السجال الرائج هذه الأيام حول دفاتر تحملات مؤسسات الإعلام السمعي البصري العمومي بقدر ما يثير قضايا جوهرية وتخوفات مشروعة ترتبط بالحرية وبالتعددية وبالأفق الحداثي لبلادنا، فإنه أيضا لا يخلو من بعض تجليات استغراب. إن المبالغة في الحضور بالنسبة لوزارة الاتصال، أي السلطة السياسية التنفيذية، بما في ذلك على مستوى تفاصيل البرمجة والتوجيه تطرح فعلا مشكلة مبدئية، كما أن الانفراد بالإعداد والصياغة وسرعة إجراء المشاورات، من دون حوار مؤسساتي واسع، من أجل الوصول إلى خلاصات مشتركة، تتشبث أولا بتطبيق ما جاء في الدستور الجديد، وتعزيز التأويل الديمقراطي الحداثي لمقتضياته، كل هذا يجعل من المشروع إبداء التخوف مما يجري، وأيضا الخشية من إعطاء الأسبقية للهاجس الإيديولوجي، بدل الانكباب أكثر على تطوير المضمون واحترام التعددية الفكرية وحرية الإبداع والانفتاح اللغوي والثقافي. لسنا هنا بصدد مصادرة حق الوزير المسؤول عن القطاع في المبادرة، ولا نحن بصدد التشكيك في نواياه الإصلاحية، لكن مع ذلك فالأمر يفرض اليوم تدقيق المبادئ وأيضا الإجراءات والمنهجيات. إن إصلاح التلفزيون المغربي لن يتم بنسخ بعض العادات التلفزيونية الرائجة في القنوات الحكومية الخليجية والمشرقية، كما أن تطوير المضامين، خصوصا على صعيد البرامج الحوارية والمادة السياسية ومواد القرب، لن يكون بمجرد أن ننوي ذلك، أو أن نقول له كن فيكون، وإنما بجعل الأمر أولا بيد المهنيين لإنجازه وتنفيذه، ثم الوعي بأن التلفزيون هو أولا فن وإبداع وصناعة، وبالتالي فرجة وجاذبية، ولذلك، فإن الأولوية تكمن في تمكين المهنيين من شروط سليمة ومحفزة للعمل، ليس فقط على المستوى المادي، وإنما أيضا على مستوى القوانين والأنظمة وجذب الكفاءات، ومن خلال مراجعة جذرية لآليات التدبير والتسيير، وتعزيز الحرية والاستقلالية، طبقا لقواعد الحكامة الجيدة والشفافية في التسيير المهني والإداري والمالي. وفي السياق نفسه، فإن قضايا مثل التعدد اللغوي والانفتاح على العالم والتنوع في البرمجة ليست مجرد كلمات بلا معنى، أو تفاصيل ثانوية، إنما هي من ضمن المقومات الرئيسية للرؤية المجتمعية، أي أنها محددات التوجه المراد لإعلامنا السمعي البصري، ولمجتمعنا بصفة عامة. وفي مقابل ما سلف، فإن الخروج العلني لبعض مسؤولي مؤسسات الإعلام العمومي لانتقاد توجهات الوزير الخلفي يعتبر أمرا مثيرا للاستغراب حقيقة، ويطرح أمامنا علامات استفهام كبيرة حول الخلفيات والتوقيت، وحول السلوك وقانونيته ومنطقه، خاصة أن هؤلاء الخارجين اليوم هم من يتولون زمام تدبير هذه المؤسسات منذ سنوات، كما أن موقف حكماء الهاكا يحتاج بدوره إلى كثير توضيح... إن الإصلاح اليوم يجب أن يقوم على المهنية وعلى المهنيين، وأن يرتكز على تشاور واسع، وأن يستحضر محددات الأفق الديمقراطي الحداثي لمجتمعنا، وفي هذا الإطار، فإن باب التدارك لم يغلق بعد، ومن شأن التسريع به أن يسد الباب على مختلف أوساط مقاومة الإصلاح. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته