ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة. كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة. إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية. يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية. - 16 - مكثنا في مدينة طنجة أسبوعين، أخذنا خلالهما، حمولتَنا من الفحم. وفي 20 مارس غادرنا المدينة باتجاه مليلية. أصبح بيد بن الطاهر الآن ثلاثون رجلاً يأتمرون بأوامره، وعشرون من المشاة يأتمرون بأوامر ضابطَي الصف، وجنديان راميان. ولقد تقلَّص فيلق الرماة إلى النصف، وأصبح يتكوَّن من المعلم محمد ونائب له يُدعى المعلم القشابة. تم تثبيت المدفعين فوق دعامتين قويتين، صنعتا في مدينة طنجة. ولقد تحتم علينا أن نمكث في مدينة مليلية متبطلين لبعض الوقت، بفعل ريح الغربي القوية التي كانت تعيث بالبحر، فلما نزلت إلى البر، أخبرني بومغيث أنه تحدث إلى زوج (رجل وامرأة) ألماني، يرغب في لقائي. ذلكما هما السيد راينهارد مانيسمان دي ريمشايد وزوجته الشابة. فقد كانا في رحلة لقضاء شهر العسل، وكانا يتجهان صوب المغرب، مروراً بمدينة مليلية، لشدة ما كان الجو بارداً في الجزائر. ولم يكن في مدينة مليلية من ألمانيين، ولذلك كان طبيعياً أن نغتبط للقاء مواطنينا في هذه المدينة. وفي اليوم الموالي تناولت طعام الإفطار رفقة أسرة مانيسمان في فندق كولون، ولقد تعرفت فيهما على شخصين بالغي الفائدة. ولقد جلسنا إلى مائدة بمعية أربعة فرنسيين، كان السيد والسيدة مانيسمان يتحدثان معهم باللغة الفرنسية، فيما لم أكن أتحدث معهما بغير الألمانية. وفجأة إذ لاح للسيد مانسيمان أن يقول لهم إنني أتكلم الفرنسية، غير أني لا أتحدث بها بطواعية، لأن فرنسيتي رديئة. وعندئذ خاطبني الفرنسي الذي يجس بقربي، بالإسپانية، قائلاً : - «فلنتحدث بالإسپانية، ما دمت تجيد هذه اللغة». فسألته : - «ومن أدراك بذلك؟» - «أوه، إنني أعرفك منذ ست سنوات، فكان لا بد أن أعرف بذلك». - «ألست أنت السيد ميم نون؟». - «ذلك أنا بالضبط». كنت سمعت الكثير عن السيد «ميم نون»، لكني كنت لا أكاد أذكره. إنه يمتلك أرضاً بالقرب من مرسى ساي، على مقربة من الحدود المغربية، على الساحل الذي طرده منه السيد ساي. ولقد أصبح منذئذ أنشطَ بائعي الأسلحة للروغي بوحمارة، ولقد اغتنمت الفرصة لأسأله عن الروغي، وعن الوضعية في مار تشيكا، فكان جوابه على ما سألت صادقاً، ليس فيه شائبة من كذب. فلقد كان في المركز التجاري أثناء ما كنا نقوم به من قصف لذلك المكان، لكنه لم يشارك شخصياً في إدارة المدافع، رغم كونه ضابطاً رامياً احتياطياً وهو لم يكن يرى ضيراً في بيعه الأسلحة للروغي، فلقد كان مرخصاً له بذلك، هو التاجر الرزين. عدا أنه يدعو بوحمارة، دائماً، باسم مولاي محمد. ولقد سألت السيد «ميم نون» من يكون ديلبريل، وما هو عمله، فعلمت منه ما يلي : كان ديلبريل، من قبْلُ، يعمل ناسخاً أثناء مهمة للتصوير الطوپوغرافي، ولقد تمكَّن، بذلك، من مشاهدة قسم كبير من المغرب. وعندما قام بوحمارة (مولاي محمد) بالتمرد على السلطان، دخل ديلبريل في خدمته. ولقد عرف كيف يحوز تقدير سيده، بحيث لم يكد يمضي عليه في خدمته وقت يسير حتى رقاه بوحمارة إلى أعلى