يخلد الشعب المغربي من طنجة إلى الكويرة، ومعه أسرة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير، من 16 إلى 18 نونبر 2019، الذكرى 64 لعودة جلالة المغفور له محمد الخامس، من المنفى إلى أرض الوطن، معلنا عن انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الحرية والاستقلال، والانتقال من معركة الجهاد الأصغر التحرري إلى معركة الجهاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي، وانتصار ثورة الملك والشعب التي جسدت ملحمة بطولية عظيمة في مسيرة الكفاح الوطني الذي خاضه الشعب المغربي بقيادة العرش العلوي من اجل نيل الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية والوحدة الترابية. وتعد ذكرى عيد الاستقلال المجيد من أغلى الذكريات الوطنية الراسخة في قلوب المغاربة لما لها من مكانة وازنة ومتميزة في رقيم الذاكرة التاريخية الوطنية، وما تمثله من رمزية ودلالات عميقة تجسد انتصار إرادة العرش والشعب والتحامهما الوثيق دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية. وبتخليد هذه الذكرى المجيدة، نستحضر السياق التاريخي لهذا الحدث العظيم الذي لم يكن تحقيقه أمرا سهلا أو هينا، بل ملحمة كبرى طافحة بمواقف رائعة وعبر ودروس بليغة وبطولات عظيمة وتضحيات جسام وأمجاد تاريخية خالدة صنعتها ثورة الملك والشعب التي تفجرت إيذانا بخوض غمار المواجهة والمقاومة، وتشبثا بالوطنية الحقة في أسمى وأجل مظاهرها. لقد شكلت عودة الشرعية نصرا مبينا وحدثا تاريخيا حاسما، توج بالمجد مراحل الكفاح المرير الذي تلاحقت أطواره وتعددت صوره وأشكاله في مواجهة الوجود الاستعماري المفروض منذ 30 مارس سنة 1912، حيث خلد المغاربة أروع صور الغيرة الوطنية والالتزام والوفاء، وبذلوا أغلى التضحيات في سبيل عزة الوطن وكرامته والدفاع عن مقدساته. فكثيرة هي المعارك البطولية والانتفاضات الشعبية التي خاضها أبناء الشعب المغربي بكافة ربوع المملكة في مواجهة مستميتة للوجود الأجنبي والتسلط الاستعماري. ومن هذه البطولات، معارك الهري وأنوال وبوغافر وجبل بادو وسيدي بوعثمان وانتفاضة قبائل آيت باعمران والأقاليم الجنوبية وغيرها من المحطات التاريخية التي لقن فيها المجاهدون للقوات الاستعمارية دروسا رائعة في الصمود والمقاومة والتضحية. ومن روائع الكفاح الوطني، ما قامت به الحركة الوطنية مع مطلع الثلاثينات بالانتقال إلى النضال السياسي والعمل الوطني الهادف بالأساس إلى نشر الوعي الوطني وشحذ العزائم وإذكاء الهمم في صفوف الشباب وداخل أوساط المجتمع المغربي بكل فئاته وطبقاته. كما عملت الحركة الوطنية على التعريف بالقضية المغربية في المحافل الدولية مما كان له وقع الصدمة على الوجود الأجنبي الذي كان يواجه النضال السياسي الوطني بإجراءات تعسفية ومخططات مناوئة للفكر التحرري الذي تبنته الحركة الوطنية بتفاعل وتناغم مع أب الأمة وبطا التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس. ومن أبرز هذه المخططات الاستعمارية، مشروع التفرقة بين أبناء الشعب المغربي الواحد وتفكيك وحدتهم وطمس هويتهم الدينية والوطنية بإصدار ما سمي بالظهير البربري يوم 16 ماي 1930. لكن المخطط العنصري والتمييزي سرعان ما باء بالفشل حيث وقف الوطنيون والمناضلون في خندق مواجهة ومناهضة الوجود الاستعماري، وتمسك المغاربة بالدين الإسلامي الحنيف وبالهوية المغربية وبالوحدة الوطنية. ومن تجليات وإفرازات النضال الوطني، إقدام قادة الحركة الوطنية على تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال إلى سلطات الحماية يوم 11 يناير 1944، بتشاور وتناغم تام مع بطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس، وما أعقب ذلك من ردود فعل عنيفة من لدن السلطات الاستعمارية، حيث تم اعتقال بعض قادة وزعماء ورجالات الحركة الوطنية والتنكيل بالمغاربة الذين أظهروا حماسا وطنيا منقطع النظير وعبروا من خلاله عن دعمهم للوثيقة التاريخية. كما أن من ابرز هذه المحطات التاريخية التي ميزت مسار الكفاح الوطني، الزيارة التاريخية التي قام بها جلالة المغفور له محمد الخامس لطنجة يوم 9 ابريل 1947 تأكيدا على تشبث المغرب، ملكا وشعبا، بحرية الوطن واستقلاله ووحدته الترابية وتمسكه بمقوماته وهويته وبانتمائه لمحيطه العربي والإسلامي. لقد كان لهذه الرحلة الميمونة، رحلة الوحدة، الأثر العميق على علاقة الإقامة العامة بالقصر الملكي حيث اشتد الصراع، خاصة وأن جلالة المغفور له محمد الخامس لم يرضخ لضغوط سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية المتمثلة أساسا في فك الارتباط بالحركة الوطنية ومع المد التحرري الوطني. فكانت مواقفه الرافضة لكل مساومة سببا في تأزم الوضع السياسي وإقدام سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية على تدبير مخطط تفكيك العرى الوثقى بين الملك وشعبه. وقد تصدى المغاربة لهذه المؤامرة التي تجلت خيوطها في الأيام الأولى من شهر غشت 1953 حيث وقف سكان مدينة مراكش بالمرصاد يومي 14 و15 غشت 1953 للحيلولة دون تنصيب صنيعة الاستعمار ابن عرفة. كما انطلقت انتفاضة 16 غشت 1953 بوجدة، وانتفاضة 17 غشت 1953 بتافوغالت، وعمت مواقف الاستنكار والتنديد بالفعلة النكراء لقوات الاحتلال الأجنبي في سائر ربوع الوطن حينما أقدمت سلطات الحماية على محاصرة القصر الملكي بقواتها الأمنية والعسكرية يوم 20 غشت 1953 مهددة ومتوعدة جلالة المغفور له محمد الخامس بالتنازل عن العرش، ففضل النفي على أن يرضخ لإرادة المحتل الأجنبي، مصرحا بكل ما له من إيمان بالله وعدالة بالقضية المغربية بأنه الملك الشرعي للأمة، وانه لن يضيع الأمانة التي وضعها شعبه الوفي على عاتقه وطوقه بها، والتي تجعله السلطان الشرعي ورمز السيادة الوطنية والوحدة المقدسة. وأمام هذه المواقف الوطنية النبيلة التي أبرزها بطل التحرير والاستقلال والمقاوم الأول جلالة المغفور له محمد الخامس، بكل عزم وإقدام وبكل شجاعة وإباء، أقدمت سلطات الإقامة العامة على تنفيذ مؤامرتها النكراء بنفيه ورفيقه في الكفح والمنفى، فقيد العروبة والإسلام جلالة المغفور له الحسن الثاني عليهما والأسرة الملكية الشريفة يوم 20 غشت 1953 إلى جزيرة كورسيكا ومنها إلى مدغشقر. وما إن عم الخبر سائر ربوع المملكة وشاع في كل أرجائها حتى انتفض الشعب المغربي انتفاضة عارمة، وتفجر سخطه وغضبه في وجه الاحتلال الأجنبي، وظهرت بوادر العمل المسلح والمقاومة والفداء وتشكلت الخلايا الفدائية والتنظيمات السرية وانطلقت العمليات البطولية لضرب غلاة الاستعمار ومصالحه وأهدافه. وتجلى واضحا من ذلك عزم المغاربة وإصرارهم على النضال المستميت من اجل عودة الشرعية التاريخية وتحقيق الاستقلال. فمن العملية الفدائية الجريئة للشهيد علال بن عبد الله يوم 11 شتنبر 1953 الذي استهدفت بها صنيعة الاستعمار، إلى عمليات فدائية بطولية للشهيد محمد الزرقطوني ورفاقه في خلايا المقاومة بالدار البيضاء وعمليات مقاومين ومناضلين بالعديد من المدن والقرى المغربية لتتصاعد وتيرة المقاومة بالمظاهرات والاحتجاجات العارمة والانتفاضات الشعبية المتتالية ومنها مظاهرات وادي زم وقبائل السماعلة وبني خيران وأخرى وفي العديد من المناطق المغربية في 19 و20 غشت 1955، وتتكلل بالانطلاقة المظفرة لجيش التحرير بالأقاليم الشمالية للمملكة في ليلة 1-2 أكتوبر 1955. ولم تهدأ ثائرة المقاومة والفداء إلا بتحقيق أمل الأمة المغربية في عودة بطل التحرير والاستقلال ورمز الوحدة الوطنية جلالة المغفور له محمد الخامس، حاملا معه لواء الحرية والاستقلال، ومعلنا عن الانتقال من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر من أجل بناء المغرب الجديد ومواصلة ملحمة تحقيق الوحدة الترابية. فانطلقت عمليات جيش التحرير بالجنوب المغربي سنة 1956 لتخليص الأقاليم الجنوبية الصحراوية من نير الاحتلال الإسباني، وقد أعلنها بطل التحرير صيحة مدوية في خطابه التاريخي بمحاميد الغزلان في 25 فبراير 1958، وهو يستقبل وفود أبناء قبائل الصحراء، مؤكدا مواقف المغرب الثابتة وتعبئته التامة لاسترجاع صحرائه السليبة، ومحققا في 15 أبريل من نفس السنة 1958 استرجاع منطقة طرفاية، كبداية انتصار مسلسل تحرير ما تبقى من المناطق السليبة من الوطن. وسيرا على نهج والده المنعم، خاض الملك الموحد جلالة المغفور له الحسن الثاني معركة استكمال الوحدة الترابية، فتم في عهده استرجاع مدينة سيدي ايفني في 30 يونيو 1969، كما تحقق استرجاع أقاليمنا الجنوبية بفضل المسيرة الخضراء المظفرة التي انطلقت يوم 6 نونبر 1975، وارتفع العلم الوطني في سماء العيون يوم 28 فبراير 1976، إيذانا بجلاء آخر جندي أجنبي عنها. وفي 14 غشت من سنة 1979، تواصل استكمال الوحدة الترابية للوطن باسترجاع إقليم وادي الذهب لتتحقق الوحدة الترابية من طنجة إلى الكويرة. وتحل الذكرى 64 للأعياد الثلاثة: عيد العودة وعيد الانبعاث وعيد الاستقلال ، كلحظة تاريخية للتأمل والتدبر في مسلسل الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال وتحقيق الوحدة الترابية، في سياق نضالي شامل ومتكامل يشج أواصر العروة الوثقى بين القمة والقاعدة. والمناسبة سانحة للتأكيد مجددا على الموقف الثابت للشعب المغربي، ومعه أسرة المقاومة وجيش التحرير، وكافة مكونات وأطياف المجتمع، وتعبئتهم المستمرة ويقظتهم الموصولة وتجندهم الدائم وراء عاهل البلاد جلالة الملك محمد السادس ، من أجل تثبيت المكاسب الوطنية والدفاع عن وحدتنا الترابية غير القابلة للتنازل أو المساومة، متشبثين بالمبادرة المغربية القاضية بمنح حكم ذاتي موسع لأقاليمنا الجنوبية المسترجعة في ظل السيادة الوطنية. هذا المشروع الذي حظي بالإجماع الشعبي لكافة فئات وشرائح ومكونات الشعب المغربي وأطيافه السياسية والنقابية والجهوية والمدنية، ولقي الدعم والمساندة بالمنتظم الأممي الذي اعتبره آلية ديمقراطية وسياسة وواقعية لإنهاء النزاع الإقليمي المفتعل حول أحقية المغرب في السيادة على ترابه الوطني من طنجة إلى الكويرة. وهو ما أكده جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي بمناسبة الذكرى 44 للمسيرة الخضراء المظفرة في 6 نونبر 2019 حيث يقول جلالته:” لقد ظل المغرب واضحا في مواقفه، بخصوص مغربية الصحراء، ومؤمنا بعدالة قضيته، ومشروعية حقوقه. وسيواصل العمل، بصدق وحسن نية، طبقا للمقاربة السياسية المعتمدة حصريا، من طرف منظمة الأممالمتحدة، وقرارات مجلس الأمن، من أجل التوصل إلى حل سياسي واقعي، عملي وتوافقي. وهو الحل الذي تجسده مبادرة الحكم الذاتي، نظرا لجديتها ومصداقيتها، وصواب توجهاتها؛ لأنها السبيل الوحيد للتسوية، في إطار الاحترام التام للوحدة الوطنية والترابية للمملكة. وقد تعزز هذا التوجه بزيادة عدد الدول التي لا تعترف بالكيان الوهمي، والذي يفوق حاليا 163 دولة. كما تؤكده أيضا الشراكات والاتفاقيات التي تجمع المغرب بالقوى الكبرى، وعدد من الدول الشقيقة والصديقة، والتي تشمل كل جهات المملكة، بما فيها الأقاليم الصحراوية”. واحتفاء بهذه المحطة الوضاءة في مسلسل الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال والوحدة، وكما جرت العادة في كل سنة، سيتضمن برنامج تخليد هذه الذكرى المجيدة الذي أعدته المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير يوم الاثنين 18 نونبر 2019، تنظيم زيارة ضريح محمد الخامس للترحم على روحي المغفور لهما جلالة الملك محمد الخامس ورفيقه في الكفاح والمنفى جلالة الملك الحسن. ومهرجان خطابي لاستحضار الحدث التاريخي لعيد الاستقلال ودلالاته واستلهام قيمه وعبره، وذلك بمقر المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بالرباط. كما ستجري بهذه المناسبة، مراسم تكريم صفوة من أعضاء المقاومة وجيش التحرير، عربون وفاء وتقدير وعرفان بخدماتهم الجلى وتضحياتهم الجسام في ميادين الشرف والمقاومة والتحرير والوحدة. هذا، وستلتئم بمجموع ولايات وعمالات وأقاليم المملكة، احتفاليات وبرامج تنشيطية وتربوية وثقافية وتواصلية مع رصيد الذاكرة التاريخية الوطنية من خلال برنامج وطني حافل بالمهرجانات الخطابية واللقاءات التواصلية والعروض التربوية والتظاهرات والأنشطة الثقافية، بمشاركة فئات وشرائح المجتمع وفعالياته وأطيافه، إشادة بملحمة العرش والشعب المتجددة، ومغرب الوحدة الوطنية والترابية والحداثة والديمقراطية والتقدم والجهوية المتقدمة.