تحت الزيتونة الشهيرة المعمرة، ذات الجذع الغليظ الضارب في الطين، والأفرع المتقصفة، والظل الوثير، كان أبي الشيخ الستيني، الداكن السمرة، ذو التغضنات المقدسة، والفم الأدرد، يطيل الجلوس وكأنه ملك متوج على ممالك متوهمة، كان يسمو كعادته كلما أطلت النظر إليه، هالته الشاحبة تبعث الأسى في قلبي، لكم قارعته الحياة!، وأنشبت مخالبها الذئبيةفي براحه!، لكنه كان يستمد صلابته من هشاشة العالم، كثيراً ما خشيت عليه، ماذا سأفعل لو مات أبي؟ يكبر خوفي فأراه في الحلم ميتاً فأبكي بكاء هائلاً وأصرخ عليه حتى تجفّ نبعة صوتي وأخاف من حلمي عليه فأركض وأسرده على أمي بصوت متهدج فتطمئنني قائلة بصوتها الوارف كخيمة نبي -لقد جاءه عمر جديد ومديد يا بنيتي يستقيم اعوجاج عالمي، وتتقافز فراشات الفرح في عتمتي، وتنقشع غشاوات خوفي تترى ألاليت دقات قلبي مجتمعة كلها تكون من نصيب أبي، ألا ليت كل الاعمار تصبّ في عمر أبي فيبقى خالداً أبد الدهر ليظلنا بظله أرقب حشيته المتفتقة، وسيجارته الهيشية تستقر في فمه الذي يشبه رطبة سوداء من معاقرة التبغ والشاي حيث تستقر ركوته دائماً وأبداً بجانب جمر لا يغضي له جفن فيهشّ زماني إليّ ها هو يسامر وحدته نهاراً، صارخاً هنا، ومتفقداً هناك، زارعاً فسيلة، فاتكاً بآفة، راكضاً وراء نعجة تطاولت على أفرع الشجر، فينهم عليها زاجراً متوعداً، يخاف على الشجر من أنفاس الماعز الوبالية، لا تراه إلا مشمراً عن ذراعيه، منحنياً على فأسه، يقلّب بطن الأرض لتتنفس، فالأرض لها رئات بعدد الشهداء الكثر الذين تواروا فيها، جثته لا تهمد أبداً، ولا يداعب جفنيه الكسل، وحين يبلغ الكدح مبلغه,يجد ضالته من الراحة تحت الزيتونة الهرمة، ذات السمت الحسن، والريح الطيب، التي عاشرناها وعاشرتنا وصارت فرداً عزيزاً علينا فهي تنفث علينا من روحها في كل حين حين تنقشع غمة اليوم ,يقرقع بجسده المتهالك، عائداً إلى المخيم، ويحثّ خطاه إلى بيتنا المغبون، قدماه وتدان جبليان يخبّان، وأنفاسه قطيع أحصنة برية تهدر في صمت يتناول طعامه أو بالأحرى -يمتصه- ببطء كعادته وفي صمت بليغ حيث لا أسنان تساعد على الهضم ويتبع عشاءه بشاي حالك السواد كحلكة أيامنا ثم يغط في نوم عميق -حكم فعدل فنام فأمن- شخيره السمفوني يصل حتى فراشى فأشعر بفرحي ينثال لأنه هنا جهة القلب حيث أحب أن يكون، أفز من نومي لأتامله في صلاة خاشعة، فأجد فمه الأدرد مفتوحاً نصف فتحة، وأنفاسه منتظمة كدقات الساعة، وعيناه الحوصاء كحبتي زبيب سوداء غافيتين في دعة في محجريهما وقد عقد يديه على صدره في أمان لا حدود له كان الأمن ينبع من أعماقه السحيقة الممتدة كامتداد الخير في الأنفس وعند بزوغ الضوء يعدّ إبريق الشاى وفق طقوسه -مٌرٌ وثقيل- فيرشفه متأنياً وأيضا في صمت بليغ ورثته عنه فيما بعد- ثم يستلّ جسده القصيرالناحل ويجرجر ساقيه العجفاوين إلى الحقل الذي ينتظره في لهف كانت روحه تسبّح للأرض تسبيحاً عميقاً، وقلبه يهوم في تلافيف الأشجار والخضرة الشاهقة، يتعهد بالرعاية أرضاً لا تمتّ له بقربى ولا نسب مالكوها يقبعون في دعة المدينة وغفلتها، ولا يزورون المكان إلا لماماً خاصة حين يأتي الصيف برمضائه تكون رئتهم التي يتنفسون منها عاصرت الزيتونة أحداث عائلتنا بعجرها وبجرها وتحت خضرتها المباركة عٌدّ مهر أختى البكر على قريب لنا من طرف جدتي رحمها الله قميء المنظر جاهل، أقرب للعبط منه إلى العقل، وحيد والديه، لا يفهم شيئا من الحياة سوى رعي الخراف، وسقاية الشجر، وتخصيبه بروث البهائم، كان فرح أختي غامراً بعريسها كفرحة فقير بقرشه الأخير، تقبلناه على مضض خاصة أخي الأكبر الذي كان يفتعل المشاكل كلما صدف والتقى به في بيتنا كانت أختي ذات الكفل المترجرج والغداف اللامع والجسد العفي كثيرة على هذا الأبله الضئيل وعدّ مهري تحت الزيتونة ذاتها ألف وخمسئة دينار عداً ونقدا ثم أتبعوا عد المهر بفاتحة وتثاؤبتين كان ابن عمي المتزمت، ذو الرؤى المأزومة، والفكر المتقوقع قد اصطفاني كما اصطفى الله مريم فقرر بين عشية وضحاها أن أكون زوجته وكان له ما أراد وعن هذه الغصون المعراجية الواثقة سقط أخي الصغير وهو يطارد يمامة غررت به وأغوته فكسر حوضه وبقي في الجبس إلى أن تعافى واحتفلنا بشفائه في ظلها السامق وفي كوخ من الخوص أقيم بالقرب من شجرة الزيتون أخفينا أخي الكبير حين أصيب برصاص العدو وبقي أربعين يوماً تعد له أمي المرق حتى التأم كسره واستطاع المشي ثانية وتحت شجرة الزيتون ذاتها وجدنا أبي نائماً نومته الأبدية عاقداً ذراعيه على صدره وعيناه مغلقتان على سر الأرض كما كنت أحب أن أراه دائما.ً