عراقية مغتربة بجذورها الأصيلة، هي المبدعة التشكيلية العراقية المقيمة في الدانمارك نوال السعدون التي تتفرَّد بتجربة جمالية ثرية ومتنوِّعة ومليئة بالإنتاج المؤسَّس على خلفية معرفية واسعة. فهي تمثل وجهاً مضيئاً ووضَّاءً داخل المشهد الإبداعي العربي بفضل منجزها الفني الرَّاقي والمؤثر.. ففضلاً عن معارضها التشكيلية في بلدان عربية وأجنبية كثيرة، وعضويتها في اتحاد الفنانين العالمي وكذا انتمائها لعائلة فنية، فقد سبق لها إنجاز أفلام تسجيلية بمسحة فنية تعبيرية لها علاقة بالصور الشخصية الأرشيفية والفوتوغرافيات المفاهيمية التي تبدعها.. -1 بواكير التميُّز منذ تكوينها ودراستها الفنية الأولى برحاب معهد الفنون الجميلة في بغداد، قرَّرت الفنانة نوال السعدون ألاَّ تشبه أحداً..أرادت أن تكون هي ولا أحد. من هنا تشكلت لديها الرَّغبة في التفرُّد عبر تحطيم موديلات الرسم الجاهزة وتجاوز أنماط الرسم المعتادة والسائدة. وقد نما نضجها الفني وتفتق كثيراً بعد إتمام الدراسة في أوروبا، مما أتاح لها إمكانيات التجريب والسفر وزيارة المتاحف العالمية وإقامة المعارض الفنية والمشاركة فيها، من بينها معرض فني فردي حول الحرب العراقية الإيرانية وتأثيراتها على المنطقة. هناك تأثرت بالاتجاه التعبيري في التصوير والنحت، ما جعلها تتخصَّص في إبداع أعمال فنية تتمركزها صور الحزن والموت على امتداد عقود من النفي والعزلة القسرية. هذه الأعمال الفنية التأسيسية عكست منذ البداية السمات الأساسية التي صارت عليها تجربتها الإبداعية، فهي تتعامل مع "سيكولوجيا الأمة" (كما تقول)، تعيش مأساتها وسط إبداعاتها ولا تريد الخوض في تفاصيل الأشياء على نحو سردي تقليدي بقدر ميلها نحو التعبير الحر عن ذاتها وما يختلجها من مشاعر فياضة محمَّلة بالقلق والحزن والرَّغبة في التصدِّي للهزائم ومحاربة خيبات الأمل بإبداعات فنية وجمالية ساكنة في وجدانها. فهي ترُوم من خلال تجربتها تجاوز حالات الخوف والضيق، ومن طقوسها الإبداعية الخاصة أنها داخل المحترف، وخلال لحظات التحضير للرسم والصباغة، تحاور ألوانها قبل وضعها على القماش، ويحدث أن تشرع في البكاء عقب اكتمال اللوحة، وأحياناً ترقص مثل صبية صغيرة. -2 الاكتواء بنار الهجرة تبدع الفنانة التشكيلية نوال السعدون بكثير من البوح الداخلي الصادق الممتلئ بالألم وتنسج قطعاً تشكيلية تعبيرية مفاهيمية تسعى من خلالها إلى إعادة تركيب ذاكرتها المنفلتة، الشاردة Vagabonde والعصية على الطمس والمحو لأنها قوية كصاحبتها الصامدة رغم اكتوائها بنار الهجرة لحدٍّ موجع بفضل عزيمتها التي تجسِّدها إبداعاتها التي تبدو كصياغة جمالية لقول فرناندو بيسوا F. Pessoa: "الرُّوح الإنسانية هي ضحية حتمية للألم، تقاسى ألم مفاجأة الألم، حتى مع ما تتوقعه من آلام". لا تشتغل يَدَا الفنانة نوال سوى بعد أن يفيض وجدانها وتتحرَّك مشاعرها تجاه ما يشهده العالم من