نصوص تمتلك مقومات استدراج القارئ للتورط في أحداثها عن دار النشر «المطبعة والوراقة الوطنية» صدرت مجموعة قصصية للكاتب المغربي محمد زهير تحت عنوان «أصوات لم أسمعها». وجاءت المجموعة في 116 صفحة من القطع المتوسط، تزين غلافها لوحة للرسام محمد الصديق الراصفي، بينما تضم بين دفتيها عشر قصص، وهي «تنازع»، «شرفة على الماء»، «ألوان الطيف»، «الوليمة»، «خفق الغيم»، «أنوار الشموس»، «السفر»، «الرديفان»، «إيكاروس» و«أصوات لم أسمعها». وتتميز مجموعة (أصوات لم أسمعها) للكاتب المغربي محمد زهير بالتنويع في طرق الاشتغال والتيمات والأشكال، التي تتراوح بين التشكيل وألوانه، لغة الشعر وإيحاءاتها، نثر سلس و متن لغوي قوي لا يفرط في جماليات اللغة ما يجعل التفاعل مع نصوص المجموعة يتضمن نوعا من المغامرة الممتعة والشيقة، من خلال اعتماد الكاتب على تقنيات سردية حداثية تهتم بالغوص في أعماق الشخصية، للكشف عن بواطنها المأزومة، المتمردة والكسيرة، نتيجة الشرخ الكبير الذي أصاب الحياة من حولها في بناء قصصي محكم، وبلغة مكثفة رمزيا عميقة في أبعادها الدلالية، وأحيانا عفوية توهم بالواقعية، لكنها واقعية استبطانية تستنطق تجربة حسية، استبطان المواقف الشخصية لتحويلها إلى صور تسكن الذاكرة طويلاً» و..تلفتك العذوبة في تصوير الأحداث، داخلية أو خارجية، ما يجعل من مجموعة (أصوات لم أسمعها) تجربة جديدة في القصة القصيرة. عبر تنوّع تيماتها وأحداثها ولكن بقالب سردي مشدود يمتلك كل مقومات استدراج القارئ للتورط بأحداثها, والتماهي معها. يطل الكاتب محمد زهير في مجموعته الصادرة حديثا، ومن خلال النص الأول و هو تحت عنوان «تنازع» تطل الشخصية المحورية في موقع بين اليقظة والنوم وتحاول تسليط الضوء بدقة وكثافة شديدين على المبدع وهو يطارد لحظة الإلهام ومحاولة الظفر بذلك الخيط الرفيع الذي ينفلت، قبل أن يفجر طاقة الجماد ليحوله إلى عالم يشع بالجمال والخلق، فنقرأ في هذا النص «...كنت في البرزخ بين الحلم واليقظة، صوتي مهموس ومشاعري مستوفزة، ولكنني لا أستطيع أن أقترب من» إلهام» ومن اللوحة، مخافة أن تتبدد كثافة اللحظة.. لا أستطيع سوى النظر إليهما من بعد تلك المسافة، التي توقع في النفس أن كل ما نرتكن إليه أو يرتكن إلينا مجاز في مجاز، بدءا من أسمائنا التي نتوهم أننا نعرف بها، حتى شواهد القبور. ويتمكن المبدع عبر سفر استبطاني مضن وشاق من الوصول إلى اللحظة المبتغاة «. في مجموعة الكاتب محمد زهير، تنفتح المعاني في وجه القارئ، وإن كانت المجموعة لا تؤسس لسياقات مشتركة بل نجد أن كل نص يؤسس لنفسه بمعزل عن غيره. ولا تتسق النصوص في انساق تلتقي في نقطة واحدة لا من حيث مواضيعها ولا من حيث أزمنة كتاباتها. ففي القصة التي تقع تحت إسم شرفة «على الماء»، مثلا يكشف عن بنية من السلوكيات والاتجاهات المتباينة الرؤى تنهض على أحاسيس ومشاعر طافحة بالشوق والحنين إلى ماضي الطفولة الجميل في هذه القصة يرى القارئ مشاهد من حياته من حيث أن هذه القصة حابلة بإحالات على الطفولة من خلال مشترك إنساني. وحيث يتساءل الراوي في أحد مقاطع القصة «... قل لي بربك لماذا يستمر حضورها في روحي، رغم الأهواء والأنواء والإيغال في المسافات غدوا ورواحا؟ قل لي بربك، لماذا توغل في أعماقنا علاقات ولحظات بأعيانها، فلا يقوى الزمن على محوها؟ ويضيف «..رأيته بعيون استيهامي..قل لي بربك، لماذا تنفلت منا العلاقات واللحظات التي نتوهم امتلاكنا لها؟ قل لي بربك، هل تبقى الذكرى بلسما أم جرحا؟ عزاء أم غصة تتواطأ على تفتيت العمر؟ قل لي بربك أي جاذبية سحرية للا حليمة، تشد إليها بآصرة محبة لطيفة، فتجعل الطفل الذي كنته، قريبا منها في اليقظة وفي الحلم...» إننا بصدد حكي ينفلت باستمرار من سياق القوالب السردية الجاهزة، كتابة تعيد طرح الأسئلة بخصوص علاقات الذات بالكينونة والمتخيل، يوظف الكاتب من خلالها مفرداته التعبيرية حول شخوصه بأسلوبية متينة مقتصدة تجمع بين الجملة البسيطة والوضوح في الوصف عن هيئات وأحوال شخوص تتداعى فيها الذكريات الحميمة. في القصة التي تحمل المجموعة اسمها «أصوات لم أسمعها» ثمة تداخل بشكل المونولوج وقدرة على استنطاق الماضي وتشخيصه وتصويره بأدق التفاصيل وأكثرها حميمية أحيانا. فنقرأ في بداية القصة «...لو أمكنني أن أستعيد الزمن الذي انفلت من زمني، لأحضرت لك ما طلبت، ولأضفت إليه باقة ورد، وكلمة اعتذار رقيقة.. ولكن الذي مضى قد مضى، والذي كان قد كان.. فكل اعتذاراتي الآن، ليست سوى كتابة على صفحة الريح..» لقد برع الكاتب محمد زهير في الوصف التفصيلي الدقيق لمشاعر شخصياته ومونولوغاتها (حواراتها)، عبر هذه المجموعة التي تشكل تجربة جديدة في القصة القصيرة. تتنوّع بأفكارها وأحداثها ولكن بقالب مشدود، مكثّف، يزاوج الحكي فيه بين المشاعر والألوان عبر استنطاق الذاكرة ومحاولة المسك بتفاصيل اللحظة الهاربة. نقرأ في الفقرة الأخيرة من القصة الأخيرة «....صفية.. أستحضر وجهك الجميل من بين غيم كل هذه السنين، وألوم نفسي في محطات حساب كثيرة، أحصي فيها خساراتي، وأقول: لو أمكنني أن أستعيد الزمن.. لكن الزمن يضحك مني.. ولا تنفع كل اعتذاراتي..» بين الكتابة الرصينة الممتنعة والممتعة يقدم الكاتب المغربي محمد زهير مجموعة قصصية كل قصة فيها تمسك بالقارئ من أول سطر ويتابع كي يعرف مقصدها فلا يكشفه إلا في السطر الأخير. متعة ارتأينا أن نشارك فيها قراءنا من خلال نشر نص من بين النصوص العشرة لكاتب يعد بالكثير الكثير في مجال الكتابة القصصية المتميّزة. الوليمة أسكنتني الحاجة على سطح هذا المنزل القصي، في هذا الحي القصي، في طرف المدينة القصي. حي نبت بفوضى في خلاء قاحل هو في الأصل امتداد لقرية في الضاحية، وتحول بالتدريج إلى حي قابع هناك، لا هو امتداد للمدينة الجديدة، ولا هو من طبيعة القرية القديمة، مساكن قامت كيفما اتفق، فتناسلت وتكاثرت وطما سيلها ونغلت بالناس والحيوانات والأشياء. انحشر في أقباء المساكن الفوضوية طوفان بشر أنا واحد منهم. اسمي «سعيد الفرحان»، موظف صغير في وكالة بريدية صغيرة، أشتغل فيها وحدي في مواجهة زخام بشري لا ينتهي.. تزوجت من «منى» عاما واحدا.. رأتني يوم عطلة في بذلة اشتريتها من راتب أشهر عملي الأولى، فتعرفت عليها وتواعدنا على الزواج.. ثم تزوجنا.. سكنا أولا في بيت والدها أربعة أشهر مع أسرتها، وخرجنا مرهقين. اكترينا شقة صغيرة جدا، ثمانية أشهر، حتى بعت بذلتي التي رأتني فيها «منى» أول ما التقينا.. أرهقني الزواج، وأحسست خيبة «منى» تجرحني فينز الدم بقساوة... وفي آخر شهر من عام زواجنا، سحبت راتبي الشهري كله وأنفقته في وليمة أقمتها لنفسي ولزوجتي.. أحضرت المشتريات صباح عطلة أسبوعية: ديك أحمر سمين، ولحم غنم، وفواكه، وعلبة حلوى ومشروبات.. جئت إلى الشقة محملا بمشترياتي، وفوقها حذاء وقميص نوم جديدان، تمنت «منى» شراءهما منذ أشهر، ولم أستطع ذلك.. اندهشت زوجتي لما رأت: - ما هذا؟ - لوازم وليمة، وهدية لك بمناسبة مرور سنة على زواجنا. - كم أنفقت في هذا كله؟ - لماذا تسألين؟ - لست أنا التي تسأل؟ - ومن؟ - الكراء، والكهرباء، والماء، ومؤونة الشهر. - لا تقلقي، سأجيب كل هذه المطالب. - بماذا؟ ونظرت إلي زوجتي بريبة، فأقسمت لها إني لم أقترف ما يريب، وإني في تمام إدراكي، وإنما أرغب في الاحتفال بها وبنفسي. - وبعد الاحتفال؟ - سترين. أما الآن فخذي ما أحضرت. وهيئي لنا غذاء فاخرا يليق بمناسبة مرور سنة على زواجنا. - أهيئ الغذاء بكل هذا؟ - نعم، بكل هذا، واتركينا نعش اللحظة صفاء. وداعبتها فانطلقت أساريرها دون أن تزايلها الدهشة. وسمعتها تغمغم «آش خصك العريان؟ خاتم أمولاي!» فتجاهلت تعريضها، وخرجت إلى المقهى عند أصدقائي. لعبت الورق، وساهمت في تعبئة جدول الكلمات المتقاطعة، وناقشت مباريات الأسبوع في كرة القدم واحتمالات النصر والهزيمة وترتيب الفرق، وحكيت آخر النكت، واستمعت إلى أخرى جديدة، وقلت لأصدقائي بعد منتصف النهار: - لا تنتظروني مساء. - لماذا؟ لأنني مدعو إلى وليمة. - عند من؟ - ستعرفون بعد. وحملوا الأمر محمل المزاح.. وانصرفنا.. هيأت «منى» فعلا الوليمة الباذخة، حمرت الديك، وطبخت اللحم في مرق مركز وتوجته بلوز مقلي، ورتبت الفواكه والمشروبات، وهندمت طبق الحلوى، وعطرت الجو، وقالت لي بصوت مغناج: - مرحبا بك في بيتك ووليمتك يا حبيبي. فقلت لها سعيدا فرحا: - ومرحبا بك في بيتك ووليمتك يا حبيبتي. وضحكنا حتى انكشفت نواجذنا ضاحكة، ثم شمرنا على ساعد الوليمة، وتهيأنا للحفل الفخيم.. شغلت زوجتي شريط كاسيط ساخن ونادتني بطرف متوله: انهض. فأمسكت بها لينة مطواعة كالأملود، ورقصنا.. وفي مصهر رقصنا الحميم همست لي بعتاب رقيق: - لماذا لا تراقصني دائما؟ فأسمعتها كلمات ليست كالكلمات.. فأسندت رأسها إلى صدري وطوقتني بحرارة حنون، فتنشقت ضوع شعرها الطليق، شميم عشق كلمع السراب!.. وجلسنا لصق بعضنا إلى المائدة الحفيلة، فناولتني من الأطايب وناولتها، وقالت لي بصوت كالمناجاة: - لماذا لا تولم لي دائما هكذا؟ فأجبتها بلطف غامر: - آه يا حياتي، لو خيرت لاخترت.. فقابلت جوابي بابتسامة وريفة.. وأكلنا بفرح دافق حتى شبعنا.. - أعجبك الأكل؟ سألتني. فقلت لها بمودة وامتنان: - وصاحبة الأكل أيضا. فضحكت في حبور سعيد، وغنت أغنية ذكرتني بأول لقائنا. -بماذا تذكرك هذه الأغنية؟ - بموعد ولقاء، ورذاذ ربيع.. وصبت لي مشروبي المفضل، وقربت مني طبق الحلوى، وصبت لنفسها وتناولت ما يعجبها، وجلسنا حبيبين رائعين نتفرج في التلفاز على قصة حب محمومة ونتناجى بعذب الكلام. - أين كنت تخبئ هذا الدفء الوديع؟! - وأين كنت تخبئين هذا الجمال الرائع؟! وتحاضنا في عناق متوحد حتى سمعت وجيب قلبها وسمعت وجيب قلبي.. هذه اللحظة لنا وعلينا أن ننافذها هنيهة هنيهة.. وذلك ما كان.. واقترحت زوجتي أن نخرج للنزهة، فلبيت مرحبا وقمنا. احتذت حذاءها الجديد فخورة بي، وخرجنا خفيفين طليقين إلى النزهة في الحدائق والشوارع، واسترحنا في أكثر من مقهى، ودخلنا السينما.. وفي منتصف الليل عدنا إلى البيت، فأكلنا مما تبقى من الوليمة، واغتسلنا، ولبست «منى» قميص النوم الجديد الذي اشتريته لها هدية مع الحذاء، وتزينت بعناية فائقة، وجاءت إلى جانبي متوهجة عبقة، فأعطتني في تلك الليلة البهيجة عقب ذلك اليوم البهيج ما لم تعطني إياه ليلة زفافنا، وكذلك أنا. ونمنا عروسين سعيدين. وفي الصباح استيقظنا على أشلاء الوليمة كحديقة خربة.. - صباح الخير. - صباح الخير. - ماذا أقول لصاحب الكراء، والبقال، والكهرباء والماء، و... - اسمعي يا منى ما سأقول.. - أعرف ما ستقول، سأخرج معك. - اسمعي أولا.. - لن أسمع شيئا، سأخرج معك.. كانت لاتزال في قميص النوم الجديد، فخلعت عليه الجلبات، واحتذت الحذاء الجديد أيضا.. - إلى أين ستخرجين معي؟ - إذا طلقتها فلا حاجة لك إلى أن ترشدها إلى بيت أبيها!.. جمعت أشياءها في صمت، وخرجنا في صمت.. وفي مفترق الطرق توادعنا كأن شيئا لم يكن: - وداعا سعيد! - وداعا منى! ومضيت إلى الوكالة، ومضت منى إلى بيت والدها.. ورحلت للتو إلى هذا المكان القصي، على السطح من هذا البيت في طرف المدينة القصي.. سكن جهم موحش.. أفتح نافذته الوحيدة المطلة على المقبرة، فأرى مدمن الكحول الشريد يترنح قريبا من عشه في سدرة النبق بين القبور.. وفي عمق الليل أسمع غناءه الشجي الذي يلاحق سرابا في يباب قاحل تسكنه الأشباح، فيجافيني النوم وينسل طيف «منى» من أحلامي.