الحاجة إلى يسار عربي جديد وإلى برنامج واقعي وراهن للتغيير تنشر بيان اليوم هذا النص الجديد لكريم مروة. وهو تعقيب على النقاشات الواسعة في أوساط اليسار العربي حول كتابه «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» الصادر عن دار الساقي في بيروت. ساهم في النقاش سبعة وثلاثون مثقفاً عربياً من لبنان ومصر وفلسطين وتونس وسوريا والعراق، في احتفال أقيم في بيروت وفي ندوة أقيمت في القاهرة، وفي مقالات نشرت في صحف ومجلات مصرية ولبنانية وسورية وفلسطينية. وقد بادر حلمي شعراوي وعبد الغفار شكر في مركز البحوث العربية الأفريقية إلى جمع النقاشات وتحريرها في كتاب بعنوان «حوارات مع أطروحات كريم مروة نحو نهوض جديد لليسار في العالم العربي». وصدر الكتاب عن مكتبة جزيرة الورد في القاهرة. ضم الكتاب مقدمة لكريم مروة لخص فيها أفكاره الأساسية في كتابه، بالإضافة إلى النقاشات الآنف ذكرها وتعقيب مروة عليها. وفيما يلي النص مع بعض التدقيقات التي أضافها الكاتب إليه. التعقيب على النقاشات أود، قبل البدء في التعقيب على النقاشات، أن أعرب عن سعادتي في كون كتابي قد حظي بهذا الإهتمام الذي لم أكن أتوقعه، وفي كونه قد أثار هذا القدر من الأفكار التي تضمنتها كتابات ومداولات مثقفي اليسار العربي من كل الإتجاهات والتيارات، قديمها في التاريخ وجديدها في النشأة. إلا أن المهم، في هذا النقاش الواسع والمتنوع والمتعددة اتجاهاته الذي يتجاوز كتابي وكتاباتي إلى سائر كتب وكتابات أهل اليسار، هو ما يعبّر عنه من همّ حقيقي ومن بحث جدي لدى أهل اليسار، همّ وبحث يهدفان إلى إخراج اليسار العربي من أزمته العميقة في جوانبها الفكرية والسياسية التي يعيش فيها اليسار منذ ثلاثة عقود على الأقل. وهي الأزمة التي كانت قد بدأت تهز جسم الحركة الإشتراكية برمتها قبل انهيار الإتحاد السوفياتي وانهيار التجربة التي ارتبطت بنموذجه، سواء على صعيد السلطة في البلدان التي أعطت لنظامها اسم وصفة الإشتراكية أم في داخل الحركة الإشتراكية بمدارسها المختلفة، الشيوعية منها والإشتراكية الديمقراطية واليسارية بتنويعاتها المختلفة. وهي الأزمة ذاتها التي أدت إلى تهميش اليسار وتهميش دوره، وإلى إخراج أعداد كبيرة من دائرة نفوذه القديم ومن قواه القديمة، ممن ناضلوا وكافحوا وأبدعوا في مختلف ميادين النشاط السياسي والثقافي والمعرفي، وقدموا الكثير من التضحيات، وحققوا الكثير من الإنجازات. مصدر السعادة عندي في هذا النقاش يتجاوز إذن الجانب الشخصي إلى ما هو أعم وأشمل، أي إلى ما هو مشترك بين أهل اليسار في بلداننا من كل الإتجاهات والتيارات والمدارس، في سعيهم لتجديد يسارهم ولإخراجه من أزمته العميقة الشاملة. إلا أنني، بالمقابل، لا أستطيع إلا أن ألاحظ بأن هذا القدر الكبير من الإهتمام بمستقبل اليسار في بلداننا لم يدخلنا بعد في الطريق الموصل إلى ذلك المستقبل الذي يستعيد فيه اليسار العربي، في شروط العصر دوره المفترض في حركة التغيير التي ترمي إلى إخراج بلداننا من أزماته المتعددة جوانبها ومصادرها. وهو أمر يدعو إلى القلق. ذلك أن تراجع اليسار بتنويعاته المختلفة وتهميش دوره في بلداننا قد ساهم في جعل شعوبنا ضحية لأنواع ثلاثة من المخاطر المباشرة على حياتها: النوع الأول هو الإستبداد في السلطة الذي غيَّب وهمش الدور المفترض للدولة ولمؤسساتها، وعمّق التخلف في بلداننا وفاقم الظلم الإجتماعي إلى الحدود القصوى، وجعلها مكشوفة أمام التدخلات الخارجية فيها، من كل الجهات والإتجاهات والمطامع. النوع الثاني هو الإستبداد في المجتمع الذي تمارسه الأصوليات الدينية بتنويعاتها المختلفة، من خلال استيلائها على عقول ومشاعر كثرة من الناس الذين أصيبوا باليأس من احتمال إحداث التغيير في حياتهم. وهو الذي أحدثه فشل مشاريع التغيير باسم اليسار، وانحسار وتراجع وتهميش دور اليسار في بلداننا. النوع الثالث هو ما يتمثل بهمجية الرأسمال المعولم، دولاً ومؤسسات مالية وصناعية، هذا الرأس مال المعولم الذي يمارس من دون رادع التدخل في شؤوننا بأشكال ووسائل وصيغ مختلفة بهدف التحكم بمصائر بلداننا وشعوبنا بالمفرد وبالجمع. وأسمح لنفسي بأن أشير، في هذا السياق، إلى أن لأزمة اليسار في بلداننا وفي العالم، التي تتمثل في تراجع وتهميش دوره ووزنه، أسباباً موضوعية وأسباباً ذاتية. الأسباب الموضوعية تتمثل بالخلل البنيوي الذي رافق التجربة الإشتراكية منذ البدايات وجعلها تفشل في تحقيق ما ادعى قادتها أنهم يستلهمون فيها مشروع ماركس لتغيير العالم باسم الاشتراكية. وهو المشروع الأول من نوعه في التاريخ الذي كان يرمي ماركس باسمه ومن خلاله وبالنضال إلى تحقيق العدالة الإجتماعية والمساواة مقرونين بالحرية والكرامة للإنسان الفرد والجماعة وبالتقدم في ميادينه كافة للمجتمعات البشرية. وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الإنهيار للتجربة الإشتراكية بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها إلى صدمة كبيرة في عقل ووجدان ومشاعر وأحلام الملايين من فقراء العالم، وأن يخلق اضطراباً غير مسبوق في الوعي الفردي والجماعي، بما في ذلك في أوساط اليسار ذاتها نخباً سياسية وثقافية وجماهير