من المؤكد أن بلادنا تمكنت في السنوات الأخيرة من تحقيق اختراق ديبلوماسي مهم لفائدة قضيتنا الوطنية على الواجهة الدولية توج باعتراف تاريخي للولايات المتحدةالأمريكية لأول مرة بالسيادة الكاملة للمغرب على كافة أراضيه، بما في ذلك منطقة الصحراء الغربية المغربية، مما سيساهم في تعزيز الموقف التفاوضي للمغرب على الواجهة الدولية من جهة، وتعميق نفوذه الاقتصادي والسياسي على مستوى القارة الإفريقية ومع الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. كما أن حدث معبر الكركارات وتداعياته الإقليمية والدولية والموقف الحازم والذكي للمغرب في التعامل معه شكل نقطة تحول استراتيجي وفتح أفقا جديدا يتعين استثماره في اتجاه تسريع وثيرة الطي النهائي لملف هذا النزاع الذي طال أمده. غير أن هذه المكتسبات المحققة معرضة، في أي وقت وحين، لانتكاسة في ظل وضع إقليمي جيوستراتيجي هش، معقد ومتقلب. وفي سياق دولي تغلب عليه الانقسامات والتجاذبات والمصالح، ما لم يتم تحصينها بكل الوسائل الممكنة، والتحلي بأقصى ما يمكن من اليقظة والحذر، وعدم الركون إلى الانتشاء حد الثمالة، ذلك أن الخصوم والأعداء لن يؤلوا جهدا في تقويض كل هذه المكتسبات، وزرع الألغام في طريق ترسيخها وتحقيق المزيد منها. وقبل أن أخوض في ما هو متعين حاليا القيام به، لتأمين ما تحقق إلى حدود اليوم، وتطويره لصالح نصرة قضيتنا الوطنية، فإنني أرى من المهم التذكير ببعض البديهيات والوقائع التي تصب في صالح الموقف المغربي وهي: 1) إن المغرب باسترجاعه لصحرائه، فقد محا بذلك وبشكل نهائي حدودا لم تكن أبدا موجودة قبل أن تقوم كل من إسبانيا وفرنسا بوضعها، كما هو معلوم، في إطار تقسيم النفوذ بينهما بموجب عدة اتفاقيات خاصة بين سنوات 1900 و1912، وهي الحدود التي أجبرت إسبانيا ما مرة على تغييرها بعد حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، وذلك في إطار مفاوضات رسمية مع الدولة المغربية وليس مع طرف آخر. حيث استعاد المغرب منطقة طرفاية سنة 1958، وسيدي افني سنة 1969، وبعد ذلك الساقية الحمراء ووادي الذهب ابتداء من سنة 1976، وبالتالي فإن استمرار مناقشة النزاع المفتعل في الأممالمتحدة من خلال آلية لجنة تصفية الاستعمار هو أمر غير مقبول ويكرس وضعا كان قائما قبل 1976. 2) لقد أصبحت أطروحة تقرير المصير عبر الاستفتاء متجاوزة وغير قابلة للتصريف عمليا لعدم نجاعتها وعدم قابليتها للتطبيق، وما يدعم هذا المعطى كونها لم تعد تذكر في كل المقررات الأممية منذ مدة، وآخرها القرار رقم 2548 الصادر بتاريخ 30 أكتوبر 2020، الذي أقر بوجاهة الحل السياسي الواقعي العملي والمستدام لنزاع الصحراء، ومن تم فإن مبادرة الحكم الذاتي هي الحل الأمثل المتسم بالواقعية وبالمصداقية إذ هي الأساس الذي يقوم عليه مستقبل المنطقة ويكفل حقوق جميع الأطراف المعنية بهذا النزاع المفتعل. 3) تراجع عدد الدول التي تعترف اليوم بالبوليساريو إلى 28 دولة من أصل 89 سابقا، وهو ما يزيد من عزلة الكيان الوهمي ويفسح المجال أمام بلادنا لإقناع أكبر عدد من الدول المتبقية بعدالة قضيتنا الوطنية. 3) تعززت صورة المغرب كبلد موثوق، مسالم وجدير بالمساهمة في حل النزاعات الدولية على اعتبار الدور الإيجابي الذي اضطلع به في حل النزاع الليبي ونجاحه في تقريب وجهات النظر بين طرفي الصراع في هذا البلد الشقيق. 4) خرج المغرب مرفوع الرأس من حرب اللقاحات التي اشتعلت بين الدول ونجح في توفير ما يكفيه من اللقاحات ضد انتشار فيروس كوفيد 19 مما سيكفل تحصين 80% من المواطنات والمواطنين وتأمين مناعة جماعية في أقرب وقت. وبالتالي ضمان عودة البلاد إلى حياتها الطبيعية والتعافي تدريجيا من تداعيات الجائحة على الاقتصاد الوطني. 5) الانتصار الكاسح الذي حققته بلادنا على واجهة الرياضة القارية والدولية، خصوصا الصفعة القوية التي تلقتها الجزائر فيما يتعلق بتعديل بعض بنود الاتحاد القاري لكرة القدم والتي قطعت الطريق على محاولات إقحام جمهورية الوهم كعضو في الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم. إن كل هذه المكتسبات الميدانية والديبلوماسية المحققة خلال السنوات الأخيرة معرضة، كما قلت سابقا، للمد والجزر؛ ويتعين على بلادنا أن تبقي أعينها مفتوحة على مسرح الأحداث الدولية، فاعلة فيه وحاضرة بقوة دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا. وفي هذا السياق يقتضي الأمر من بلادنا أن تخطو الخطوات التالية: على المستوى الداخلي تسريع تنزيل وتفعيل كل مقتضيات دستور 2011 وتأويلها تأويلا ديمقراطيا مبنيا على نقاش عمومي واسع بما يضمن وضع حد للنزعة الرجعية والهيمنية التي ميزت صياغة بعض القوانين التنظيمية في الفترة السابقة أو التلكؤ في تنزيلها لأسباب إيديولوجية صرفة، وهو ما سيكفل الانتقال الآمن إلى مجتمع ديمقراطي حداثي قوامه دولة الحق والقانون. تقوية الجبهة الداخلية عبر تدارك كل النقائص التي يعاني منها نظامنا السياسي، وذلك بفصل حقيقي للسلط، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية والجهوية لتكون أكثر فاعلية ونجاعة، ومحاربة الفساد بكل أشكاله ومسمياته، وتصويب مسارات التنمية، وإعطاء دفعة قوية لمختلف المجالات الحقوقية والمؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية بما يحقق الكرامة والعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، وتأكيد المساواة في الفرص والإمكانيات بما يساهم في التقليص من الفوارق الاجتماعية والمجالية. وضع آليات ملزمة، مرنة وشفافة لتجديد النخب السياسية والإدارية وتعبئتها للمشاركة في تدبير الشأن العام، وخلق مناخ للثقة في أوساط الشباب والنساء عبر ربوع المملكة. وحيث إن البنية الديموغرافية في الصحراء بنية شابة وقاعدة الشباب الحاصل على تكوين عال تتعاظم وتتسع ما يجعل من إدماج هذه الطاقات ودعمها وتجسير كل عوامل الثقة بها أمرا تقع مسؤوليته على كاهل الدولة التي عليها إيجاد السبل الكفيلة بتحقيقه. ضرورة توفير كل الشروط المادية والمعنوية لقيام مجتمع مدني قوي يتمتع بالاستقلالية، قادر على ممارسة دوره في خدمة القضية الوطنية ومواجهة كل الادعاءات التي تسعى إلى التشكيك في مصداقية الأطروحات المغربية وتبني خطاب عقلاني، صريح وشفاف، مسلح بمعطيات التاريخ والواقع الملموس، بعيدا عن خطاب البهرجة والتهييج العاطفي، وبالتالي القدرة على إقناع المجتمع المدني بالدول الأوروبية الذي يتبنى منطق الانفصال مستندا على خطاب "الشعب المظلوم" و"حق الشعوب في تقرير مصيرها" وجعله يستفيق من حالة "التخدير" التي أسقطته فيها الآلية الدعائية الجزائرية. إعادة النظر في الإعلام الوطني والجهوي بكل تعبيراته، بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي، وتمكينه من الاشتغال في مساحة واسعة من الحرية المسؤولة تعكس كل الاختلافات في التقدير والتقييم السائدة حول ملف الصحراء على المستوى الداخلي، وتكون مؤهلة للترافع بقوة عن القضية الوطنية، على المستوى الخارجي، من خلال الإلمام الدقيق بالمعطيات الجغرافية والتاريخية والبشرية للمجال الصحراوي، وتجاوز الترافع التقليدي المبني على الديماغوجية لدحض كل الافتراءات والانتصارات الوهمية التي يروج لها خصوم الوحدة الترابية. ويظل مطلب تطوير قناة العيون مطلبا ملحا باعتبارها واجهة إعلامية استطاعت خلال السنوات الأولى لإحداثها اختراق جدار الصمت حول العديد من القضايا الحساسة إلى جانب تعريفها بالثقافة الحسانية ومكوناتها، واجتذبت إليها متابعين من دول الجوار والخليج وغيرها قبل أن تسقط في الرتابة والجمود وتصبح مجرد بوق أجوف لا صدى له. ومن الضروري استثمار تراكماتها المادية والتقنيات الحديثة التي أصبحت تتوفر عليها، والخبرات العملية التي راكمتها مواردها البشرية المجربة، في تحريرها من كل عوامل التقهقر الذي تعرفه حاليا، وجعلها بالفعل أداة لبناء الثقة بين كل أطياف المجتمع الصحراوي ونافذة حقيقية على المستقبل. تأمين الحدود الجنوبية مع موريتانيا، التي تتجاوز 1500 كلم، عبر مواصلة القوات المسلحة الملكية عملية تمديد الجدار الأمني لوقف أي تسلل من طرف ميليشيات البوليساريو، وسد الثغرات المتاخمة للحدود مع الجزائر والتي لا تتعدى بضع عشرات من الكيلومترات. على المستوى الخارجي إقناع المزيد من الدول خاصة من المجموعة العربية والأفريقية وحتى من أمريكا اللاتينية، بالسير على خطى واشنطن إما بفتح قنصليات لها بالعيون أو الداخلة وإما بالاعتراف الصريح بالوحدة الترابية للمغرب. ومن جهة أخرى تكثيف العمل الديبلوماسي وتنويع أشكاله مع الاتحاد الأوروبي لإقناعه بضرورة الخروج من قوقعته الرمادية وتبني موقف صريح وواضح يدعم حق المغرب التاريخي والثابت. في ظل الواقع الجديد الذي أصبح معه خيار استفتاء تقرير المصير "أمرا تجاوزه الزمن" بحسب تعبير الديبلوماسي الهولندي بيتر فان فالسوم في أبريل 2008 الذي كان مبعوثا للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الى الصحراء، فمن الواضح أنه لم يعد لوجود بعثة الأممالمتحدة بالأقاليم الجنوبية "المينورسو" أي مسوغ قانوني أو أخلاقي. ومن ثمة على المغرب أن يدفع باتجاه إلغائها أو تعديل اختصاصاتها بحصر مهمتها حاليا في مراقبة وقف إطلاق النار. إن التآكل الذي عرفته "البوليساريو" والنزيف الذي طالها بعودة العديد من كوادرها السياسية والعسكرية طوال 30 سنة الأخيرة، والانقسام الحاد الذي يهدد تماسكها واختيار عدد كبير من الصحراويين فك ارتباطهم بها، يضع شرعية تمثيليتها للصحراويين في مهب الريح، مما يحتم على بلادنا من جهة أولى الإنصات إلى الأصوات الناشئة في أوساط الصحراويين (خط الشهيد، حركة صحراويون من أجل السلام، مراكز البحث والدراسات المختلفة…)، المنفتحة على الحوار البناء حول الحكم الذاتي الموسوم بالواقعية والمصداقية والذي ينهي "أسطورة" الشرعية التمثيلية المكفولة حصرا للبوليساريو التي كرستها هذه الأخيرة طوال العقود الماضية. ومن جهة أخرى، الضغط على المنتظم الدولي حتى يقر بأن هناك طرفا أغلبيا، غير البوليساريو، يتمتع بشرعية تمثيل الصحراويين ومن الواجب أخذه بعين الاعتبار في مفاوضات الحل النهائي. لا شك ان المنتظم الدولي مقتنع أكثر من أي وقت مضى بأنه لا بديل عن الحل السياسي للنزاع في الصحراء، وأن مقترح الحكم الذاتي يشكل إطارا ملائما للمفاوضات حول الوضع النهائي، وأن أي تصعيد عسكري من شأنه أن يشجع الجماعات المتطرفة على القيام بأعمال تخريبية وعدوانية تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، وبالتالي على المغرب أن يستثمر كل المكتسبات الديبلوماسية التي حققها خلال السنوات الأخيرة لفرض الأمر الواقع وتكريس حقه التاريخي في الصحراء.