المراتب. ولقد تقدم ديلبريل، في بداية عمله لدى بوحمارة، إلى الحكومة الفرنسية باقتراح أن يرفع إليها تقارير عن جميع الأحداث، وهو العمَل الذي زاوله مدة ثلاثة أشهر. غير أنه لم يتمالك نفسه من التباهي بذلك علناً، مما جعل الحكومة الفرنسية تتخلى عنه. ورغم تأكيد السيد «ميم نون» على انقطاع أي اتصال رسمي بين ديلبريل وفرنسا، إلا أنني لم أصدقه في ما زعَم. وكان من بين من جلس معنا إلى المائدة صديق ومساعد للسيد (ميم نون)، وكان الآخر محامياً فرنسياً، وكان ثالث الجلوس رجلاً بلجيكياً. وقد كانت لهذا الأخير مصالح كثيرة في مار تشيكا، فكان خوفه كبيراً أن يخسر كل شيء. ولقد سأل السيدة مانيسمان في قلق وانشغال بالغين عن نوايانا، وعن عيارات مدافعنا. ولذلك وجدتني أُخْرِج صور القصف الأخير، وجعلت أُديرها على الحضور من حولي. فكانوا يتفرجون عليها جميعاً في اهتمام بالغ. فلما وقعتْ بين يدي الرجل البلجيكي، لم يتمالك نفسه من أن يهمس، مندهشاً، إلى السيدة مانيسمان من تحت المائدة : «75 ملم!». وبعد الفراغ من الأكل، عبَّر لي هؤلاء الأشخاص الأجانب عن ودهم. ولم أعرف إن كانوا صادقين. ثم انصرفوا. دعوت السيد مانيسمان، على سبيل الدعابة، إلى مرافقتي، هو وزوجته، فإذا هو يحمل دعوتي إليه على محمل الجد. ولقد كان بالزوج اثنيهما رغبة شديدة في القيام بتلك الرحلة، بحيث لم أملك إلا حملهما معي، رغم معرفتي بافتقار السفينة إلى وسائل الراحة. لكن سرعان ما تبدَّدت مخاوفي في هذا الشأن؛ فقد كان الزوج مستعديْن، في سبيل المشاركة في تلك الرحلة، لتحمل شروط أقل راحة مما هو الأمر على متن السفينة، ولقد استقلا السفينة في 24 مارس. واغتبط بن الطاهر أيما اغتباط لمرآى المرأة الشابة، والتي كان لايني يلتهمها بنظراته، فكان حفياً شديد الحفاوة بضيوفي. وسرعان ما دعانا إلى خيمته، حيث شاركناه طعاماً بسيطاً. استغربت لسهولة تأقلم الزوج مع الوضع، فكانا يتناولان الطعام بأصابعما، على غرار ما كان يفعل مضيفنا. وكان العجوز يجلس هنياً داخل خيمته، قد شبَّك ساقيه، كأنما يقتعد عرشاً. فكان يبتسم في سرور، ويمعن النظر في المرأة الحسناء. وكنا نشكل مجموعة غريبة من حواليه. وكان بومغيث يتولى الترجمة. لبثنا متسامرين حتى وقت متأخر من الليل. واستيقظنا مبكرين في اليوم الموالي، فحيَّيْنا المركز التجاري ببعض الكرات المدفعية. لكننا لم نُطِل في ذلك، إذْ كنا نبغي التوجه، في نفس اليوم، إلى عجرود. وفي طريقنا إليها، عاد بن الطاهر لقصف القرى الواقعة على ساحل كبدانة، وظل ممعناً في قصف الساحل، لم يتوقف إلا عندما أصبحنا داخل المناطق الصديقة. وفي 28 توجهنا إلى مدينة مليلية، فرمينا، في طريقنا إليها، المركزَ التجاري ببعض الكرات المدفعية، وقصفنا جميع ما لاح لأنظارنا من القرى في تلك الناحية. حدثَتْ، إذْ نحن في مدينة مليلية، مشاداة عنيفة بين العجوز وبومغيث. فلقد ألزَم بن الطاهر البحارة بالمشاركة في عمليات القصف. واعترض بومغيث على ذلك، بضُعف الطاقم، وبأنه لا ينبغي تبديد قواته، وهو ما رفض العجوز التسليم به. ولقد ظن بن الطاهر أن بومغيث يسعى إلى افتعال الشجار معه، فكان ذلك مبعث غضب لديه، وكان يلوِّح بيديه، كما اعتاد أن يفعل في مثل هذه الحالات. بيد أن بومغيث لم يجبُنْ أو يستسلم. فأخذ، بدوره، في الصراخ، والتلويح بيديه، حتى لم نعُد نسمع للعجوز صوتاً، وأخذ يقبل بمصيره. ولقد أشرْنا عليه بأن يرسل في طلب بعض الرجال من مدينة طنجة، للعمل في عمليات الإنزال. ولقد بادر إلى العمل بتلك النصيحة، فأبرقَ، في ذلك الشأن، إلى العجوز الطريس. لكنه لم يتلق، أبداً، أي جواب على برقيته. جلسنا، مساءً، ننعم بالهدوء، داخل خيمة الرجل العجوز. فحكى لنا أن الروغي جنَّد خمسة رجال من كل قرية من قرى «رأس ثلث مداري»، من القادرين على حمل السلاح. أردنا أن ندفع هؤلاء المجنَّدين الجدد للعودة إلى بيوتهم، ولذلك توجهنا، في يوم 29 من الشهر نفسه، باتجاه ثلث مداري، وقصفنا ما وقعت عليه أبصارنا من القرى. ولقد حققت هذه العملية نجاحاً كبيراً، إذْ دفعت بجميع القرويين من سكان تلك الناحية، إلى ترْك الروغي، والعودة إلى بلاداتهم المهدَّدة. ومن سوء الحظ أن اضطُرِرْنا إلى وقف كل إغاراتنا على ذلك «الرأس»، نزولاً عند رغبة الحاكم. فلقد نقل إلينا مترجمة، الذي كنت على علم بعلاقاته الطيبة مع الروغي، نقل إلينا رغبة الحاكم في هذا الشأن. ولقد ارتبت في أن يكون إنما يفعل ذلك من تلقاء ذاته، ولذلك قصدت الجنرال شخصياً، لأستفسره في ما يريد. فأوضح لي أن القبائل المجاورة لمليلية صديقة لإسپانيا، وأنها تثق بها، فلو أننا قصفناها، وعدنا بعد ذلك، إلى مليلية، فسيكون من شأن ذلك أن يُغضِبها، ويمكن لذلك أن يتسبب في مصاعب سيكون لها الوقع السيء، في الوقت الذي يتم العمل، في الخزيرات، من أجل إعادة السلم والهدوء إلى المنطقة. ولذلك رجانا أن نكف قصفنا عن سكان ذلك الرأس، وكذلك عن سكان القرى الواقعة في جنوب مليلية. ولئن كنت لم أتفهم جيداً حججه وتعلُّلاته، إلا أنني وعدته بأن أحترم رغباته. استمتع السيد والسيدة مانيسمان كثيراً برحلتهما على متن «التركي»، بحيث عادا على متنها، كذلك، متوجهين إلى عجرود. ولقد كان انطلاقنا في الصباح الباكر، يوم 30 مارس. وعند مطلع النهار، حيَّينا المركز التجاري، من جديد، ببعض الكرات المدفعية. وجدنا في استقبالنا، بقصبة السعيدية، عبد الرحمان بن عبد الصدوق، الذي كان قد أقام هناك مركز قيادته؛ حيث دعانا إلى مشاطرته فطوراً وفيراً. لقد كان هذا الرجل الجليل يسكن بيت القايد، لكنه كان يؤثِر أن يقضي نهاره في خيمته. وهي خيمة رحبة فسيحة، مؤثثة بحشيات وزراب، مما جعل مجلسنا فيها مبعث راحة جمة. وجيء إلينا بمائدتين واطئتين، فجلسنا أرضاً متحلقين حولهما. فكان القائد الأعلى إذا التقط مضغة لذيذة كان يجعلها بيديه في فم السيدة مانيسمان، فكنا نتسلى كثيراً بما يفعل. ولم يكن في ذلك ما يبعث على الاشمئزاز، فلقد غسَل الرجل يديه، من قبل، بالصابون في عناية. ولقد أثارني، في ذلك، الاختلاف الشديد ما بين رجال السلطان وبين بن الطاهر. فقد كان الأوائل رجالاً ذوي هيبة ووقار، وكانوا، برغم هيبتهم، رجالاً شديدي الحيوية، بشوشين، ومقبلين على الحديث. وأما بن الطاهر، فهو عجوز متعظِّم وكسول، قد انصر كل همه إلى الأكل. فقد كان من شده «تلهفه» إلى الأكل كأنما يريد أن يتزود منه بما يكفيه لأيام كثيرة، ما دام أن ذلك لم يكن يكلفه شيئاً. تقدم السيد مانيسمان إلى عبد الرحمان بن عبد الصادق بمقترحات لمهاجمة الروغي. فلقد أشار عليه بتسليح سفينة «التركي» بمدافع يصل مداها إلى 15 كيلومتراً، ليقتدروا بها على قصف قصبة سلوان من البحر، فيطدروا، بذلك، بوحمارة من آخر مستقر ثابت له. كما اقترح تزويد سفينة «السيد التركي» بنظام إشارة بسيط، حتى يكون في مستطاعنا أن نتفاهم به مع الجنود المرابطين في منطقة ملوية، تيسيراً للتعاون والتنسيق بينهما. ولقد كان القائد الأعلى يصغي في اهتمام لمقترحات السيد مانيسمان، وبدا أنه يستحسن نصائحه إليه. ومن سوء الحظ أن ظلت تلك النصائح كلاماً في الهواء، لم يُعمَلْ بها! وفي زوال ذلك اليوم دعاني زالوڤسكي إلى مرافقته في جولة بأملاكه. فرأيت القمح قد عرَّش كثيفاً في الناحية التي تم استصلاحها، مما يَعِدُ بمحصول وافر. ولقد أخبرنا زالوڤسكي أنه استخدم ثلاثة عمال من الأهالي، وأنه يؤدي أجراً أسبوعياً لكل واحد منها يصل إلى 75 ليرة من الشعير و10 كيلوغرامات من الدقيق. وسيكون لهم، بعد جني المحصول، 5/1 من القمح المدروس، فيما يحتفظ هو بالتبن والقمح. وقد كان ذلك الأجر العيني يجعل أولئك العمال يعملون طوال السنة، فإذا عجزوا عن القيام لوحدهم بعمل الحصاد يكون عليهم أن يشغِّلوا معهم من يساعدهم في ذلك، وأن يؤدوا أجور معاونيهم من عندهم. وهو عُرْف قديم جداً عند الأهالي، ولقد أثبتت التجربة، دائماً، فعاليته وجدواه، فقد كان طموح العمال إلى الحصول على قسم من المحصول يحفزهم إلى الجد في العمل. في اليوم الموالي، دعينا، مرة أخرى، عند سيدي عبد الرحمن. فعدنا، من جديد، إلى السفينة في وقت متأخر من الليل. لن أنسى ذلك المسير ما حييت. فقد لاحظنا، وقت أن شرعنا نعد القارب للرحيل، أن الريح أخذت تعصف رويداً رويداً. فطلبت إليَّ السيد والسيدة مانيسمان أن يمضيا الليلة في القصبة، ويتركاني أمضي لوحدي. لكنهما رفضا. فلم أجلد بداً أن أذهب بهما، ممتلئ النفغس غماً. صارت تواجهنا أمواج عالية، فلا تني ترتد بنا إلى الوراء. واقتضانا الأمر ساعة إلى أن أفلحنا في تخطي العوائق الأخيرة، وندخل الخمياه الهادئة. وقد ظلت الريح في اضطراب متزايد. ومن حولنا الظلام دامس. فكنا نسير على هدي إضاءة المرساة، لولا أنها كانت كثيراً ما تحجبها الأمواج. فلم نكن نستطيع تقدماً إلا ببطء. ولم يكن بوسعنا التقدم إلا خطوة خطوة. ولم يكن بين الجدافين من ينذرنا بالتعب غير أربعة! ولم يكن لنا سبيل إلى أن نرجع القهقرى بأي حال، وإلا لكان ارتداد الموج قضى علينا. لم يكن لنا بد من التقدم. فتارة من فوق المرتفع البحري، وتارة أخرى في أسفل في جوف الموج. وقد أبانت السيدة مانيسمان عن شجاعة منقطعة النظير. فقد كانت بكلماتها الحادة والمسلية، تشجع الرجال، الذين بدأوا يتعبون، على مضاعفة مجهوداتهم. فصرنا نقترب، رويداً رويداً، من السفينة، التي جعل البحارة يصبون منها الزيت في الماء لتهدئة الموج من حول القارب. واقتضانا قطع المسافة القصيرة التي لا تزيد عن أربعة كيلومترات ساعتين كاملتين. ثم ابتدأنا عملية المسافنة (نقل الركاب من القارب إلى السفينة (المترجم). فكانت صعبة كذلك؛ لأن القارب إما يكون فوق مستوى المضمار ، أو يختفي في الأعماق. بيد أننا أفلحنا في الوصول من غير ما أضرار، وإن كنا مبتلين حتى النخاع. وإذا رجلان يتداركاننا في الوقت المناسب؛ فيمسكا بأيدينا، ويصعدانا إلى السطح. ووجد السيد مانيسمان أن عليه أن يكافئ الرجال بما يذلوا من شجاعة وجلَد، فأعطاهم مبلغاً كبيراً من المال. وسلَّمني زالوڤسكي بعض الصحف الفرنسية التي تصدر في مدينة وهران. فأمضينا الأيام الموالية في قراءتها، إذ اضطرنا سوء أحوال الجو إلى البقاء على ظهر السفينة. ولقد أفردت تلك الصحف أعمدة طويلة لتصوير الأحداث التي شهدها «مار تشيكا»، من المنظور الفرنسي بطبيعة الحال. فقد صوَّرت قبطان سفينة «زينيث» في صورة شهيد، وصورتني تلك المقالات في صورة متوحش متعطش إلى الدم، أحقد عليه وأبغي قتله. ولقد تسلينا كثيراً بهذه الأكاذيب وهذه الترهات. كنت أتحاشى السيد ساي، في هذه الأيام الأخيرة. ولقد أرسل إليَّ مع زالوڤسكي يستفر عن سبب امتناعي عن زيارته. وقد كنت أجدني عاجزاً عن غض طرفي عن عملية مار تشيكا. لكن، وإنا كنا عدووين، فإن يإمكاننا أن نشرب كأساً من الشامپانيا في مرسى ساي؛ تلك المنطقة المحايدة. وقد كان السيد والسيدة مانيسمان يرغبان في رؤية الأشغال الجارية في ذلك المرسى، ولذلك قررت قبول دعوة إليَّ، والقيام بزيارته. ولقد توجهنا إلى مرسى ساي على صهوات الجياد، وسرنا على ساحل البحر. كان السيد ساي طريح الفراش، بعدما أصيب في إحدى قدميه. فاستقبلنا اثنان من رجاله، وتوجها بنا إلى قاعة الأكل. ولقد كان ترحاباً بارداً ومتكلفاً. ثم قدِّم إلينا الشاي، فرفضته. وطلبت بدلاً عنه كأس كونياك. وتحدثنا حديثاً قصيراً في عملية «مار تشيكا»، ثم افترقنا. ولقد علِمت، بعدئذ، أن حضوري، باعتباري ذلك الپروسي المتغطرس، قد كان مصدر إزعاج كبير، فقد كنت أشن حرباً لا هوادة فيها على فرنسيي «مار تشيكا»، ثم عدت أدراجي هانئاً على صهوة جوادي عبر منطقتهم. ومن غريبٍ أن جميع الذين قبِلوا بتناول الشاي قد اشتكوا، بعدئذ، من مغص في معداتهم، بينما أنا، الذي شربت الكونياك، كنت في أحسن حال! أمضينا ليلتنا مفترشين بعض الحشايا، تحت خيمة القائد الأعلى؛ العاجة هوام. وكانت تهمي مدراراً، حتى استحال داخل القصبة إلى ما يشبه مستنقعاً عميقاً. وظلت الشمس محتجبة، لم تطل إلا في ظهيرة اليوم الموالي، لكن بعد تلك الليلة، لم يكن بمقدورها أن تبعث فينا الحماس لركوب رحلات أخرى، ولقد صعدنا إلى السفينة، وحده ابن الطاهر لبث في البر؛ إذ توسم في الجو ما ينذر بالسوء. واستمر الجو على اضطرابه في الأيام التالية، ما تعذر معه أي اتصال مع البر، وقعد بنا عن نقل قائدنا العجوز وكانت المؤونة التي بأيدينا في سبيلها إلى الانقضاء. توجهت، في 7 أبريل، إلى مليلية، وهناك علِمت بانتهاء أشغال مؤتمر الخزيرات. أسفر المؤتمر عن اتفاق ممثلي القوات الأجنبية، وتعيَّن على المغاربة أن يُوقِّعوا على الپروتوكول. وتركَنا السيد والسيدة مانيسمان، وتوجها إلى مدينة فاسوطنجة، في غمرة فرح المهربين الفرنسيين الذين أزعجهم أن نحشر أنوفنا في شؤونهم، غير أننا وجدنا مشقة في الافتراق عن ضيوفنا، فلقد بدأنا نألفهم ونقدرهم أثناء مقامنا الأخير على متن السفينة، وقد أسهما كثيراً في إدخال شيء من التغيير على رتابة حياتنا.