خراب وما كابدته هي شخصيّاً من أحزان وحرمان ونفي لم يكن منسجماً أبداً في أيِّ شيء مع مواقفها وإنسانيتها وحبِّها لجذورها، لتجد نفسها فجأة وسط تربة أخرى برَّانية كلفتها جهوداً جهيدة للتأقلم مع حياة لا ترغبها. تمتد آلام الفنانة نوال السعدون إلى ما قبل تخرُّجها عام 1980 من أكاديمية الفنون الجميلة في بوخاريست، حيث أنجزت مشروعاً فنيّاً متكاملاً من الأشغال الغرافيكية التي جسَّدت فيها ومن خلالها المكابدات التي سادت وطنها آنذاك سياسيّاً واجتماعيّاً، إلى جانب تنفيذها لأعمال تصويرية وكولاجات وتركيبات أكثر تعبيرية عرضت البعض منها في متاحف وأروقة عربية وأوروبية متعدِّدة، وهي التي صاغت "بريد بغداد" (مظروفات فنية) لترسله إلى الضمائر الحية في العالم، لأنه يتضمَّن رسائل فنية وإنسانية صادقة قدَّمتها في أكثر من موضع عربي وأجنبي، منها معرض الخريف السنوي في خان أسعد باشا منذ عام 2018.. في محرابها، وداخل كل الفضاءات التي تتسع لإبداعاتها، تعجن الفنانة نوال ألوانها وموادها الطبيعية إلى جانب الزيت والأكريليك وتنسج كولاجاتها بمحبَّة خالصة وتحفر على الزنك وتداعب الفخار والخامات الترابية المماثلة لتصنع الأمل ولتمنح الحرية للمقهورين بإبداع لوحات ومطبوعات ومنحوتات (جماجم، أقنعة..) تبعث رسائل مدوية لإيقاظنا من غفلتنا وسباتنا العميق.. ويرى الفنان والناقد العراقي علي النجار أن "ثمَّة خلفية تقنية غرافيكية تربط أواصر غالبية أعمالها، إن لم تكن كلها. حيث خلفية الأعمال الملوَّنة المتقشفة، وملامح حفر الأجساد خطوطاً وألواناً. ووضوح الملامح وحدتها وحتى في منحوتاتها. هي تنشئ عالمها الافتراضي، أجساداً وملامح تحمل لوعتها، تأثيثاً متقشفاً برموز تدلُّ غالباً على مصدر مأساتها مع إشارات لا تخفى عن مأساتنا الجماعية، حيث العين قبر في بعضها". تخطيطات غرافيكية بارعة في مقابل ترسُّبات لونية كحلية وأخرى تكثر فيها الرمدة ممتزجة مع حمرة نارية تحمل في عمقها كآبة مرعبة..ووجوه مبجَّعة بملامح مشوَّهة تخرج منها أعين تدمع دماءً وإيدي ممتدة تنشد سلاماً مفقوداً مسيَّجاً بالأقفاص والمعازل وينخره صدأ الأغلال والأصفاد.. هنا تنحبس الأنفاس ويقف الضمير الحي شامخاً، شجاعاً ومِقداماً معلناً شجبه وتنديده الشديد لهذا العبث الذي يقرِّر مصير الإنسان.. -3 جماجم ضِدَّ ماكينات الخراب من عمق لوحاتها ومطبوعاتها المنسوجة بالأصباغ المحضرة والأحبار تصرخ وجوه ورؤوس ممزَّقة تحتج ضِدُّ كل زيف في مقابل أجساد متشظية متمرِّدة لا تهاب الموت والفناء والزوال.. وجوه ورؤوس مهشَّمة ومشوَّهة، موسومة، تظهر متشظية لتشهد على مجازر بشرية لا شيء يلملم جراحاتها سوى ألوان الفنانة وخيوطها الغرافيكية البنية التي تتشابك وتتلاحم لتحكي لنا قصص الموت والرُّعب التي نقرأها في عيون الأطفال ولوعات الأمهات.. قصص لعينة بتفاصيل موجعة لا تزيد الفنانة سوى إصراراً على مقامة الذعر والهلع والذهول بإبداع وجوه أخرى تحمل أقنعة غازية Gas Mask لتجنُّب استنشاق المواد الملوَّثة والسَّامة الناتجة عن الغارات الجوية والحرائق والتفجيرات بواسطة قنابل الغدر التي تسقطها القوى الغازية بدماء باردة فوق رؤوس الأبرياء.. أيُّ عنف مثل هذا الذي ذاقته وعاشته؟ فهي كانت ولا تزال تجد في أعمالها الفنية مساحات للتفريغ والاسقاط والتسامي Sublimation بلغة سيغموند فرويدS. Freud .. هي هكذا تتغلب على متاعبها اليومية وكلها طاقة متجدِّدة وحيوية إبداعية تتعالى على نزوات التدمير التي تفتعلها القوى الحاقدة.. وإلى جانب ما تُبدعه الفنانة نوال من تصاوير ومحفورات ورسوم غرافيكية وضوئية، ترعرت في داخل محترفها جماجم فخارية حائرة ومحيِّرة مصاغة بتقنية الراكو Raku اليابانية تبدو هي الأخرى مثقلة بالهموم اليومية ومنشغلة بسؤال الوجود والمصير.. فكم يكفينا من الجهد والجاهزية الذهنية والفكرية لكي نتعايش مع هذه الجماجم ونستوعب نداءاتها لرفع الحرج أمام إصرارها على البقاء والدفاع عن الوجود؟ كم نحتاج من الشجاعة للانحناء أمام هذه المخلوقات التي خرجت من رحم إبداعات حقيقية لتعرِّي عن واقع مأزوم لا يزال ينخر تاريخ وراهن الإنسانية ويهدِّد مستقبلها باستمرار؟ هي بالتأكيد جماجم من نوع تعبيري مختلف، لا تتكرَّر، صادقة وأمينة، منزوعة من اللحم ونابعة من عمق معاناة حقيقية. فهي لا تشبه الجماجم الكريستانية المصنوعة من قوالب الكوارتز الحجرية المنتشرة في الأسواق الأمريكية، ولا علاقة لها بجماجم جولي روجر Jolly Roger التي تظهر في راية القراصنة، ولا حتى بالجمجمة التي تتمركز لوحة "شاب مع جمجمة" التي رسمها فنان العصر الذهبي الهولندي فرانس هالز F. Hals منذ عام 1626.. وبقدر ما هي جماجم، هي أيضاً عناوين لقلوب مكروبة تتصارع من أجل تغيير مسارات الألم التي تغذيها قساوة الحروب والدمار، وكوامن نفسية مهزوزة مليئة بذكريات أليمة ومؤلمة. هنا، يشتدُّ الحزن ويُهيمن..الشِعر حزين والرسم كذلك بتواطؤ أخلاقي بين الشعراء والرسامين..والنحت صار عصيّاً على التشكل والتطويع والخزف أيضاً..كلهم يتقاسمون هذا الحزن المشترك حداداً على أرواح الشهداء.. وحده الفن القادر على هزم المآسي وقساوة الأيام، وتحويل التجربة الشخصية مع الألم إلى جماليات تخفف من حجم الفواجع ووطأة الضغوطات المتولدة عنه..ومن عمق التعابير الفنية المرتبطة بالكروب والأحزان تتبدَّى الصورة عبر شعاع الأمل الذي يخترق نوافذ صغيرة مفتوحة على الداخل والخارج معاً..هي سِرُّ التغلب على اليأس وهزم الفشل.. وهي ذي الفنانة المبدعة نوال السعدون المنشغلة باستمرار بلملمة جراحات الوطن وأخطاء التاريخ، لتظلَّ تجربتها التشكيلية تمثل بذلك درساً في الإنسانية والحياة ونبذاً صارخاً للعنف والتطرُّف والمآسي والفواجع التي تصنعها ماكينات الخراب والدمار والحروب القذرة التي لا معنى لها من الأصل.. بقلم: إبراهيم الحَيْسن