عريضة. وكان من الطبيعي في الآن ذاته أن يترك هذا الإنهيار فراغاً هائلاً في الحركة السياسية والاجتماعية، حيث سارع الرأسمال المعولم بأكثر الوسائل وحشية وظلماً وقهراً واستغلالاً إلى ملئه على طريقته ولصالح تعظيم أرباحه. كما ساهمت في ملء ذلك الفراغ على طريقتها الأصوليات الدينية بتنويعاتها المختلفة التي استحوذت على مشاعر أوساط واسعة من الناس الذين إصيبوا بالإحباط واليأس من جراء ذلك الإنهيار. الأسباب الذاتية فتتمثل في عدم قدرة قوى اليسار العالمي، واليسار العربي جزء منه، على مراجعة التجربة الإشتراكية بعد انهيارها مراجعة نقدية لمعرفة الأسباب الحقيقية التي قادتها إلى الإنهيار فيما يشبه الزلزال. كما تتمثل تلك الأسباب في عجز اليسار عن تجديد أفكاره وتجديد مشاريعه وتجديد وسائل نشاطه، وعجزه عن استخلاص الدروس من تجاربه، السليم والصحيح منها والخاطئ. بالتأكيد فإن هذين النوعين من الأسباب، الموضوعي منها والذاتي، قد ترافقا وأكملا واحدهما الآخر. فإذا كان انهيار التجربة قد خلق تلك الصدمة الكبيرة وذلك الإضطراب الكبير، فإن التخلف عن القيام بالمراجعة النقدية لمعرفة الأسباب الحقيقية التي قادته، أي هذا اليسار العربي والعالمي، وقادت التجربة برمتها إلى الإنهيار، قد عمق أزمة اليسار، وجعله في حالة استعصاء على الخروج منها إلى دور جديد له للحاضر وللمستقبل. أردت من هذه المقدمة التي تسبق التعقيب أن أعلن بأن تمسكي بما أوردته من أسباب أدت إلى أزمة اليسار في بلداننا كجزء من أزمة اليسار في العالم، لا يعني أنني منغلق على أفكاري مغلق الباب على النقاش. كلا قطعاً. فهذا، كما تشير إلى ذلك كل كتاباتي وكتبي، أمر خارج طباعي. لكنني كنت، وما زلت، آمل في أن يكون النقاش حول أفكاري وأفكار سواي نقاشاً يساهم، ولو بحدود في مراحل أولى، في إخراج اليسار من أزمته بالتدريج ليحتل مكاناً أخر تكون فيه أفكاره في تنوعها أكثر وضوحاً، وأكثر ارتباطاً بالواقع، وأكثر قدرة على توفير الشروط لخروج اليسار من أزمته إلى دوره الجديد الفاعل المنتظر. وبعد، فإنني أود أن أعلن لأصدقائي الذين شرفوني باهتمامهم بكتابي أنني قرأت بإمعان وبدقة كل ما كتبوه وكل ما أثاروه من نقاشات حول الكتاب. وتولدت لديّ ثلاث ملاحظات أولية من بعض ما قرأت وما سمعت. الملاحظة الأولى هي أن بعض الذين ناقشوا الكتاب، أو قرأوا الفصل الخاص منه بنهضة اليسار، لم يناقشوا النص، كما بدا لي وربما أكون مخطئاً، بمقدار ما ناقشوا بأفكار مسبقة ما تصوروه أو ما خيّل إليهم أو ما وصل إلى سمعهم بالتواتر عن بعض أفكاري. وقد يكون مصدر ذلك الأمر هو أنني كنت قد أعلنت، منذ أكثر من عقدين، بأنني أختلف في بعض أفكاري الراهنة عن بعض أفكاري السابقة، من دون أن أتخلى عن يساريتي التي حاولت، وما زلت أحاول، تجديد انتمائي إليها، من خلال الإسهام في تجديدها لكي تكون أكثر ارتباطاً بالعصر وأكثر تطابقاً مع المهمات الراهنة لليسار. وهو ما أعتبره حقاً لي وواجباً عليّ، كإنسان حر أولاً، ثم كيساري بالضرورة. وهو ما عبّرت عنه في كتابي هذا وفي كتب أخرى لي سابقة. وكان كتاب «حوارات» الصادر في مطلع 1990 هو البداية. وكان يضم بعض أفكاري الجديدة، ومساهمة أربعين مثقفاً عربياً في النقاش حولها. وواضح أنني في أفكاري الجديدة هذه التي أجتهد في تطويرها إنما أختلف مع الكثير من الأفكار الراهنة لأهل اليسار في بلداننا، وأختلف فيها مع بعض أفكار ومفاهيم ماركس بالذات التي أعتبرها، برغم أهميتها التاريخية، قد فقدت قيمتها مع مرور الزمن ومع تغير وتبدل الظروف والشروط التاريخية. وهذا الإختلاف في أفكاري هو أمر طبيعي كما أعتقد. وهو أمر طبيعي أيضاً أن تفقد بعض أفكار ماركس قيمتها الراهنة. فالأفكار والمفاهيم جميعها من دون استثناء هي دائماً بنت تاريخها. وأصحاب الأفكار العلمانية لم يخلقوا أنبياء مرسلين، ولا كتاباتهم وكتبهم هي كتابات وكتب مقدسة. وماركس ذاته رفض بالمطلق إعطاء أي طابع عقائدي دوغمائي لأفكاره ولمفاهيمه. والفكر الديني ذاته، برغم طابع القدسية لنصوصه، هو أيضاً فكر تاريخي كما يشير إلى ذلك عدد من المفكرين الدينيين البارزين. وبرغم هذه الملاحظة الأولى التي تولدت عندي من بعض ما قرأت وسمعت من نقد لأفكاري فقد قررت أن أعقّب على أفكار وأحكام هؤلاء الأصدقاء من دون إحراج لهم ومن دون أفكار مسبقة عندي إزاء آرائهم وأفكارهم. فحق الإختلاف، حتى ولو شابه خلل ما، هو حق مقدس بالنسبة إليّ. الملاحظة الثانية هي أن بعض النقاش كان جارحاً في اتخاذه طابع المحاكمة والإتهام بالتحريف. وهو أمر لا يستوي ولا يستقيم في النقاش بين أهل اليسار خصوصاً، وهم يبحثون عن حل واقعي لأزمة يسارهم. ذلك أن من يدعي من أهل اليسار امتلاك الحقيقة دون سواه، وينصّب نفسه حكماً، هو مخطئ إلى حدود الإدانة. وقد ولى ذلك الزمان الذي كان يدعي فيه بعض «الماركسيين» امتلاك شرعية النطق باسم ماركس والدفاع عن أفكاره واتهام خصومه بالتحريفية. ولى ذلك الزمان إلى غير رجعة. وبرغم هذه الملاحظة التي تولدت عندي من خلال بعض النقاشات لأفكاري فقد قررت أن أدخل في النقاش مع هؤلاء الأصدقاء من دون حرج لهم ولي. الملاحظة الثالثة هي أن عدداً غير قليل من الذين