مقارنة الوباء بحرب والفيروس بعدُوٍّ – وأعتذر عن اقتراف، هذا إن كنت فعلت، خطأ فادحا – إذ بنشر هذه العقيدة يتم تبرير قتل البعض ليعيش البعض أو لضمان استمرار اختيارات وأنظمة اقتصادية ومالية… وهذا ليس احتمالا افتراضيا بل كلام ردده أحد كبار مسؤولي أكبر دول العالم الذي كتب واعترف وأكد على ضرورة أخذ قرارات صحية لإنقاذ النظام الاقتصادي مع العلم السابق أن نتيجتها ستكون حتما موت الكثيرين مبرراً ذلك ب “إننا نرسل الجيوش للدفاع عن الوطن ونحن نعلم أن أكثرهم سيموتون والحالة مع هذا الڤيروس نفسها…” وهكذا يستغل مفهوم التضحية من أجل المصالح العليا لبلد وللحفاظ على نمط عيش معين ويبني خطابا إيديولوجيا يبرر قرارت سياسية تفضل موت الناس على المس بمصالح اقتصادية ومالية إذ هذا ما يعني نمط العيش في هذا الخطاب … في إطار هذا الخطاب انتقصت هذه النظرية المؤدلجة من شأن الجائحة الصحية أول الأمر ثم اعتبرتها وكأنها حرب في مواجهة عدو ذي مشيئة شيطانية ونية سيئة يمكن التفاوض معه – وما الڤيروس بكائن حي – ويجب تقديم ضحايا – قرابين – له وتغذيته بالذين يُختارون لمحاربته بأسلحة لا تقضي عليه لأنها غير ملائمة ولا كافية بل عكس ذلك تزيده فرصاً للانتشار والتمكن… تفترض هذه المقاربة ضرورة موت عشرات الآلاف من المواطنين العاملين في مختلف قطاعات الصناعة والاقتصاد كثمن طبيعي لا يعادله ثمن الاستثمار في إنقاذ حياتهم. في هذه المقاربة يقدَّم الاختيار وكأنه صعب بين إنقاذ الاقتصاد وقبول المزيد من الموتى وتسميتهم ضحايا حرب، أي قرابين وشهداء، أو إنقاذ حياة الناس وسلامتهم والتضحية بالاقتصاد ليجدوا نفسهم في حالة عامة متدهورة تعذر عليهم فيها الاستهلاك والعمل والتمتع بما يتيحه لهم اقتصاد قوي وسليم … منذ بداية الجائحة ومسؤولون صحيون ومستشارو القيادات السياسية في الدول الكبرى يشيرون لصعوبة أخذ القرارات المتعلقة بالڤيروس والجائحة التي تسبب فيها لتداخل المستويات وتعارض الآراء، لكن كلامهم غالبا ما لم يفهم كتحذير لترجيح كفة البعد الاقتصادي والمالي على البعد الصحي الصرف وما سيتولد عليه من تعقيد للأمور وتفاقم انتشار المرض إلى مستويات يصبح معها التحكم فيه صعب المنال.. وما وضع هذه الفرضية نفسه إلا إخلالاً بمبدأ الحق في الحياة كحق أسمى لا فوقه مبدأ ولا حق … أعادتني هذه المفارقة الخطيرة إلى مفاهيم التدبير الحكيم ومسارات اتخاذ القرارات والممارسات الفضلى كشرط لتحاشي النتائج الوخيمة بسبب الأخطاء الفادحة أو التهاون أو التطاول على الميادين والقصور في التقدير بسبب عدم الاختصاص أو سوء النية خدمة لمصالح خاصة معينة معارضة للمصالح العامة … وأول هذه المفاهبم تتعلق بالشروط الأساسية والأولية لكل مسار صناعة القرار حيث أن عدم معرفة كيف نقارن ثمن وكلفة ما يترتب عن القرارات وتثمين الفرص المتاحة بيئيا واجتماعياً واقتصاديا وثقافيا وصحيا وسياسيا آخذين بالاعتبار معايير سعادة الناس وكرامتهم سنحكم على نفسنا بمجانبة الحلول المستدامة إذ أن الحلول الفضلى ليست بالضرورة أقلها كلفة مالية أو اقتصاديا أو تكنلوجيا، وقد تكون هذه الأخيرة أثقل ثمنا على البيئة وصحة الناس وحياتهم… فالأهم هو كيف سنتعامل مع صناعة قرارات ستكون دائما ذات صبغة سياسية وفي خدمة مصالح وأولويات الذين يتحكمون في دفة المال والاقتصاد والتي ليس من عاداتها وأجهزتها الآلية أن تُدخل في اعتبارها معادلة آمال الناس وسلامتهم وسلامة ممتلكاتهم وسعادتهم ولا النتائج العكسية التي قد تؤدي إليها على استقرارهم الاجتماعي والنفسي بل وعلى حياتهم مادامت مناجم منهم توفر قادرين على ضمان استمرار دوران رحى الإنتاج واستثمار دخلهم في استهلاك ما ينتجون … أما من الناحية التقنية فنقول إن قيمة القرارات من قيمة وجودة المعطيات التي تُعتمد في أخذها وقيمة وكفاءة الذين يتناولونها ويسائلونها ويحللونها ويحولونها إلى معلومات ذات معنى واتجاه بربطها ببعضها وبأخرى متاحة وإن خارج المنظومات التي يشتغلون عليها، وبالتالي نقول إن معايير تحديد وتعريف الصحيح من الخطأ في مسارات صناعة القرار وتقييم القرارات الناتجة عنها ليست نفسها في كل الميادين فالتي تصلح في علم قد لا تصلح في آخر غيره، وكذلك مناهج النقد والتقييم والمفاهيم المعتمدة في التعامل مع ميادين مختلفة وبأن أقل القرارات جودة تلك التي تؤخذ عن وعي وبسبب الجهل أو عدم القدرة على توقع تطور حالات معينة وما قد تخفيه… وتليها قلة جودة تلك التي تؤخذ على أساس رغبات وتفضيلات وشهوات وليس على أساس أهداف محددة ومضبوطة لحل المشاكل في شموليتها بمقترحات قابلة للتحقيق بالإمكانيات الممكن حشدها… ولهذا تكون المجازفة بإمكانية مباشرة المشاكل في أوانها وبالمقاربات الأكثر ملاءمة لما تستعمل معايير ومفاهيم في غير محلها وتسخر بآليات وموارد غير كافية إما اقتصاداً أو محاولة حماية قطاعات بعينها فتضيع فرص حلها بأقل كلفة ممكنة وللصالح العام ضدًّا على نصائح الخبراء أو تحقيراً واستصغاراً لها … أما أسباب هذه المفارقات فلا تكون قط بسيطة فهي دائما معقدة وذات علاقات أفقية وعمودية ودائرية بظواهر ومجموعات عوامل ذات طبيعة مختلفة قد تبدو بعيدة وغير ذي علاقة بها مما يجعل معرفتنا لها وحنكتنا في التعامل الأجدى معها محددة بجاهزيتنا العقلية والمعرفية وتجربتنا المتعددة الأبعاد ودقة الآلات والأدوات المستعملة في الملاحظة وتجميع المعطيات الملائمة والتحليل والتفسير والتأويل والوقت المتاح والعينات المتاحة ونوعيتها وتعدد مواقع التقاطها … ولهذا فالحكيم ليس من يحاول دفع الناس لقرار يؤمن بصلاحيته لكنه من يقدم لهم ما يعرفه وما لديه من معلومات ويضع خبرته وعلمه بين يديهم ويبقى مستعداً وعلى أهبة المساهمة في إخراج أفضل القرارات إن طلب منه ذلك … الحكيم ليس سياسيا وليس قاضيا لا يحكم على الناس وعلى أعمالهم وأفعالهم لكنه يحللها ويقيمها ويضعها في إطار يسمح بتعريفها تعريفاً دقيقاً جامعا كاملا وبمقارنتها بأخريات وهو كذلك من يعرف كيف يقنع الناس بأن مهما كانت القرارات صلبة وجيدة لن تكون لها النتائج المتوخاة إلا وشريطة أن تطبق تطبيقا جيدا وأن تحترم احتراما كاملا وتكون قابلة للتقييم والتطور والملائمة مع كل تغيير أو تحول طاريء … وفي حالة جائحة بسبب فيروس معدي، وكون جودة القرار وصلابته الشرط الأساس لحماية حياة الساكنة وتمنيعها وإعدادها للحياة بعد فك عزلتها ورفع الحجر عنها وإقناعها بأن حماية نفسها تكون كذلك بحماية الآخرين لأنفسهم.. ومقابل هذا فإن ضعف قرار أو خدمته لجهات معينة دون أخرى فقد تكون فيه كارثة صحية أكبر وآثار اجتماعية واقتصادية أشد وأدهى كأن تحفز المختبرات والمعامل لإخراج تلقيح أو اختبار لم يخضع لشروط التجريب والاختبار والتدقيق اللازمة والتأكد من سلامته المعتادة بتليين هذه الشروط والتخفيف من صرامتها بدعوى التعجيل بإعادة الدورة الاقتصادية للاشتغال فهذا يعتبر جرم في حق الإنسانية جمعاء وإن إقحام المختبرات المعنية في سباق يحركه الربح وحده من أمثلة اللجوء لمفاهيم ومقاربات في غير محلها … وسأل سائل هل عشنا لنرى دولا تقتل أبناءها ليبقى نظامها المالي والاقتصادي وأجابه من سمعه إنها تفعل بتزكية الإيديولوجية الليبرالية المتوحشة … *أستاذ باحث متقاعد بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة