تجلس قبالة النافذة المطلة على الحديقة الصغيرة حيث خيوط غرسة اللواية تمد عروشها على الحائط القصير وتمتد بعيدا في اتجاه اليمين يلاعبها الريح بحب ولطف..تشتد المداعبة ويقوى الهبوب حتى تنزل زخات المطر خفيفة يصل رذاذها لزجاج النافذة. تطل على أرض الحديقة من وراء الزجاج فتبدو لها القطة الصغيرة السوداء قد وثبت تفتش لنفسها عن مخبأ وراء شجرة الحامض العالية...ينط وراءها قط، ثم يختبآن وراء نبتة قصيرة في زاوية الحديقة، يحتكان ببعضهما جداا.. ثم يغيبان في قصة مواء حميمية.. لا تغيب دهشتها وهي تتأمل جنبات الحديقة. في زاوية أخرى يظهر لها قفص الحديقة يضم طائريها المغردين، أحست فجأة بظلم نحوهما..كم جميلا أن تخرج الآن لعتق حريتهما، لكن فكرت في ما هو موجود خارج القفص.. البرد الشديد ،والمطر والضباب الذي يغلف الأفق.. وهذا النسيج البري من الطيور الذي يتربص بعصافير الجنة مثل عصفوريها.. قد يكفر أحد منهما بالثاني بمجرد الخروج إلى هذا الفضاء الشاسع والتحليق في سمائه الصاخبة .. عادت لمكانها تنتظر انقشاع الغيم عن إطلالة النافذة ..وقلب القطة.. فجأة سمعت صرير الباب الخارجي المطل على الطريق الهادئ..انتفضت كورقة في مهب رجل.. أطلت من النافذة، فظهر لها متعبا ومثقلا بهم المسافة والضجر.. وتلك الطريق الطويلة المعبدة بينهما بالانشغال وعسر الترقبات في الذاكرة المشحونة بالآلام الغائرة بعمق صرير الباب ..وثقب المفتاح ونظرة الإنتظار واستعجال الدخول قبل أن يسطو عليك زمن ثالث أو رابع ..وفي الأخير يسكن وقت لا يعترف بدوران الأرض أو حكم التاريخ الذي مسح الضوءمن ذاكرة العمر.. فحين أخرج المحمول من جيبه ..توردت وجنتاه فنطت تنهيدة الخوف... زغرد الطائر في قفص العصفورة..و انتفض القط يراقب القطة، لعل الفئران تستغل غيابه.. لكنه هو نفض عقب سيجارته بيسراه، وباليمنى ثبت الهاتف على أذنيه.. وتكلم طويلا.. ضحك مليا. وهي تترقب نهاية الحكاية .. كانت تعاني كمن يشاهد لقطة عنف في فيلم سينمائي..وفي لحظة غلفت وجهه ابتسامة عريضة ثم انهى المكالمة... وأخيرا ،نزع المفتاح من الباب ،..إرتجفت يداه..فارتعش قلبها ..لو كان قلبها يشتغل بزر كهربائي لحصل حريق في الذاكرة.. عادت منكسرة حزينة تلم سعة وحدتها ،،،تخيط مطبات الفراغ، وتترقب ما قد لا يأتي.. تعرج على ذكريات الأحلام البعيدة الحبلى بالفرح والألم... تضحى مكعب نرد رهينة المخاوف المتربصة بها من كل صوب... هكذا لاترد حين أكلمك؟لا إياب لك غير وشمة ظاهرة في ساعد الفجر.. قالت ، دعه قريبا من العين حين أتذكره يمسك سيجارة بيمينه وبيسراه يحمل هاتفا مشحونا بعطر لكل النساء.. فلا خوف من ذل غياب يكتمل عند عتبات الأسرار.. تعالوا أخبركم الآن عن سر مكالمة كانت السبب في تلك البسمة الوردية ..المعطرة ..العريضة ..التي أثنته عن الدخول..إحساس أكيد لامرأة لها دراية جغرافية بمواطئ الخوف...لقد كلمها قبل قليل " عزيزتي .. لقد بعثت لك السائق، حضري لي ما يعجبك من لباس..وما يلزم للسفر، قد أكون قبل ساعة في المطار..، تعرفين رحلات العمل دائمة..وأنا مضطر للذهاب مرة أخرى".