ناقشوا الكتاب لم يقرأوه بفصوله الثلاثة وبقسميه، القسم الخاص بمشروع نهضة اليسار والقسم الذي يضم نصوصاً منتقاة لكلاسيكيي الماركسية. وهو أمر يشكل خللاً في قراءة الكتاب وفي مناقشة أفكاره. فالفصل الذي وزع على المشاركين في ندوة القاهرة من الكتاب الخاص بقراءتي لنهضة اليسار هو مسبوق بمقدمة هي جزء من الكتاب، عرضت فيها لمسار الحركات الثورية في العالم منذ فجر التاريخ. كما عرضت فيها للفشل الذي منيت به جميع تلك الحركات ولأسباب ذلك الفشل. يلي هذا الفصل فصل آخر قدمت فيه قراءتي لسمات العالم المعاصر بعد انهيار التجربة الإشتراكية، العالم الذي يهيمن فيه الرأسمال المعولم بكل الأشكال، القديم منها والحديث. وهي قراءة أولية بالنسبة إليّ، قدمت فيها إسهامي في النقاش حول سمات العصر التي ما تزال بحاجة إلى جهد جماعي كبير لتحديدها بأكثر ما يمكن من الدقة الموضوعية، إلا أن هذه الملاحظات الثلاث لا تغيّر قولي الذي بدأت به هذا التعقيب من أنني سعيد بقراءة هذا الكم النوعي المتعدد من الآراء والأفكار حول واقع اليسار في بلداننا وحول مستقبله، من خلال مناقشة كتابي. ولجميع الذين ساهموا في النقاش كل احترامي لأفكارهم وتقديري لحقهم في الإتفاق مع أفكاري أو مع بعضها، وفي الإختلاف معها أو مع بعضها حتى التناقض في بعض الحالات. لقد استنتجت من قراءة النصوص كلها أن النقاش تمحور في الأساس حول المواضيع والقضايا التالية: -1 حول المراجعة النقدية لتجربة اليسار، ارتباطاً بالتجربة الإشتراكية قبل انهيارها وبعد الإنهيار. -2 حول مفهوم اليسار في العالم المعاصر، وحول هويته، وحول مكوناته الإجتماعية، وحول أفكاره، وحول المهمات المتصلة بدوره، وحول آليات النهوض به. -3 حول نوع المهمات المطروحة أمام اليسار في بلداننا في هذه الحقبة من تاريخها وتاريخ العالم، وحول المرحلية في النضال، أي حول المهمات التي تعود لكل مرحلة من المراحل، التي يستكمل فيها النضال أدواره. -4 حول مفهوم الدولة، وحول الدور المناط بها في العالم المعاصر وفي بلداننا تحديداً: أية دولة، وأية وظيفة لها، وأية مهمات راهنة تتصل بهذه الوظيفة. -5 حول مفهوم كلمة عربي في حديثي عن اليسار، تعليقاً على عنوان الكتاب «اليسار في العالم العربي». -6 حول طبيعة ونوع وآلية القراءة من موقع اليسار للنظام الرأسمالي ولحركته ولتطوره ولأزماته الدورية في ظل العولمة كظاهرة جديدة في العالم المعاصر. -7 حول الفكر ودوره، وحول النصوص الماركسية التي أوردتها في القسم الثاني من الكتاب، وحول الموقع الذي يعود لهذه النصوص في البحث عن نهضة جديدة لليسار في العالم العربي. يهمني، وأنا أناقش أصدقائي حول هذه القضايا وحول مواقفهم وحول موقفي منها، أن أعلن لهم بأنني حرصت على التأكيد في كتابي بأن ما أقدمه من أفكار حول نهضة اليسار العربي هو محاولة، مجرد محاولة، لا أجزم فيها بأمر، ولا أعطي لنفسي صفة الحكم أو ما يشبه ذلك. وهي محاولة أستند فيها إلى تجربتي الطويلة في مواقع مسؤولة لمدة زمنية طويلة داخل أطر اليسار في بلدي لبنان وفي علاقتي المتعددة صيغها وأشكالها ومناسباتها مع اليسار العربي والعالمي، وأستند فيها أيضاً إلى طموحي في أن أرى يسار بلداننا قد جدد أفكاره وبرامجه وصيغ عمله، واستعاد عافيته ودوره، قبل أن أغادر الحياة بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر. المراجعة النقدية وشروطها لنبدأ بالقضية الأولى التي تتعلق بالمراجعة النقدية وبشروطها، وتتعلق بدوري فيها وبموقفي منها، كما تشير إلى ذلك النقاشات. وفي الواقع فإن لهذه المراجعة النقدية جانبين يكمل أحدهما الآخر. فهي تتطلب بالضرورة من أهل اليسار في بلداننا، وهو الأمر الذي يعنيني ويعني أصدقائي اليساريين العرب، أن يرتبط فيها الجانب المتعلق بالتجربة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي وفي المنظومة العالمية التي حملت اسم الإشتراكية بالجانب المتعلق بتجربة اليسار بتياراته المختلفة في الأحزاب خارج السلطة، سواء بالإرتباط العضوي لتلك الأحزاب بالتجربة بنموذجيها السوفياتي والصيني، أم بالإختلاف والتمايز عن تلك التجربة بنسب متفاوتة. لذلك فإنني أتفق مع الذين أشاروا إلى ضرورة الربط بين هذين الجانبين في المراجعة النقدية. وفي التعقيب على الملاحظة التي تقول بأن كتابي قد خلا من النقد والنقد الذاتي، أود أن ألفت نظر الأصدقاء إلى أن القسم الأول من الكتاب يتضمن جزءاً من هذا النقد بشقيه، لكنه نقد مجتزء وغير كاف وغير مقنع، وأعترف بذلك. وأود، في الوقت عينه، أن أذكر الأصدقاء بأن كتبي التي تجاوزت العشرين كتاباً منذ سبعينات القرن الماضي قد امتلأت بهذين النقد والنقد الذاتي. إلا أن المفارقة في هذا الأمر هو أن عدداً من الأصدقاء ممن ساهموا في نقاش الكتاب رأوا، بخلاف أصدقاء آخرين، أنني أكثرت من النقد والنقد الذاتي إلى حدود المبالغة في جلد الذات. وذكرني هؤلاء الأصدقاء بالإنجازات الإجتماعية التي تحققت في التجربة الإشتراكية، ذكروني بالرموز الكبيرة التي برزت باسمها في بلداننا وفي العالم، في الآداب وفي الفنون وفي الفكر وفي العلوم، وتركت بصماتها على عصر بكامله. وإذ أقدر هذه الملاحظة بالذات وأتفق مع الذين