* الديمقراطية والتنمية البشرية: في تاريخ الأفكار، تبرز الديمقراطية منارةً سامقةً تهفو إليها قلوب الناس؛ لأنَّها، على الرغم من مساوئها، تؤدي إلى قيام مجتمعٍ تُصان فيه حقوق الإنسان، وتحفظ كرامته. واحترام حقوق الإنسان شرطٌ أساسيٌّ لتحقيق التنمية البشرية. ويتلخَّص مفهوم التنمية البشرية في تمتُّع جميع أفراد الشعب بصحَّةٍ جيٍّدةٍ وعمرٍ مديد، ومستوىً تعليميٍّ جيّد، ودخلٍ فرديٍّ يكفي للعيش بصورةٍ تليق بالكرامة الإنسانية. ومعروفٌ أنَّ وصفة تحقيق التنمية البشرية لم تعُدْ سرّاً، وإنَّما هي وصفةٌ مشاعةٌ طبّقتها في الستينيّات من القرن الماضي دولٌ كانت أقلَّ نموّاً من الأقطار العربية، مثل فنلندة وماليزيا وكوريا، فأصبحت اليوم من بين الدول ذات التنمية البشرية العالية، في حين تراجعت التنمية في الأقطار العربية بحيث أمست تُصنّف ضمن الدول ذات التنمية المتدنية، طبقاً لتقارير التنمية البشرية التي ينشرها سنوياً البرنامجُ الإنمائي للأمم المتحدة. وتتكوَّن وصفة التنمية من ثلاثة مقوِّمات هي: الديمقراطية التي تطلق الإمكانات الخلاقة لأوسع الجماهير؛ وتعليمٌ إلزاميٌّ جيّد، لجميع أبناء الشعب على نفقة الدولة ، باللغة الوطنية التي تتيح تَمثُّل المعرفة، وإنتاجها، وتداولها بسرعة؛ واستثمار آخر معطيات العلوم والتكنولوجيا في الخدمات والإنتاج الزراعي والصناعي وغيره. ولا يكفي، لتحقيق الديمقراطية، وجود دستورٍ وقوانين تعترف بالديمقراطية وتقرّ حقوق المواطنين، وإنما هنالك حاجة إلى نشر ثقافة ديمقراطية في مجتمع، تضطلع فيه مؤسَّسات المجتمع المدني بدورٍ بارزٍ في حماية الديمقراطية، وتفعيلها، وتنميتها، وتوجيهها، والحدّ من نقائصها. * جوهر الديمقراطية: مهما تعدَّدت أنظمة الحكم الديمقراطي وتنوَّعت مؤسَّساته، فإنَّ الديمقراطية، في جوهرها، تقوم على دعامتيْن أساسيتيْن، هما: المساواة والحرية. تعني المساواة تكافؤ جميع المواطنين أمام القانون في الحياة، والكرامة، والتعلّم، والعمل، والمشاركة في إدارة الشؤون العامة وتولي السلطة. أمّا الحرية، فقد تطوَّر مفهومها على مرِّ العصور. ففي حين كانت في الماضي نقيضاً للعبودية والأسر، أصبحت الحرِّية اليوم حرِّياتٍ متعدّدةً متجسِّدة في حقوق الإنسان الطبيعية والمدنية والسياسية، والحرِّية الاقتصادية التي ترتِّب حقوقاً للمواطنين على الدولة في التأمين الصحي والضمان الاجتماعي والتعويض عن البطالة. وتؤدّي مراعاة حقوق الإنسان إلى تحقيق العدالة التي هي أساس المُلك، أي استتباب السِّلم الداخلي، وتجنُّب التوتُّرات الاجتماعية والثورات الشعبية. * المؤسّسات في الدول الديمقراطية: في الدول الحديثة، تقسَّم المؤسُّسات على قسميْن رئيسيْن: أ) المؤسَّسات الرسمية، المتمثلة في السلطة التشريعية التي تسنّ القوانين، والسلطة التنفيذية التي تتولّى إدارة البلاد وتسيير شؤون المواطنين، والسلطة القضائية التي تسهر على تطبيق القوانين واحترامها. وتتمتع هذه السلطات بالاستقلال وعدم التدخل في شؤون بعضها. ب) المؤسسات غير الرسمية، التي تنقسم بدورها على نوعين: 1) المجتمع السياسي، الذي يتألف من الأحزاب السياسية، وتحالفاتها، وحملاتها الانتخابية. وهدف هذا المجتمع السيطرة على الدولة في جميع مستويات السلطة وفي كافة المجالات الإدارية والقضائية والتشريعية والعسكرية. 2) المجتمع المدني، الذي يتألَّف من الحركات الاجتماعية الممثَّلة في منظِّمات غير حكومية (وطنية أو دولية) ومؤسَّسات شعبية، ليس من أغراضها الربح المادي، وليس من أهدافها الاستيلاء على السلطة، وإنَّما غايتها الأساسية دعم الديمقراطية ونشرها، والدفاع عن حقوق المواطنين وترسيخها، وضبط سلطة الدولة، ونقد الإجراءات الحكومية المخالفة للقوانين ومصالح المواطنين والكشف عن مواطن الفساد والحدّ منها. * مكوّنات المجتمع المدني: يتألَّف المجتمع المدني من مؤسسات تمثِّل مصالح المواطنين، كالجمعيات الخيرية التي تعنى بالفقراء، وكبار السنِّ، وأصحاب الاحتياجات الخاصة، والمواطنين الذين يعانون العزلة والوحدة؛ وجمعيات الدفاع عن مصالح المستهلكين؛ وكالاتحادات والنقابات المهنية والعمّالية التي تدافع عن حقوق المهنيين والعمّال مثل اتحادات ونقابات المحامين، والمعلِّمين، والعمال، والأدباء والأطباء؛ والمؤسَّسات الثقافية الرامية إلى توعية المواطنين بالقضايا القانونية، وترسيخ الثقافة الديمقراطية. * مؤسّسات المجتمع المدني والديمقراطية: يؤمِن نشطاءُ المجتمع المدني أنُّ الديمقراطية هي السبيل الأمثل لإيجاد مجتمع المعرفة، وتحقيق التنمية البشرية. والديمقراطية ليست أمراً حتمياً، ولا تتحقَّق بسهولة، وإنّما عبر الإخلاص والنضال والتضحية. ولهذا، فإنَّ مؤسَّسات المجتمع المدني تسعى إلى تعزيز الديمقراطية، وذلك عن طريق نشر الثقافة الديمقراطية في المجتمع، وتقوية الدافع الأخلاقي لدى أفراد المجتمع، وتحفيزهم على المشاركة السياسية، وجعل الديمقراطية فاعلة اجتماعياً واقتصادياً. وتنظيم دورات تدريبية لإعداد القادة وتوفير زعماء سياسيين جدد من بين الشباب الصاعد. ويشجِّع نجاحُ مؤسسات المجتمع المدني على تكاثرها للدفاع عن مصالح الشرائح المختلفة في المجتمع. ويؤدّي وجود مصالح متنافسة وتجاذبات متعدّدة في البلاد إلى تقوية الدولة واستقرارها، واستمرارها في نظام ديمقراطي، ويجنّبها الوقوع في يد فئةٍ واحدةٍ أو مصلحةٍ واحدةٍ، بل تبقى الدولة لصالح جميع الفئات. * المجتمع المدني في دولة القانون وفي دولة القمع: يرى الفلاسفة وعلماء السياسة أن أهمَّ خصائص «دولة القانون» المساواة بين مؤسَّسات الدولة ومؤسَّسات المجتمع المدني. وقد أخذت دولٌ عديدةٌ بهذه النظرة. أمّا الحكومات التسلُّطية والقمعية، فإنَّها تعمل على محاربة مؤسَّسات المجتمع المدني أو احتوائها بحيث تصبح مجرّد أبواق للحاكم المستبدِّ أو الحزب الوحيد، لتلميع صورته، وتسويغ إجراءاته القمعية، بحجة المحافظة على أمن المواطنين ومحاربة الإرهاب. وهكذا تقوم أنظمةُ الحكم التسلُّطية بتحويلها إلى وسائل بيدِ الحكومة لتثبيت سلطتها وهيمنتها. فالحكم الاستبدادي يجمع بين القمع والخداع لإخفاء مساوئه، ويستخدم الإعلام للمبالغة في عرض منجزاته وتلميع صورته، بدلاً من أن يكون الإعلام وسيلةً لنقد السلطة وكشف فسادها. وبعبارةٍ أخرى، فإن الدولة التسلُّطية تستخدم السلاح للترهيب والإعلام للترغيب، أو كما قال الشاعر المتنبي: إذا كان بعَضُ الناس سَيفاً لدولةٍ ففي الناسِ بوقاتٌ لها وطبولُ فالدولة الشمولية تلجأ إلى إغداق الأموال على مؤسَّسات المجتمع المدني الحليفة، وترهيب مؤسَّسات المجتمع المدني المعارضة والتضييق عليها. ولهذا تضطر بعض مؤسَّسات المجتمع المدني إلى قبول المساعدات المادية من جهات خارجية ودولية ما قد يجعلها تحت تأثير تلك الجهات، فتكون فريسة سهلة لاتهام السلطات لها بالعمالة للأجنبي. * التعليم مهد الديمقراطية: على الرغم من أنَّ نشر ثقافة الديمقراطية يتطلَّب تضافر جهود مجموعةٍ من المؤسَّسات والأنشطة كالأسرة، والمدرسة، ووسائل الإعلام والاتصال، والمجتمع المدني، ومراكز التدريب، والتشريعات المختلفة؛ فإن التعليم بالذات هو حجر الزاوية في بناء الديمقراطية، لا لأن التعليم يعمل على تنشئة التلاميذ على احترام حقوق الإنسان والانفتاح على الآخر، ويدرِّبهم على ممارسة السلوك الديمقراطي، واتباع المنهج العقلاني في الدرس والبحث فحسب؛ بل كذلك لأنَّ التعليم الإلزامي الجيّد الذي تتعهّده الدولة، يرفع المستوى المعرفي لجميع المواطنين على قدم المساواة، ويوفّر تكافؤ الفرص أمامهم للمشاركة في السلطة تبعاً لقدراتهم الذاتية ومؤهلاتهم وجدّهم. * نظام التعليم في البلاد العربية: على الرغم من أن مجموع الطلاب المنخرطين في المدارس والجامعات في الوطن العربي يربو على 100 مليون متمدرس أي حوالي ثلث السكان، وأن معظم الدول العربية تنفق حوالي 10.5% من ناتجها الخام لتنمية التعليم فيها، فإن هذا التعليم لم يتمكّن من تنمية القيم والممارسات الديمقراطية. ويعود السبب في ذلك إلى عدم ديمقراطية التعليم ذاته. لقد استُعمِرت الدول العربية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وقامت الدول الاستعمارية الأوربية بوضع هياكل التعليم الحديث في البلدان العربية على نمط التعليم الأوربي السائد في القرن التاسع عشر والذي كان طبقياً على ثلاثة أنواع: تعليم للنخبة السياسية والاقتصادية، وتعليم لأبناء الطبقة المتوسطة، وتعليم أو لا تعليم لأبناء الطبقة الدنيا. وعندما منحت هذه الدولُ الاستعمارية الدولَ العربية استقلالاً في إطار التبعية الثقافية والاقتصادية، ورثت الدولُ العربية التركةَ الاستعمارية في نظامها التعليمي من حيث بنياته وهياكله، ومن حيث الرؤى والتصورات التي غرسها الاستعمار في نفوس أبناء النخبة العربية الحاكمة الذين تلقوا تعليمهم في مدارس المستعمِر. وهكذا أصبح نظامنا التعليمي طبقياً، وتديره نخبة تؤمن بالازدواجية اللغوية والثقافية. في المجال الثقافي، تتجلّى التبعية للمستعمِر القديم واستمرار تركته، في الإبقاء على لغته الأجنبية لغةً وظيفيةً في التعليم العالي والإدارة والتجارة والشركات والبنوك والإعلام والحياة العامة. ولهذا فإنَّ المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية تتطلّب إجادة لغة المستعمر القديم، وليس القدرات الفكرية فقط. نظام التعليم، في البلدان العربية، أبعد ما يكون عن إتاحة فرص متساوية أمام المواطنين. فهو غير موحّد حتى في القطر الواحد.