سحرت قصص وحكايات «ألف ليلة وليلة» مخيلة قرّائها وسامعيها على مرّ العصور، نظراً لما نسجته عن عوالم الشرق الأقصى الخلابة التي كانت مسرحاً للكثير من أحداثها ولاسيما قصص أبطالها البحرية، وفي مقدمهم السندباد البحري فعرضت مشاهد متناثرة أخاذة عن الشرق، وعن برّه الحضاري الكبير في الصين والهند، وعن بحاره ومحيطاته المترامية الأطراف، التي تناثرت عليها مئات الجزر. والمدقق فيما ترويه تلك الحكايات عن الشرق الأقصى، يتبين مدى انتمائها الحميم إلى المُتخيل العربي في العصر الوسيط، إذ عكست في سرديتها صورة العالم كما تجسد في الثقافة العربية من دون منازع، ففي كل ملمح أبرزته تلك الحكايات عن الهند والصين، وعن بحار الشرق الأقصى، وجزرها القريبة والبعيدة الغامضة، نجد مصدر الكتاب التخيُّلي في سجلات الثقافة العربية ومدوناتها عن هذه العوالم، كما نراها بوضوح في مؤلفات: السيرافي، وبزرك، وابن بطوطة، والمسعودي، والإدريسي، وابن خرذابة، وغيرهم من الجغرافيين والرحالة، وأصحاب المدونات الأدبية، وأصحاب «العجائب»، كالقزويني، والدمشقي. وقد نتج من هذا التأليف الكثيف عن الشرق الأقصى، وتداوله الواسع في سوق الثقافة العربية - بما يتضمنه هذا التأليف من مشاهد وحكايات واقعية، وأخرى مُتخيلة. التأليف العربي صهرها في عمق الثقافة العربية لقد ركّز الباحثون المعاصرون، والأوروبيون خاصة، في دراستهم ل «الحكايات» على البحث عن الراوي الأول لها، وعن نواتها القصصية، فمال بعضهم إلى إرجاع تأليفها إلى مؤلف هندي، وادعى أن نواتها القصصية ترجع إلى الهند، ولكن الدارسين عموماً، أبقوا الفضاء الثقافي، الذي تختزنه «الليالي»، وهو عربي بالصميم، خارج الدراسة الجادة وخصوصاً صورة العالم الشرقي الذي نسجته الليالي وقدمته إلى الجمهور العربي. وكان قد تناولها بعض أعلام الثقافة العالمية العربية، في العصر الوسيط، من موقعهم كممثلين للثقافة العربية الرسمية، فنظروا إليها باستخفاف، كحالهم مع الثقافة الشعبية، ومع الروايات المحكية، فأشار ابن النديم (383 ه - 993م) إلى «الليالي» في كتابه (الفهرست)، فأرجعها إلى أصولها الهندية البعيدة، معتبرها من جملة الخرافات، المتداولة في الأوساط الشعبية غير المتعلمة، وذكرها تحت اسم «هزار أفسان»، ومعناها «ألف خرافة»، غير أنه في رواية أخرى، في كتاب «الفهرست» نفسه، ذهب إلى تأكيد تأليفها العربي، فكتب «ابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري صاحب كتاب (الوزراء)، بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسماء العرب والعجم والروم وغيرهم، وأحضر السمّارين، فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون، واختار من الكتب المصنفة، والأسماء والخرافات ما يحلو لنفسه، فاجتمع له من ذلك أربعمئة وثمانون ليلة، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتمة ألف سمر«. وفي كل الأحوال، فإن «الليالي» أكانت من القصص التي بدأ في تأليفها الجهشياري، أو من نواة قصص هندي، أو غير ذلك، فإنها «لم تكن على هذه الصورة بعينها التي استقرت عليه اليوم، أو في القرون الماضية، فالمترجم منها عن الهندية، أو العائد إلى الجهشياري لم يكن سوى النواة، أضيفت إليها قصص كثيرة، لا نستطيع أن نحدد تاريخها، غدت بمجملها صورة لحياة شعوب الدولة الإسلامية، أو المتصلين بها». وبصرف النظر عن الأصول الأولى للنواة المؤسسة ل «الليالي»، فقد أضاف إليها التأليف العربي حكايات وأشخاصاً، وأوصافاً ومشاهد، جعلها تنصهر في عمق الثقافة العربية، لتصبح جزءاً من متنها، فعكست مُتخيلها عن العالم، وامتزجت العناصر الهندية، إن وجدت في صلب حكاياها العربية، واكتسبت شخوصها روحاً عربية - إسلامية، وكستها الأخيرة لحماً ودماً وخيالاً، لذا لا يمكن التعامل مع هذا الأثر العظيم إلا بوصفه ينتمي إلى الأدب الشعبي العربي، وإلى عواطف الإنسان العربي وعقله، ورموزه، وقيمه ونسقه الثقافي. وقدمت مغامرات السندباد البحري ورحلاته مشهداً مهماً من حكايات ألف ليلة وليلة البحرية، التي جمعت إلى جانب قصص بحرية أخرى الكثير من قصص البحارة جوابي الآفاق اختلط فيها خيال مؤلفيها المجهولين بجملة من الوقائع والمعارف عن برّ الشرق الأقصى وبحوره وجزره، بتصورات الجغرافيين العرب، وأصحاب مدوناتهم العجائبية عن هذا الشرق، وكما كتب كراتشكوفسكي: «إن