أطلقوها، وأعترف بالنقص في كتابي حول هذا الموضوع، فإنني أخشى، بالمقابل، من أن تؤدي المبالغة في الحديث عن المنجزات إلى تغييب الخلل الذي رافق التجربة وإخفاء الأخطاء التي تراكمت وقادت التجربة ذاتها إلى الإنهيار بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها. مفهوم اليسار وحول هويته يتمحور النقاش في القضية الثانية حول مفهوم اليسار وهويته. وهي القضية الأهم في كل النقاشات. ذلك أن ثمة اختلافاً كبيراً داخل قوى اليسار حول مفهوم اليسار ذاته وحول أفكاره وحول تحديد هويته وحول المهمات الراهنة المطروحة أمامه وحول قاعدته الإجتماعية الجديدة. وفي الواقع فإن هذا المحور الذي يشكل الأساس في كتابي والأساس في النقاشات هو موضوع صعب وشائك. لذلك فإنني لا أعترض على وصف محاولتي في تحديد مفهوم اليسار وفي البحث عن نهضته بالإرتباك، ولا أعترض على وصفي بالإنسان القلق والمقلق. فالإنسان القلق هو إنسان حقيقي، كما وصفه أحد الأصدقاء، إنسان يبحث ويفتش ويجرب، ولا يتعب ولا ييأس ولا يغرق في الأوهام. لذلك فإنني أعترف بأنني قلق ومرتبك ومهموم ومنهمك في البحث في مستقبل يسارنا العربي وفي الدور المفترض له في تحقيق التغيير المنشود في بلداننا. إلا أن ملاحظة عامة قد تكونت عندي من خلال النقاشات حول كل من موقفي وموقعي في هذا البحث عن المستقبل هي أن بعض النقاشات كانت تدور، كما بدا لي، في ما يشبه الحلقة المفرغة. وإذا كان بعض الأصدقاء قد اتهمني بأنني غيّبت في تحديدي لليسار دور الطبقة العاملة باعتبارها حصراً حاملة مشروع التغيير، وأنني، في تحديدي للقاعدة الإجتماعية لليسار المعاصر، غيبت الطابع الطبقي لليسار وغيبت الصراع الطبقي، وهي تهمة غير دقيقة، فإنني أتساءل، وأرجو ألا أكون متعسفاً، هل أخذ أصدقائي في الإعتبار في تحديدهم لليسار ولدور الطبقة العاملة المتغيرات الكبرى التي شهدها العالم المعاصر بعد مرور مائة وخمسين عاماً على وفاة ماركس، وبعد مرور المدة الزمنية ذاتها على أفكاره ومفاهيمه وعلى تحديداته لأقطاب الصراع في المجتمعات المعاصرة؟ لن أدخل هنا في النقاش حول الجديد الهائل الذي أدخلته العلوم والتقنيات على عملية الإنتاج وعلى القوى ذات الدور الحاسم فيها، والجديد غير المسبوق الذي أدخلته تلك التطورات على المجتمعات وعلى طبيعة ونوع الصراعات داخلها، ليس فقط بين المالكين لوسائل الإنتاج والعاملين بالأجر، بل كذلك داخل تلك الفئات الإجتماعية ذاتها في مواقعها المختلفة، أعني فئات المالكين وغير المالكين على حد سواء. ذلك أن الإكثار من الحديث عن الطبقة العاملة وعن دورها وعن الصراع الطبقي، من دون تحديد للمفهوم المعاصر للطبقة، ومن دون رؤية موضوعية للمتغيرات التي شهدتها الطبقات والفئات الإجتماعية في كل المواقع، لا يقدم معرفة بالواقع القائم في بلداننا، ولا يقدم معرفة بالواقع القائم في العالم المعاصر. لست أرمي من هذه الإشارة إلى المتغيرات الكبرى التي شهدها العالم خلال القرن ونصف القرن من عمر الزمن إلى تغييب دور الطبقة العاملة في النضال باسم اليسار من أجل التغيير، استكمالاً لمشروع ماركس. كلا قطعاً. لكنني أريد أن أشير إلى أن مفهوم الطبقة ذاته قد أصبح بحاجة إلى تحديد جديد أكثر دقة وأكثر صلة بالواقع المعاصر. وأزعم، في ضوء قراءتي لوقائع العصر وللمتغيرات التي أحدثتها فيه العلوم والتقنيات، أن الطبقة العاملة في المفهوم الماركسي القديم لها لم تعد بالدقة ذاتها وبالدور ذاته اللذين كنا نتصورهما ونقتنع بهما في أدبياتنا القديمة، لم تعد هي وحدها وبالحصر حاملة مشروع التغيير الذي يسعى اليسار المعاصر إلى تحقيقه في بلداننا وفي سائر البلدان، وفق الظروف الخاصة بكل بلد منها. فالوقائع المعاصرة باتت تشير بكثير من الوضوح إلى أن القاعدة الإجتماعية التي تعاني من الظلم ومن الإستغلال، والتي تنشد التغيير بصفتها صاحبة المصلحة فيه، قد اتسعت موضوعياً وتنوعت وتعددت فئاتها. وضاقت، بالمقابل، قاعدة القوى المهيمنة التي يستهدفها التغيير ويستهدف مواقعها. وبلغ الإستقطاب ذروته الكبرى. إن ما تقدم يقودني إلى القول بأن الطبقة العاملة بالمفهوم الماركسي القديم، أي طبقة العاملين بالأجر في المصانع والمعامل وفي المؤسسات الإنتاجية على اختلافها، قد تقلص دورها بفعل تقلص عددها، وكثر، بفعل ذلك، عدد العاطلين عن العمل، وعدد الفئات المهمشة. وكبر، بالمقابل، جيش القوى الإجتماعية المناهضة للرأسمال المعولم، والساعية لإحداث التغيير في اتجاه العدالة الإجتماعية، على قاعدة مشروع ماركس معدلاً لكي يكون أكثر تطابقاً مع شروط العصر. بهذا المعنى فإن الصراع الطبقي لم يعد هو ذاته بالدقة كما جاء في تحديد ماركس له، أي بين الطبقة العاملة بمفهومها القديم والطبقة البرجوازية بمفهومها القديم أيضاً. بل هو اتخذ له معنى أوسع وأشمل ليصبح صراعاً بين هذه الكتلة الإجتماعية المتعاظمة من الذين يقع عليهم الظلم الإجتماعي وبين أقطاب العولمة الرأسمالية الذين يستأثرون بالقسم الأعظم من الثروة، ويتحكمون بمصائر شعوب الأرض. أقول ذلك باقتناع متزايد عندي، من دون أن أدعي امتلاك الحقيقة فيما أقول. وما أقوله هو محاولة مني في فهم المتغيرات التي يشهدها العالم المعاصر على