمل. ناهيك عن عامل السرعة الذي يستوجب قراءة النصوص القصيرة جدا كما وكيفا، والابتعاد عن كل ما يتخذ حجما كبيرا، أو يبدو مسهبا في الطول نسبيا ، مثل: القصة القصيرة ، والرواية، والمقالة ، والدراسة ، والأبحاث الأكاديمية.... كما لم تترك المرحلة المعاصرة المعروفة بزمن العولمة والخوصصة والاستثمارات الاقتصادية الهائلة والتنافس الشرس إنساننا الحالي، لاسيما المثقف منه، مستقرا في هدوئه الذي تعود عليه، ولم تتركه أيضا يتناغم مع بطء وتيرة حياته ، بل دفعته إلى السباق المادي والحضاري والفكري والإبداعي قصد إثبات وجوده ماديا ومعنويا، والحصول على رزقه الذي يؤمن حياته وحياة أولاده. مما أثر كل هذا على مستوى التلقي والتقبل، والإقبال على طلب المعرفة؛ فترتب على ذلك ظاهرة العزوف عن القراءة؛ ثم أصبح الكتاب يعاني أزمة الكساد والركود. كما بدأت المكتبات العامة والخاصة تشكو من الفراغ المهول للراغبين في التعلم، وغياب المحبين للعلم والثقافة، وانقطاع طلبة القراءة عن رفوفها المكدسة بالكتب والمصنفات في مجالات معرفية شتى. لذا، كان الإقبال على كتابة القصة القصيرة جدا مسلكا ضروريا للتقرب من القارئ العربي الذي أصبح غير قادر على قراءة النصوص الطويلة والمسترسلة والمسهبة في الوصف والأحداث والوقائع. على مستوى القراءة والمطالعة أين يجد جميل حمداوي ذاته ومتعته؟ أجد متعتي حينما أقرأ الجديد في المسرح والسينما والنقد والتربية والفلسفة والسيميوطيقا واللسانيات والدراسات الإسلامية والقصة القصيرة جدا...لذا، يعجبني الجديد في كل المعارف الأدبية والفنية، وأستمتع بأطروحاتها الفكرية والنظرية والتطبيقية. كثيرة هي العضويات التي تحظون بها داخل المغرب وخارجه، فكيف يتم ذلك؟ وماذا عن المردودية والقيمة المضافة؟ حصلت على مجموعة من العضويات أولا بفضل الله تعالى ونعمه الكثيرة علي، وثانيا بعملي الدؤوب والمتواصل؛ نظرا لما قدمنا من خدمات متواضعة في سبيل الرقي بالثقافة العربية بصفة عامة، والثقافة الأمازيغية بصفة خاصة . لذا، فأنا عضو في اتحاد كتاب العرب، واتحاد كتاب الإنترنت العرب، واتحاد كتاب المغرب، وعضو في الهيئة العربية للمسرح، وعضو في الجمعية العربية لنقاد المسرح. وأنا كذلك رئيس الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا، ومؤسس مختبر المسرح الأمازيغي، ورئيس الهيئة العربية للكتابة الشذرية، ورئيس ملتقى كتاب منطقة الريف، ورئيس جماعة الناظور للقصة القصيرة جدا، ورئيس مختبر ابن خلدون للتربية والتعليم بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالناظور، وعضو شرفي ومستشار ثقافي في كثير من الصحف والمجلات العربية (مجلة ابن رشد بهولندة، ومجلة الصورة والاتصال بالجزائر، ومجلة القلم الأدبي بلندن، ومجلة أجراس الثقافية بالمغرب، ومجلة سمات بالبحرين، ومجلة فضاءات مغربية، ومجلة عتبات بمصر...). وعليه ، فكثرة العضويات في الحقيقة هي أوسمة شكلية ليس إلا، لا تزيد شيئا في شخصية الباحث مهما كانت صولاته في الساحة الثقافية والإبداعية، ولا تفيده في أي شيء. فما يهم هو العمل المثمر، والعطاء المفيد، والتضحية من أجل خدمة الآخرين، والاستهداء بتقوى الله في هذا العمل الثقافي الإنساني. ومن ثم، لا تتحقق قيمة المثقف بالكم وعدد المقالات والكتب والعضويات والجوائز، بل بالكيف والإضافة النوعية، وهذا ما أسعى إليه اليوم بجدية وصبر وعمل دؤوب. *كاتب مغربي