أسفار السندباد انبعثت من الوسط نفسه الذي نشأت فيه قصص التاجر سليمان، وفي مواصفاتها ذاتها، أي في سيراف والبصرة وبغداد، وأما مسرح حوادثها فهو الهند وأرخبيل الملايو، وقد أمكن تحديد أماكن بعض حوادثها بكثير من الدقة». وارتبطت رحلات السندباد البحري، والقصص البحرية الأخرى، في «الليالي» بعصور ازدهار الحضارة العربية، وبتطلعاتها للاتصال بالعالم، والتعرف إليه، وتبادل المنافع والأرزاق معه، وتميزت أيضاً، بالتقاطها المشاهد لماحاً، فهي لا تتوقف عند الوصف التفصيلي للمدن، بل يتميّز وصفها بخلطه بين المدن وأيضاً بين أعلام التاريخ، والمواقيت، وكلما بعد المكان عن بلاد العرب، لاحظنا ازدياد الغموض والتعميم في ذكر البلدان، حتى تصبح خيالاً، فتبدو أجزاء الهند ومدنها متماثلة، وإذا توجه أبطالها شرقاً صادفوا، جزر الكافور، والواق واق، وجزيرة النساء، وجزائر القرود، والكثير مما كان متداولاً بين العرب آنئذ عن عجائب الهند ومحيطاتها، وإذا كنا »وجدنا بعض القصص التي تقع في أرض الهند تغلب عليها المواعظ والحكم، فذلك لأنها مقتبسة من الصورة الشائعة عن الهند، في ذهن العرب والمسلمين في العصر الوسيط«. ألف ليلة وليلة البحرية ومن أهم الكتاب الذين كتبوا عن قصص ألف ليلة وليلة الكاتب شمس الدين الكيلاني حيث ضم كتابه «صورة الشرق الأقصى والعالم في حكايات «ألف ليلة وليلة» البحرية أمثلة عديدة من حكايات البحر مثل قصة بنت الملك السمندل وحكاية بلوقيا وكذلك يذكر المؤلف حكايتين طويلتين، هما حكاية قمر الزمان بن الملك شهرمان وتبدأ من الليلة 173 وتنتهي بالليلة 249، وحكاية سيف الملوك وبديعة الزمان التي تستغرق روايتها ثماني وستين ليلة من شهرزاد، وإلى جانب تلك القصص التي لا يلعب البحر دوراً مركزياً في حوادثها وفي مصير أشخاصها هناك في (ألف ليلة وليلة) العديد الآخر من الحكايات يصنفها المؤلف بين (قصص البحر) إذ يحتل البحر موقعاً مؤثراً في حوادثها وفي مصير الشخصيات، وفي مقدمتها قصة الصعلوك الثالث (الملك العجيب) وحكاية عبد الله البري وأيضاً حكاية حسن البصري وحكاية جانشاه وأخيراً حكاية السندباد البحري الشهيرة حيث يمتطي الراوي صهوة العجائبي والخارق القائم على مرجعيات عقائدية عديدة. أما أكبر الحكايات البحرية في الأدب العربي فهي حكاية السندباد البحري، لا بل يمكن اعتبارها من أهم قصص البحر في آداب العالم بأسره وتشترك مع قصتي عبد الله البري وحسن البصري في كونها قصة بحرية مكتملة، أو أنموذجاً متكاملاً للحكاية البحرية، بيد أن البحر في حكاية عبد الله البري والبصري كان وسيلة إلى بسط اعتقاد فلسفي أو ديني، أما البحر في حكاية السندباد فهو الغاية التي تنتهي إليها القصة، ويأخذ البحر مكان بطل قبالة بطل آخر هو السندباد، أو يدخل في حوار معه، حوار يتسم بالقسوة والعنف والتحدي أحياناً أو بالاطمئنان والرضى ونداء الكلمات أحياناً أخرى. وقد استثارت هذه الحكاية ومعها حكاية علاء الدين وعلي بابا مخيلة الرجال والنساء الأوروبيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وتجاوبت مع ميولهم الدنيوية في الإنجاز والمغامرة. فقد تعرف العرب إلى الشرق الأقصى مباشرة بوساطة التجارة والترحال إلى أصقاعه وعن طريق معارفهم الجغرافية وتأليفهم التاريخي والأدبي. أما المفكرون العرب والمسلمون فقد استندوا في معرفتهم للعالم على رحلاتهم وعلى الأخبار التي استقوها من الجغرافيين - الرحالة والأسرى والجواسيس والتجار. كما استفادوا من خبرات الشعوب الأخرى وعلومها المترجمة للعربية، غير أن سعة تلك المعلومات وشمولها اصطدمت بالإطار النظري الذي تصوروا به العالم أو الكرة الأرضية وهو إطار تشكل لديهم تحت تأثير ما اقتبسوه من علوم الهند وفارس أولاً ثم اليونان ثانياً، وأهم تلك النظريات التي تحولت إلى إطار معرفي ضبطوا فيه وأعاقوا انفتاح معرفتهم هو تقسيم الأرض المعمورة إلى سبعة أقاليم متسلسلة من الشمال إلى الجنوب فرسموا على هذا الأساس التخيلي خطوط طول وهمية تتقاطع مع خطوط عرض وهمية هي الأخرى، حددوا به الأقاليم السبعة وأجزاءها المفترضة. وقد أضاف الرحالة وأصحاب العجائب معطيات معرفية وتخيلية وأبعاداً جديدة وتجارب جديدة تعتمد على المشاهدة والتجربة المباشرتين لوقائع رحلاتهم في المحيط الهندي وجزره وسواحله ومزجوا فيما تركوه من مذكرات بين الوقائع والمتخيل.