جميع الصعد، بما في ذلك في تحديد مفهوم اليسار وفي تحديد هويته وفي تحديد قاعدته الإجتماعية وفي تحديد مهماته، وفي تحديد دوره في عملية التغيير. لذلك فإن التهمة التي وجهت إليّ بصيغ مختلفة حول تحديد مفهومي لليسار، ومن ضمنها تهمة الليبرالية، فهي لا تشكل، بالنسبة إليّ، مادة للنقاش الحقيقي حول جوهر ما طرحته من أفكار تتصل بتحديد وتجديد مفهوم اليسار المعاصر. وقد تولد لديّ إحساس، أرجو أن أكون مخطئاً فيه، بأن كثيرين من أهل اليسار لا يدركون بالوعي الضروري أنهم هم ويسارهم يعيشون في أزمة كيانية بكل المعاني، وأنهم معنيون، من موقع مسؤوليتهم ومن الموقع الذي هم فيه، ببذل الجهد النظري والعملي لقراءة ما جرى من انهيارات وما يجري من تحولات في العالم المعاصر وما هو قائم بمستوى الكارثة في بلدانهم. وتشكل هذه الضروة الشرط الضروري لسلوك الطريق الواقعي الذي يقودهم، في شروط العصر بالتحديد وليس خارج هذه الشروط، إلى الخروج من تلك أزمتهم وإلى الإسهام في تحقيق التغيير الذي كانت تنشده شعوبهم في نضالاتها القديمة، وتسعى لتحقيقه اليوم ثوراتها المعاصرة. المهمات التي تواجه اليسار في بلداننا العربية يقودني هذا الحديث على مفهوم اليسار إلى الحديث في المحور الخاص بالمهمات التي تواجه اليسار في بلداننا في هذه الحقبة التاريخية التي نعيش فيها. القضية الثالثة، وفي الواقع فإن النقاش حول مفهوم اليسار من دون تحديد المهمات التي يفترض بها أن تكون مهماته تحديداً، المهمات ذات الصلة بالزمان وبالمكان المحددين، هو نقاش غير واقعي. إذ لا توجد مهمات عامة غير محددة بالزمان وبالمكان، بالنسبة إلى أية قوى سياسية واجتماعية، وبالأخص بالنسبة إلى اليسار الذي تمتلئ أدبياته بالحديث عن المرحلية وعن المراحل في النضال من أجل التغيير. على أن اليسار، في محاولتي لتحديده ولتحديد هويته ولتحديد انتمائي القديم والحديث إليه، هو الذي يفترض به أن يحمل في مشروعه المهمات الأساسية المباشرة والبعيدة المدى، للوطن وللشعب اللذين ينتمي إليهما. لذلك فإنني، حين حددت في كتابي عشرين مهمة مباشرة ملموسة كمهمات راهنة لليسار في بلداننا، بمعزل عن الترتيب لها حسب الأولويات، إنما انطلقت أولاً من الواقع القائم في بلداننا الذي استوحيت منه هذه المهمات، وانطلقت ثانياً من تحديدي لدور اليسار في تحقيق هذه المهمات، وانطلقت ثالثاً من أن مشروع اليسار للتغيير الذي يحدد هويته إنما يبدأ واقعياً من المهمات الملموسة الراهنة التي يفتح تحقيقها الطريق إلى المستقبل. وتتمحور النقاط العشرون في كتابي كمهمات لليسار المعاصر حول ما اعتبرته بالمصالح الأساسية للمجتمع برمته، بدءاً بإصلاح الدولة لكي تصبح دولة حق وقانون ومواطنة وحقوق إنسان وعدالة إجتماعية، في نظام ديمقراطي حديث متحرر من كل مظاهر الإستبداد التي تسود في بلداننا منذ ما يقرب من نصف قرن. وإنطلاقاً من التغيير في الدولة وفي النظام وفي طبيعتهما وفي وظائفهما، طاولت النقاط العشرون كل ما يتصل بمصالح المجتمع بكل فئاته تحقيقاً للعدالة الإجتماعية التي لا تتحقق إلا بثلاثة شروط أساسية: التقدم الإقتصادي في ميادينه كلها، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والحرية بجوانبها المتعددة، التي تؤمن للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة حقوقه وكرامته والشروط الضرورية للتعبير عن ذاته. واستناداً إلى هذه النقاط البرنامجية التي اقترحتها لليسار في بلداننا، حرصت على التأكيد بضرورة تجنب القفز فوق المراحل، أي القفز فوق الواقع، وتجنب الوقوع في أسر الأوهام والبقاء في حالة الحنين إلى الماضي الذي مضى. واستناداً إلى تجربتي الشخصية في اليسار التي استحوذت على عمري كله، أستطيع القول بأننا، في الحزب الشيوعي اللبناني على سبيل المثال، كنا نحاول تحديد مهماتنا النضالية، انطلاقاً من قراءتنا لواقع بلدنا لبنان وسائر البلدان العربية الشقيقة. ولم نجد تناقضاً بين أحلامنا في الوصول إلى ما كنا ندعو إليه وتبشر به أفكارنا الإشتراكية، وبين النضال من أجل تحديث القوانين العامة في الدولة لجعلها أكثر ديمقراطية، أي أكثر استجابة لمصالح العمال والفلاحين والفقراء والمثقفين والشباب ولحقوق المرأة والطفل والبيئة. وقد أشرت في أحد فصول الكتاب إلى تقارير قائد حزبنا الشهيد فرج الله الحلو التي لم تتضمن كلمة إشتراكية في الحديث عن المهمات المطروحة أمام الشيوعيين. وبالطبع فحين أتحدث عن تجربتي الشخصية وعن تجربة حزبي، في هذا السياق، فلست أرمي إلى القول بأننا في مواقفنا السياسية والفكرية كنا دائماً على حق في أي أمر من الأمور، وأننا لم نرتكب أخطاء كان بعضها فادحاً. وقد أشرت إلى أجزاء من تلك الأخطاء في كتبي، لا سيما كتاب سيرتي «كريم مروة يتذكر فيما يشبه السيرة». وكان أكبر تلك الأخطاء الفادحة دخول الحزب في الحرب الأهلية، وعلاقاته مع الدول العربية التي كانت حكوماتها الإستبدادية تضطهد شعوبها، وتضطهد الشيوعيين بشكل خاص. لكن المهم، فيما نحن بصدده، هو أن المهمات المباشرة في اللحظة التاريخية المحددة الموضوعة أمام أهل اليسار هي التي تحدد القاعدة الإجتماعية لهذا اليسار، وهي التي تعطيه مفهومه المعاصر، وهي التي