قضاء مستقل ونزيه، قريب من المتقاضين، يوفر شروط المحاكمة العادلة ويعتمد مبدأ الحكامة الجيدة، مطالب من بين أخرى طالما نادت بها مختلف فعاليات المجتمع المدني والسياسي المغربي، وخطت أولى خطاها نحو التحقق مع إطلاق الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة. وبالنظر لتشعب مكونات منظومة العدالة وارتباطها بعدد من المهن القانونية والقضائية، فإن ورش الإصلاح الذي أطلقه وحدد مرجعياته ومحاوره جلالة الملك محمد السادس، يتأسس على مقاربة تشاركية إدماجية تنخرط فيها كافة الفعاليات الحقوقية والسياسية والمدنية لضمان إصلاح شمولي ومتكامل ينهض بقطاع العدل وبالعدالة الاجتماعية. وحتى لا تبقى المقتضيات الجديدة للدستور التي تهم بالأساس إخراج القضاة من وصاية وزارة العدل والسلطة التنفيذية عموما، وتقوية مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية وتعزيز استقلاليتها، وإقرار حق القضاة في تأسيس الجمعيات، وتوفير ضمانات لاستقلال السلطة القضائية، عصية عن التنزيل فهناك إجماع على ضرورة تفعيلها بواسطة قوانين تنظيمية تترجم بوضوح الاستقلالية المنشودة. وفي هذا الصدد، أكد محمد أقديم عن جمعية هيئات المحامين بالمغرب، على ضرورة توفر ترسانة قانونية ومراجعة بعض القوانين السارية وتجاوز الشوائب التي تم الوقوف عليها في مجال استصدار القوانين المرتبطة بهذا الميدان، وملاءمتها مع المبادئ العالمية حتى تمكن من تحقيق العدالة، داعيا إلى إصلاح «القانون التقليدي» الذي ينظم مهنة المحاماة وتطويره اقتداء ببعض الأنظمة الانكلوسكسونية التي لها تقاليد عريقة في مجال الممارسات القضائية والتي «يشارك فيها المحامي بشكل فعلي» في حماية الحقوق والحريات. وأشار إلى أنه يتعين تفعيل بعض القوانين والمبادئ من قبيل مبدأ قرينة البراءة، واعتبار الاعتقال الاحتياطي تدبيرا استثنائيا عكس ما يحصل على مستوى الممارسة، وتخويل الدفاع النيابة منذ انطلاق مسطرة التقاضي لقطع الطريق على المرتشين. وقال إن من شأن المقتضيات التي جاء بها الدستور الجديد أن تشكل ركيزة لإصلاح القضاء، مشيرا في هذا الصدد إلى مبدأ استقلال القضاء، وتخويل القضاة إمكانية إنشاء الجمعيات، وضرورة ضمان فعالية المجلس الأعلى للقضاء وتنظيمه وفق قانون متطور ينظم اختصاصاته وطريقة عمله. من جهته، أعرب عبد العزيز النويضي، الرئيس السابق لجمعية «عدالة» وعضو الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، عن تفاؤله لكون الإصلاح يأتي في ظل مناخ سياسي جديد وحكومة جديدة، فضلا عما يحظى به من دعم قبل جلالة الملك محمد السادس الذي ما فتئ يدعو إلى إصلاح عميق وشامل لمنظومة العدالة، وجعله في صدارة الأوراش الإصلاحية الكبرى للمملكة. وقال إن هذا الحوار الوطني سيحدد بدقة الأهداف المرجوة من الإصلاح والتي ترتبط أساسا باستقلال القضاء وتخليق الممارسة القضائية وتسهيل ولوج المحاكم وكذا تأهيل الموارد البشرية وتأهيل منظومة العدالة برمتها. وبخصوص أهمية الجانب التشريعي كمدخل أساسي للإصلاح، قال رئيس لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، محمد حنين، إن الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة سيتوج بوضع ميثاق وطني يكون بمثابة مرجعية للإصلاح عبر ترجمة مبادئه إلى نصوص تشريعية تهم جميع المجالات المرتبطة بحقل العدالة، وأبرزها القانون التنظيمي للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة. واعتبر حنين أن أبرز ما يميز الإصلاح خلال المرحلة الراهنة هو قيامه على أساس مقاربة تشاركية إدماجية تتيح الفرصة لجميع فعاليات المجتمع المدني والسياسي للمشاركة في مسلسل إصلاح منظومة العدالة وانخراطها الإيجابي في هذا الإصلاح الذي سيتم بطريقة مبتكرة بغية تحقيق عدالة تضمن استقلال القضاء وحقوق المتقاضين وتواكب التطورات التي يعرفها المجتمع المغربي على كافة الأصعدة، وتشكل ركيزة لتحفيز الاستثمار. أما رئيس الغرفة الوطنية للتوثيقالعصري بالمغرب، محمد أمين التهامي الوزاني، فقد اعتبر أن الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة التي ترأس جلالة الملك حفل تنصيب أعضائها، يوم الثلاثاء الماضي، تعد بمثابة آلية سياسية في تدبير المقاربة التشاركية لإصلاح العدالة، مبرزا أن تعدد المشارب الفكرية والسياسية والمهنية لتشكيلة هذه الهيئة لا يمكن إلا أن يفضي إلى تدبير معقلن وموضوعي وفعال للحوار الوطني حول هذا الورش الإصلاحي، كما أن الرعاية السامية التي أضفاها جلالة الملك محمد السادس على هذه الهيئة من شأنها إعطاء قيمة مضافة أساسية لعملها. وأكد الوزاني أن الغرفة الوطنية للتوثيق العصري بالمغرب ستنخرط في هذا الحوار الوطني من خلال تقديم مقترحات بناءة تستمد مرجعياتها من واقع الاختلالات التي تم الوقوف عليها عبر عقود من الممارسة بهدف تقوية حماية المواطن ومصالحه وتخفيف العبء على القضاء وتيسير مهمته في البت في النزاعات المرتبطة بالعقود التوثيقية في حالة عدم التمكن من تدبيرها داخليا. وأعرب عن أمله في أن يشكل الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة مناسبة لتدارك بعض النقائص التي يتضمنها الإطار التشريعي الجديد الخاص بمهنة التوثيق العصري واستحضار الهاجس الإصلاحي في المراسيم التنظيمية المرتبطة به، وذلك في انسجام تام مع الخلاصات الرئيسية التي سيفرزها هذا الحوار. وفي نفس السياق، اعتبرت هيئة المحامين بالرباط أن الحوار «لا ينبغي أن يتبع بشأنه نفس المنهج الذي عرفته الخطط والبرامج التي قادتها الوزارة الوصية وتم بشأنها هدر الوقت الطويل والجهد الكبير». وأبدت الهيئة في بيان لها تخوفها من «إعادة نسخ التجارب السابقة»، داعية إلى ضرورة التعاطي الجدي مع إصلاح منظومة العدالة في إطار استراتيجية وطنية ترتكز على إشراك أكبر للفاعلين في قطاع العدل (هيئات المحامين بالمغرب والعدول والموثقون وممثلو الخبراء القضائيين والمفوضون القضائيون والنقابات الممثلة لكتابة الضبط). ومهما كانت المواقف حول إصلاح قطاع العدالة فإن هناك إجماعا على أن الهدف المنشود هو خوض إصلاح يستجيب لانتظارات المواطنين وينسجم انسجاما تاما مع روح الدستور الجديد الذي بوأ القضاء المكانة الدستورية التي تليق به كسلطة قضائية مستقلة.