تحل يوم 29 أكتوبر من كل سنة، ذكرى استشهاد المناضل الكبير المهدي بنبركة، ذكرى ما خبت يوما نار جمرتها من موقد الأجيال المتعاقبة، لما يزيد عن أربعة عقود ونصف، ولا خرت معلمتها من صرح التاريخ النضالي للشعب المغربي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ذكرى تأبى إلا أن تنتصب شاهدا، بظروفها وملابساتها، وقائعها ومحطاتها، أجيالها ورجالاتها، على مسار تاريخ المغرب إبان مقاومة الاستعمار وغداة الاستقلال وإعلان انخراط الشعب المغربي وقواه الحية في معركة بناء الدولة الوطنية ومأسسة عهد الحقوق والحريات. ففي خضم الأوراش الكبرى الذي فتحها المغرب غداة إعلان استقلاله، كان عملاء الطابور الخامس يتربصون بتجربة الحكومة الوطنية لإجهاضها وبالتالي تحويل ورش شق طريق الوحدة الذي كان يتقدم صفوفه الأمامية آنذاك ولي العهد مولاي الحسن، إلى دهاليز وقبور للقادة الوطنيين والتقدميين بدعوى المؤامرة والانقلاب على القصر. ولعل في قرار منع الحزب الشيوعي المغربي ومحنة حزب الشورى والاستقلال والتصفية الجسدية لبعض رموز المقاومة المغربية، وتنصيب المشانق لقادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية التاريخيين الفخاخ الأولى للإيقاع بالحركة الوطنية وشق وحدة صفها. ففي يوم 29 أكتوبر من عام 1965، أي بعيد أشهر على انتفاضة الدارالبيضاء ضد قرار بلعباس القاضي بضرب حق الآلاف من أبناء الشعب المغربي في التعليم، وبعد سنوات معدودة على إغراق انتفاضة الريف في الدم ومطاردة جيش التحرير بعد معركة «لا كوفيون» حتى الساقية الحمراء ووادي الذهب، امتدت أيادي عملاء وخريجي مدرسة الاستعمار الفرنسي، بعد اختراقهم للدولة المغربية واحتلالهم لمراكز القرار، لتختطف الزعيم الاتحادي من قلب العاصمة الفرنسية وتدحرج رأسه الشهيد على موائد الاستعمار الجديد ووكلائه الرجعيين. وعديدون هؤلاء من المغاربة الفرنسيين، خريجي هذه المدرسة التي خارت قواها الاستعمارية العسكرية بعد هزيمتها ب «ديان بيان فو»، حد استباقها للأحداث وتسريعها بمفاوضات «إكس ليبان» حول استقلال المغرب، ومن تم زعزعة التوجه الدوغولي المعادي للنزوع الهيمني الأمريكي على أوروبا ورسومات مخطط مارشال. وكان أن أورث حفدة فيشي الدولة المغربية رهطا من أمثال أوفقير لحاجة في نفس يعاقبتها، وهي حاجة ما لبث أن تبدت وكشفت عن هويتها الحقيقية، في الوقت الذي صار فيه المهدي بن بركة أحد أبرز نشطاء حركات التحرر العالمثالثية موضوع تقارير استخبارات الاستعمار الجديد وهدفا لمخططاتها، منذ أن أنيطت به مهمة إعداد أرضية مؤتمر هافانا للقارات الثلاث وبالتالي التأسيس لجبهة أممية في مواجهة التكالب الأمبريالي الصهيوني وخرائطه الهيمنية على العالم. ومن يومها صارت رأس المهدي مطلوبة، مثلما صارت العديد من زعامات ورموز الكفاح الوطني والبلدان الحريصة على سيادة قرارها الوطني، تتهددها الثورات المضادة والانقلابات العسكرية والعدوان الخارجي، ويكفي في هذا الصدد استحضار العدوان الثلاثي على مصر ومقتل الزعيم الكونغولي لومامبا والإطاحة بسوكارنو. وكان أن اختطف المهدي في واضحة النهار من عاصمة الثورة الفرنسية والمقر التاريخي لكومونة باريس، يومها صار دم الشهيد المهدي يرسم خريطة جديدة لوطن تتوزع نقط ركائزه وخطوط تماسه بين مغرب قوى الديمقراطية والتقدم ومغرب القهر والارتداد، وغداتها تحولت صراعات المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي العالمية إلى جبهات حروب إقليمية وجهوية عانت من ويلاتها شعوب وأمم القارات الثلاث بعد إجهاض مسارها التحرري التنموي الديمقراطي وشل قواها المناضلة. فمن المطالبة بالأمس بدم الشهيد المهدي بن بركة، إلى إقرار الجميع اليوم بضرورة إجلاء الحقيقة كاملة غير منقوصة، يكون قطار المغرب دولة وشعبا قد هم بولوج محطة العصر بعين لا تغشاها ويلات ماضيه وأعطابه التاريخية، بقدر ما تسع عدستها معضلات حاضره وفرصه الضائعة، لتشرئب من تم لاستشراف مستقبله بعيد عن كل قهقري أو ارتداد. وحسبنا في سياق هذه الذكرى، استحضار إحدى المقولات المركزية التي يخلص إليها اختيار المهدي، باعتباره نقدا لسلاح النقد، والقاضية بأن «سياسة الحقيقة هي السياسة الحقيقية».