تعطيه دوره وموقعه كيسار في كل ما يتصل بقضايا الوطن والشعب. ولا أرى، فيما يتعلق بي كيساري مخضرم، أية ضرورة راهنة لتحديد قاطع للهوية الفكرية لليسار، إلا بالمعنى العام الذي تعبّر عنه القيم والمثل الإنسانية التي حملتها وبشرت بها الإشتراكية. إذ أن علينا أن نقر كيساريين، من دون خوف على موقعنا وعلى درونا، بأن بعض اللحظات التاريخية تخلق في صورة مؤقتة وعابرة أساساً موضوعياً لتقاطع ما في المصالح بين أهل اليسار وبين أهل اليمين في العمل لتحقيق مهمات معينة. ولا أعني هنا باليمين السلطات بالضرورة. بل أعني بالتحديد القوى السياسية والإجتماعية في البلد المعين من ذوي الإتجاهات الليبرالية المختلفة، المستنيرة منها على وجه الخصوص. الحديث عن الدولة هنا بالذات يأتي الحديث عن الدولة. وهي القضية الرابعة. وفي الواقع فقد استغربت كيف أن بعض الأصدقاء قد عاب عليّ وضع مهمة بناء الدولة الحديثة كمهمة أولى بين مهمات اليسار. وأعترف بأنني لم أفهم ماذا يريد المنتقدون اليساريون قوله بصدد الدولة. ففي معرفتي المتواضعة التي أغنتها تجربتي الحزبية، وعززتها قراءاتي التي لم تنقطع لكتابات ماركس ولكلاسيكيي الماركسية التي تحدثت عن الدولة في المجتمعات البشرية، لا سيما في ظل الرأسمالية، كان نضال أحزابنا يتجه ويسعى دائماً نحو استحداث قوانين جديدة بديلاً من قوانين رجعية قائمة، قوانين ديمقراطية تخدم مصالح المجتمع بعامة، وتخدم مصالح الفئات الكادحة على وجه التحديد. أي أننا كنا نضع أمامنا مهمة إحداث تعديلات ضرورية في وظائف الدولة وفي وظائف مؤسساتها لكي تكون أكثر عدلاً وأكثر احتراماً لحقوق ومصالح الفئات الفقيرة على وجه الخصوص، أي دولة حق وقانون وعدالة إجتماعية. وكنا نعلم أن استحداث تلك القوانين الديمقراطية الجديدة لا يغيّر في الطبيعة الطبقية للدولة. وكنا نعلم بالمقابل أن هذه الدولة ذاتها، دولة طبقة الرأسماليين التي تدافع عن مصالحهم، إنما تتخذ، في حدود معينة وبالنضال، بفعل وظيفتها العامة كناظم للمجتمع، صفة استقلال نسبي عن الطبقة التي تمثل مصالحها في السلطة. والكلام عن الإستقلالية النسبية للدولة في المجتمعات الطبقية هو لماركس بالذات. وإذا كان الأمر كذلك فإن مهمة تحديث الدولة وتحديث قوانينها والعمل على تحريرها من أنماط الإستبداد والظلم والإستغلال هي مهمة ذات أولوية بالنسبة إلى أهل اليسار قبل سواهم من القوى السياسية في بلداننا. وإلا فما هو المطلوب؟ هل المطلوب أن يضع اليسار أمامه مهمة إقامة دولة بروليتارية باسم الإشتراكية فوراً، ورفض الدولة الرأسمالية القائمة، ورفض التعامل معها، بانتظار قيام هذه الدولة البروليتارية؟! والأغرب من ذلك هو أن بعض أصدقائي اعتبر أن حديثي عن الدولة وعن شروط تحديثها ونزع طابع الإستبداد عنها هو حديث يخص لبنان. وكأن القضية المتصلة بدور الدولة وبوظائفها محلولة في كل البلدان العربية، باستثناء لبنان! علماً بأن لبنان هو البلد الوحيد الذي يسود فيه نظام ديمقراطي، ويجري فيه تداول متواصل للسلطة، وتجري فيه انتخابات في كل مؤسسات الدولة، برغم ما يشوب هذا النظام الديمقراطي من تشويهات. وأحيل أصدقائي في هذا السياق من الحديث عن الدولة وعن دورها وعن التغيير في أدائها وفي وظائفها، إلى تلك الثورات التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه مطالبة بالتغيير، تغيير الأنظمة الإستبدادية القائمة، واستبدالها بأنظمة ديمقراطية يكون فيها للدولة المدنية ذلك الدور وتلك الوظيفة اللذان يخدمان مصالح الوطن ومصالح الشعب في آن، وتحترم فيها وتصان الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان. المشترك بين البلدان العربية يقودني الحديث عن الدولة إلى المحور الخاص عما هو مشترك بين البلدان العربية. وهي القضية الخامسة. فقد أثار عنوان الكتاب تساؤلاً عند بعض الأصدقاء في صيغة «اليسار في العالم العربي»، بدلاً من صيغة «اليسار العربي»، تساؤلاً يتعلق بموقفي من القومية العربية ومن الأمة العربية. وذهب البعض إلى حد اتهامي بأنني أتسامح مع إسرائيل ومع أميركا وأقلل من اتهامي لهما في حديثي عن الوضع المأساوي الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني في ظل الصراعات بين فصائله، وفي إشارتي الساخرة إلى شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وفي حديثي عن الهزائم العسكرية التي منيت بها الأنظمة العربية فيما اعتبرته في كتابي مغامرات تمثلت في حروبها مع إسرائيل التي بدلاً من أن تحرر فسلطين أدت إلى احتلال كامل أراضيها وإلى احتلال أجزاء من أراض عربية أخرى. وأرى في هذه الإعتراضات على كلامي المترافق بعضها باتهامات تشبه التخوين، في قراءتي لها، الدفاع من قبل بعض اليساريين عن الأنظمة الإستبدادية التي حولت الجيوش في بلداننا من جيوش للدفاع عن الوطن، وهو وظيفتها الأصلية، إلى قوى أمن تحمي سلطاتها واستبدادها المتمادي وتحمي استيلاءها على مرافق الحياة برمتها، مستخدمة في الآن ذاته شعار المعركة القومية للخداع. أليس في ذلك الكلام ما يدعو إلى الغرابة؟! أما فيما يتعلق باستخدام صفة «العالم العربي» بدلاً من «الأمة العربية» أو ما يشبه ذلك، فلا يعني من قبلي التنكر لانتمائي العربي. فلست بحاجة إلى شهادة من أحد في نضالي ونضال حزبي على امتداد عقود طويلة من أجل القضايا العربية، على أرض لبنان بالذات، وفي المحافل الدولية. وانتمائي العربي الذي أعتز به لا يفرض عليّ تبني نظريات ومواقف ومشاريع وأفكار وشعارات وتسميات أعتبرها في معظمها شعبوية وغير ذات معنى وجدوى. وهو ما دلت عليه ممارسات الأنظمة القائمة وممارسات الأحزاب والحركات القومية خلال أكثر من نصف قرن. أما فيما يتعلق بالإشارة إلى المقاومة وإلى دورها في فلسطين وفي لبنان على وجه التحديد، فإنني أود أن أقول لمن نسي أو لمن لم يعرف بأن للمقاومة تاريخاً مجيداً في لبنان يحمل عنوان الشيوعيين بامتياز. وهي مقاومة تعود في تاريخها إلى العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، كان الشيوعيون اللبنانيون شركاء فيها بصيغ مختلفة، في مرحلة أولى لأخوانهم السوريين في ثورة 1925-1927، وشركاء في مرحلة ثانية لأخوانهم الفلسطينيين في ثوراتهم الممتدة من عام 1929 حتى عام 1936. ولهذه الشراكة للشيوعيين في المقاومة في مرحلتيها رموز كبيرة. أما التاريخ الحديث للمقاومة في لبنان فيعود إلى عام 1948، حين انخرط الشيوعيون مع أخوانهم من الوطنيين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين في جيش الإنقاذ، ودفع الكثير منهم حياته في عدد من المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في قرى الجنوب اللبناني. وكانت مجزرة بلدة حولا أكثرها وحشية. إذ سقط فيها أربعون شهيداً بينهم عدد من الشيوعيين. واستمرت المقاومة ضد العدوان الإسرائيلي بدور أساسي للشيوعيين اللبنانيين على امتداد العقود التالية، أولاً مع المقاومة الفلسطينية لدى نشوئها، مروراً بالحرس الشعبي الذي أسسه الحزب الشيوعي اللبناني في عام 1969، وصولاً إلى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي أطلقها الشيوعيون في وجه الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982. ومعروفة بطولات المقاومين وإنجازاتهم التاريخية باسم تلك الجبهة. أشير إلى هذه الوقائع لكي أقول لرفاقي من أهل اليسار بأن مقاومة حزب الله، التي لا يمكن لأحد أن ينكر دورها الأساسي في تحرير الأرض في عام 2000، إنما اتخذت طابع حرب جيوش خلافاً لما هي عليه حرب الأنصار كما عرفناها في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية في مقاومة الإحتلال النازي. وكانت مقاومة حزب الله، بصفتها تلك وبالبطولات التي اجترحها المقاومون، باهظة الكلفة على الشعب اللبناني في جنوبه الصامد خصوصاً. وأود أن أذكر، في هذا السياق من التداعيات حول المقاومة، بأن المقاومات جميعها عند كل الشعوب إنما ينتهي دورها بعد تحقيق هدفها في تحرير الأرض، لتعود إلى الدولة بمؤسستها السياسية والعسكرية مهمة الدفاع عن الوطن. وهذا ما كررته في كتاباتي وكتبي منذ عام 2000 وحتى الآن، داعياً حزب الله إلى أن يهدي مقاومته وتجربته الرائدة فيها وبطولات مقاوميه إلى الدولة، وأن يعمل مع سائر القوى الوطنية اللبنانية على جعل المقاومة، كحق مبدئي لهم وكواجب عليهم، عندما يتعرض الوطن للعدوان الخارجي من أي نوع، مقاومة شعبية ووطنية شاملة إلى جانب الجيش وفي كنف الدولة، أو من دونهما إذا ما تخلفا عن القيام بواجب الدفاع عن الوطن. والتأكيد على هذا الأمر في لبنان إنما يعود إلى أن الخطر من بقاء المقاومة في صيغتها الطائفية والمذهبية خارج الدولة، هو أنها أصبحت سبباً في انقسام اللبنانيين، بدلاً من أن تكون استناداً إلى دورها التاريخي في التحرير مصدراً أساسياً لوحدة اللبنانيين حول دولتهم، التي يفترض بهم أن يعملوا سوية مع سائر اللبنانيين كواجب عليهم لأن تكون دولة حق وقانون ومواطنة ومساواة وحقوق إنسان وعدالة إجتماعية. وغني عن التأكيد بأن هذا الموضوع الخاص بالمقاومة وبدورها المبدئي والعملي بظروف لبنان الراهنة إنما يحتاج إلى عقل كبير وإلى مسؤولية وطنية عالية في إيجاد حلول عقلانية له بعد أن اتخذ طابع التحدي والصراع، حلول تحافظ على معنى المقاومة وتكرّم أبطالها من كل الإتجاهات والفرقاء وتحميهم، وتخرج الصراع حول المقاومة ذاتها، كمبدأ وكممارسة، من دائرة التخوين المتبادل. تحديد طبيعة النظام الرأسمالي المعولم المهيمن القضية السادسة في النقاش تتمحور حول تحديد طابع وسمات العصر الذي نحن فيه اليوم، وتحديد طبيعة النظام الرأسمالي المعولم المهيمن. ولا أظن أننا بحاجة لأن نقنع بعضنا بأن الرأسمال المعولم هو الذي يهيمن اليوم، بمكوناته المختلفة، على العالم ويتحكم بمصائر البشرية. ولا أظن أننا بحاجة لأن نقنع بعضنا بالأسباب التي جعلت هذا الرأسمال المعولم يحمّل نتائج أزماته المتواصلة المتكررة للأكثرية الساحقة من الناس في جميع البلدان، الغنية منها والفقيرة على وجه الخصوص، الأزمات التي تعلٌّمنا الكثير عنها وعن استمرارها وعن اتخاذها طابع أزمات دورية من قراءاتنا في كتابات ماركس وكبار كلاسيكيي الماركسية. أسوق هذا الكلام لأقول بأننا، من موقعنا كيساريين عرب في بحثنا عن نهضة ليسارنا تخرجه من أزمته الخانقة التي همشته وهمشت دوره، بحاجة لأن نعرف بدقة علمية وبواقعية طبيعة وسمات العصر الذي يهيمن فيه الرأسمال المعولم بوحشيته، وأن نحدد بدقة علمية وبواقعية الطرائق التي يستعيد بها يسارنا دوره في ظل هذا الوضع بالتحديد، وليس خارجه. ذلك أن أي قراءة غير واقعية للعالم المعاصر تستند إلى تصورات خيالية وإلى أوهام يعلن بها أصحابها ببساطة مدهشة أن هذا الرأسمال المعولم سينهار من تلقاء ذاته بسبب أزماته، وأنهم سيرثونه بعد انهياره ليعيدوا للمشروع الإشتراكي موقعه في حركة التاريخ، هذه القراءة ليست خاطئة فحسب، بل هي مليئة بالمخاطر على دور اليسار وعلى موقعه في حركة النضال من أجل التغيير. فضلاً عن أنها لعدم واقعيتها إنما تخلق أوهاماً تقود، بفعل سقوطها السريع، إلى الإحباط واليأس. وقد حاولت في قراءتي للعالم المعاصر وللتحولات فيه وللإتجاهات المتناقضة في هذه التحولات، أن أدعو أهل اليسار في بلداننا للبحث عن نهضة يسارهم في هذه الشروط التاريخية للعالم المعاصر بالتحديد، أي خارج تلك الأوهام وخارج تلك الشعارات الشعبوية التي شوّه استخدامها معنى اليسار لدى شعوبنا وأفقده مصداقيته. القضية السابعة أما القضية السابعة التي تمحور النقاش حولها فتتصل باختياري في شكل إنتقائي لبعض النصوص العائدة لكلاسيكيي الماركسية، وذلك في القسم الثاني من الكتاب. وبالطبع فإن من حق الأصدقاء أن يتساءلوا عن السبب الذي دفعني لاختيار هذه النصوص بعينها وإلى وضعها في الكتاب. علماً بأنني حددت بوضوح في تقديمي لتلك النصوص الأسباب التي دعتني لانتقائها من دون سواها. وفي الواقع فقد أردت من هذه النصوص بالذات التي انتقيتها بعناية أن أشير إلى أن ماركس وكلاسيكيي الماركسية كانوا، في الأفكار التي عرضوها لمجمل القضايا المتصلة بالإنسان وبحريته في إطار المشروع الإشتراكي لتغيير العالم، يستشرفون المستقبل حتى وهم يدافعون عن أفكارهم في زمانهم. وهذا يعني أنهم كانوا يؤكدون بأن الأفكار هي تاريخية، أي أنها بنت تاريخها، وأنها تتغير مع تغير الشروط التاريخية. وكان هدفي من ذلك تحذير رفاقي من أهل اليسار من البقاء في أسر تلك الأفكار القديمة وإعطائها طابع القداسة، الأمر الذي يقودهم إلى البقاء في الماضي ويمنعهم من رؤية المتغيرات التي تأتي بها أحداث التاريخ. هذا أولاً. ثم أنني أردت أن أبيّن من خلال هذه النصوص كيف أن كلاسيكيي الماركسية كانوا يمارسون بمسؤولية كبيرة التعبير عن أفكارهم وعن سياساتهم، انطلاقاً من المتغيرات التي كانت تحدث أمامهم، من ماركس إلى لينين إلى غرامشي. ثم أنني أردت، في الوقت عينه، أن أقول لأهل اليسار أن الجديد إنما يولد من القديم ويتخذ له بعد الولادة صفته وسمته الخاصة به، التي تحددها طبيعة المرحلة الجديدة التي يعيش فيها. لكن على هذا الجديد أن يبقى وفياً للقديم الذي ولد منه، أي أن يستكمل ما وصل إليه ذلك القديم، في شروط جديدة يتجاوز فيها القديم من دون القطع معه. ذلك أن التاريخ هو تواصل، ولا انقطاع فيه، ولا نهاية له. غير أن المهم والأساسي في اختياري الواعي لتلك النصوص هو أنني أردت منها وبواسطتها أن أبيّن أمرين أساسيين: الأمر الأول يتعلق بالتركيز عند ماركس وعند كلاسيكيي الماركسية على دور الإنسان الفرد كأساس للجماعة، والتركيز على حقوقه كمعطى أولي في التاريخ. الأمر الثاني يتعلق بالتركيز عندهم على أهمية الفكر وأهمية دوره في صنع التاريخ، بشرط أن يكون هذا الفكر متحركاً متغيراً، وفق الشروط التاريخية، والتركيز، في الآن ذاته، على أهمية دور أهل الفكر في جعل فكرهم فكراً راهناً يعبّر بواقعية عن مشروع اليسار وعن دوره في مسار حركة التاريخ. تلك هي بعض الأفكار التي استوحيتها من النقاش الذي أثاره كتابي وأثارته أفكاري ومواقفي فيه. وإذا كنت قد ركزت على بعض القضايا التي كانت محور اختلاف في الرؤى بيني وبين أصدقائي، فإنني لا أستطيع إلا أن أتوجه بالشكر إلى أصدقائي الذين أعلنوا اتفاقهم معي في العديد من أفكاري، حتى وهم يتمايزون عني في تحديد فهمهم لها. وأخص بالذكر توقفهم عند المرتكزات التي اعتبرتها في الكتاب مرتكزات ذكّرت فيها بضرورة إعادة السياسة إلى أصلها وربطها بالثقافة وبالأخلاق، وإخراجها من الشعبوية والعدمية والإنتهازية، وجعلها أكثر احتراماً لحقوق الإنسان، وأكثر حرصاً على تحريره من العبوديات الجديدة التي حولته، في الإصطفافات السياسية والعقائدية والزبائنية، إلى ما يشبه القطيع. وبعد، فإنني أعتبر أننا ما نزال في بداية الطريق إلى نهضة يسارنا وإخراجه من أزمته، وأننا ما نزال بحاجة إلى تجديد الآليات والشروط التي تؤهلنا لأن ندخل من الباب الواسع، لا من الأبواب الضيقة، إلى تلك الأهداف التي تعبّر عن مشروعنا اليساري لتغيير بلداننا. وهذا التأكيد إنما يتطلب منا بالطبع أن نواصل النقاش حول مكونات اليسار على اختلاف اتجاهاته، وأن نبذل جميعنا المزيد من الجهد في البحث عن مستقبل اليسار من دون أفكار مسبقة نحاكم فيها بعضنا البعض. فالمهم بالنسبة إلينا هو أن نخرج يسارنا من الهزيمة إلى النهضة لاسترجاع موقعه الطبيعي الذي يعود له لتحقيق التقدم لبلداننا والحرية والسعادة لشعوبنا. وهي حاجة موضوعية راهنة تتصل بما يجري من حراك بالغ الأهمية والدلالة، تعبر عنه الثورات التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.