■ إذن، من نتائج انتخابات المجلس التشريعي الثاني، وفقاً لقانون انتخابات اعتمد المناصفة بين الفردية، وبين اللائحة المغلقة بنظام التمثيل النسبي، وجد النظام السياسي الفلسطيني نفسه منقسماً على نفسه، بين حركتي فتح وحماس، وكل طرف يعتقد، أنه الطرف المعني برسم سياسة السلطة الفلسطينية، خاصة حماس التي ما فتئت تردد أنها وصلت إلى السلطة عبر انتخابات شرعية ونزيهة، وبالتالي من حقها هي أن تقرر سياسات السلطة، ومن حق فتح أن تكون في صفوف المعارضة. الانقسام على الذات، شلّ عمل المجلس التشريعي، بفعل سياسة المناكفة التي اعتمدتها فتح مرة، وحماس مرة، بحيث تتعطل اجتماعاته. وفي حال أنه اجتمع، لسبب أو لآخر، بحضور الطرفين، يتحول الاجتماع إلى حلبة صراع تنتهي على الدوام بإفقاد النصاب من خلال انسحاب أحد الطرفين، ليعطل على الآخر فرصة إقرار ما يريد من قوانين، وردت مسودتها من الرئيس عباس، أو تعطيل مشاريع قوانين تقترحها حماس. في ظل السلطة التشريعية المشلولة، برزت مفارقة مضحكة ومأساوية على الصعيد الحكومي، في أكثر من محطة. ففي ظل وزارة خارجية تولى حقيبتها محمود الزهار، القيادي في حماس، أصيبت الدبلوماسية الفلسطينية بالشلل والبلبلة، يضاف إلى الشلل الذي كانت تعيش في ظله قبل الانتخابات: وزير خارجية من حماس، وسفراء، كلهم من فتح، يخاطبون رئيس السلطة ولا يخابرون الوزير المختص. وهكذا دواليك، خاصة على الصعيد الأمني، حيث وقف وزير الداخلية من حماس سعيد صيام، مكتوف اليدين، في ظل تمرد الأجهزة الأمنية على أوامره. وهي كلها موالية لفتح وللرئيس عباس، ما اضطر وزير الداخلية، إلى اللجؤ إلى خطوة عمقت الانقسام في المؤسسة، حين شكل «قوة تنفيذية»، كلها من كتائب القسام التابعة لحماس. وصار قطاع غزة تحت وطأة قوتين أمنيتين، متنافستين، وبدلاً من أن تؤمنا الأمن الداخلي للمواطن في القطاع، تحولت شوارعه إلى ميدان للاقتتال والصراع الدموي. على الصعيد المالي، رفضت الجهات المانحة، بما فيها إسرائيل الممسكة بنظام الضرائب على المعابر، أن تتعامل مع حكومة تتبع لحماس. ما هدد السلطة الفلسطينية بالإفلاس، إلى أن تمّ التوصل إلى صيغة التفافية، يتم بموجبها تحويل المال إلى صندوق خاص في عهدة الرئيس عباس، يحول منه دفعات إلى الحكومة، وهذه بدورها تقدم له كشف حسابات ومصروفات، تؤكد فيها أن أموال السلطة «لم تذهب إلى جهات إرهابية»، أي حماس. في هذا السياق يذكر أن الرئيس عباس رفض اعتماد «القوة التنفيذية»، التي شكلها وزير الداخلية، على ملاكات السلطة، مما اضطر حماس لدفع رواتب هذه القوة من مالها الخاص لحاجتها الماسة إليها، في مواجهة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، والموالية لفتح، والمتمردة على حكومة هنية. وهكذا بات واضحاً أن الانقسام صار هو المنحى الرئيس الذي تتجه نحوه الأوضاع في مناطق السلطة، وأن مسألة التعايش بين قوتين، في ظل نظام سياسي منقسم على نفسه، لن تدوم طويلاً. وازداد دق طبول الحرب الأهلية صخباً، يوماً بعد يوم.■ (2) ■ الأجواء السائدة تمثلت بما يلي: احتراب بين فتح وحماس، يشتد سعيره في الإعلام وفي التصريحات، وتحت قبة المجلس التشريعي، وفي أزقة وشوارع مدن قطاع غزة ومخيماته. حالة قلق تعم الحالة الفلسطينية. وأنظار تتوجه نحو القوى «البديلة»، أي نحو الجهتين الديمقراطية، والشعبية، وحركة الجهاد لإطفاء النار قبل أن تشتعل وأن تستعر، وإن تأكل الأخضر واليابس. خشبة الإنقاذ أتت من داخل المعتقلات والسجون الإسرائيلية حين أرسل الأسرى، الأعضاء في الفصائل الخمسة: الديمقراطية، والشعبية، وفتح، وحماس، والجهاد، وثيقة أطلق عليها «وثيقة الأسرى» دعت إلى الحوار الوطني، لحل الخلافات، وتنقية الأجواء وإخراج الحالة الفلسطينية من مأزقها. «وثيقة» الأسرى حملت في طياتها إشارة واضحة تؤكد أنهم، رغم تباين انتماءاتهم الحزبية، موحدون في الحرص على المصير الوطني. وإن الحوار هو السبيل الوحيد لحل الخلافات بين أطراف الحالة الفلسطينية؛ والأهم من هذا كله، أن النظام السياسي فشل في حل قضاياه ومشاكله، مما اضطره للاعتماد على « الحلقة الضعيفة»، و«القوية» في الوقت نفسه، أي «وثيقة الأسرى». وبناء على هذه الوثيقة دار الحوار الوطني الشامل، في رام الله، وبعده في غزة. وقد بين هذا الحوار الملاحظات التالية: أن كلا الطرفين فتح، وحماس، كان ينظر إلى الحوار وسيلة لصون مصالحه الفئوية، غير مدرك أن الأمور باتت على حافة الهاوية. لذلك حفل الحوار بالكثير من المناورات، والمناورات المضادة، حتى أن الطرفين حاولا الالتفاف على «وثيقة الأسرى»، والتحرر منها، بالضغط على أسراهما الذين وقعوا «الوثيقة» للتنصل منها. الضغط الذي مورس على الطرفين كان ثقيلاً، خاصة وأن فعاليات المجتمع المدني شاركت في الحوار، ومارست ضغوطاً ضخمة على الطرفين، شكلت إسناداً، تحديداً للجهتين الديمقراطية والشعبية، واللتين كانتا تركزان على الجوهر، الذي من شأنه أن يخرج الطرفين من عنق الزجاجة. أي التأكيد على موقع م.ت.ف ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني (الأمر الذي رفض هنية إدراجه في برنامج حكومته) والتمسك بالبرنامج الوطني (العودة وتقرير المصير والاستقلال، بديلاً لأوسلو، من جهة، ولدعوات إقامة الدولة المسلمة من جهة أخرى) والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في اعتماد كل أساليب النضال المشروعة، وفي الختام ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية، تعكس ما جاء في وثيقة الأسرى، التي باتت تحمل، بعد تعديلها وتطويرها، اسم «وثيقة الوفاق الوطني» التي وقعت عليها القوى والفصائل الفلسطينية كافة، إلى جانب الرئيس عباس ورئيس الحكومة اسماعيل هنية، وفعاليات المجتمع المدني. في 26/6/2006، والتي شكلت أساس الحوار الثنائي بين عباس وهنية، لتشكيل حكومة وحدة وطنية، ترث حكومة هنية الأولى، وتفتح الباب لمرحلة يستعيد فيها النظام السياسي الفلسطيني بعضاً من عافيته المهدورة. (3) أطلقت وثيقة الوفاق الوطني حواراً ثنائياً صعباً ومعقداً بين عباس وهنية للاتفاق على تشكيل الحكومة الجديدة. وعندما تعثرت المحادثات، حاولت دولة قطر أن تتدخل بشخص وزير خارجيتها، الذي زار إسرائيل أولاً، ثم غزة، حيث كان يقيم عباس وهنية، كل في مقره. وفي جولات مكوكية بين الجانبين، حاول الوفد القطري الوصول إلى تفاهم وفقاً لشروط ثلاثة أطراف هي إسرائيل، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة. أبلغ الوفد القطري الطرفين فتح وحماس أن «القضية ليست أن تتفقا بينكما على حكومة جديدة، بتشكيلها وبرنامجها، بل القضية أن تنال هذه النتيجة موافقة الأطراف الدولية باعتبارها الجهات المانحة التي تمول السلطة الفلسطينية. وبدون هذا التمويل، لا وجود لسلطة». وأكد الوفد القطري بتوضيحه هذا أن ما يطلق عليه «السلطة الوطنية الفلسطينية»، والتي يتصارع عليها الطرفان، فتح وحماس، ما هي إلا سلطة مكبلة بالشروط العديدة، الأمنية، والسياسية والاقتصادية والمالية، وأن أي اتفاق يتوصل له الطرفان لا بد أن يستجيب لهذه الشروط. لذلك لاحظ المراقبون أن مشاريع التفاهم، كما كان يقدمها الوفد القطري إلى الطرفين، كانت تصاغ بالإنكليزية، وليست بالعربية، وأن الوفد القطري كان يقدم ما يتوصل له مع الطرفين، إلى الأطراف الثلاثة المذكورة أعلاه. إلى أن نجح الطرفان في نهاية الأمر إلى التوافق على «حكومة وحدة وطنية»، في 8/2/2007، يكون رئيسها إسماعيل هنية (حماس) ونائب الرئيس عزام الأحمد (فتح) تقوم على قاعدة المحاصصة والتقاسم، حيث الأرجحية لحركة حماس بحصص أكبر من حصص فتح في الوظائف وعدد الوزراء. استمرت الحكومة وفق مبدأ المحاصصة والتقاسم حتى 14/6/2007، حيث انفجر الوضع، بانقلاب عسكري قامت به حركة حماس، استفردت خلاله وعبره بالسلطة، فانهارت حكومة الوحدة الوطنية، وبقيت حكومة بوزراء حمساويين، سارع الرئيس عباس إلى إقالتها. وكلف على الفور سلام فياض تشكيل حكومة طوارئ، لمدة شهر. أعضاء المجلس التشريعي، من حماس، عقدوا في غزة جلسة لهم، التفوا فيها على النصاب، بحيث أفتوا بحق النواب المعتقلين توكيل زملاء لهم في حضور الجلسات، فيعتبرون والحال هكذا حاضرين، وضعت صورهم على المقاعد، تأكيداً لحضورهم، وتوفيراً لما يسمى النصاب. وهكذا بات السلطة الفلسطينية سلطتين. واحدة في الضفة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وبحكومة طوارئ على رأسها سلام فياض، وسلطة في غزة، تدير حكومة وباتت تسمى «الحكومة المقالة». أعضاء المجلس التشريعي في حماس، أعلنوا في جلسة خاصة بهم، ترأسها نائب رئيس المجلس (المعلق) أحمد بحر، رفضهم قرار عباس إقالة الحكومة، وأصروا على أن تمثل هذه «الحكومة» أمام التشريعي، لتطرح الثقة بنفسها. وهكذا ما فعله هنية، ليجدد له نواب حماس ثقتهم به. بينما اعتبروا حكومة فياض اعتداء على الشرعية، فأصدروا قراراً بفصل رئيس حكومة الطوارئ من المجلس التشريعي، وإحالته إلى المحكمة. كل هذه التطورات تبرز إلى أي مدى تدهورت أوضاع النظام السياسي الفلسطيني وكيف تمزقت مؤسساته: مجلس تشريعي مشلول حكومتان كل منهما تسمي نفسها الحكومة الشرعية رئيس سلطة بات جل همه أن يجدد لنفسه شرعيته على رأس السلطة، لذلك سارع، على الفور، إلى دعوة المجلس المركزي في م.ت.ف, إلى دورة عاجلة لاتخاذ موقف مما جرى في قطاع غزة.■ (4) ■ اجتمع المجلس المركزي في م.ت.ف، في دورة عاجلة عقدت في رام الله، أدان فيها الانقسام والانقلاب الدموي في قطاع غزة، وجدد الشرعية للسلطة ورئيسها، ونزع الشرعية عن حكومة هنية (المقالة) وأجاز شرعية حكومة الطوارئ، على أن تلتزم بالقانون الأساسي للسلطة، أي أن تكون ولايتها لمدة شهر واحد، تشكل بعد ذلك حكومة جديدة. من ناحيتها، رفضت حماس قرارات المجلس المركزي، ولجأت إلى التصعيد السياسي بنزع الشرعية عن المجلس المركزي، بدعوى أنه مجلس غير منتخب، ولا يحق له أن يقيل حكومة منتخبة في الانتخابات التشريعية لعام 2006. وبدأت حرب نزع الشرعية المتبادلة بين فتح والسلطة الفلسطينية من جهة، وبين حركة حماس، وحكومة هنية(المقالة) التي تحولت إلى سلطة للأمر الواقع، انفردت بإدارة القطاع وفقاً لرؤيتها الفكرية والسياسية. فبدأ، والحال هكذا، مشروع «حمسنة» القطاع، انطلاقاً من انتماء الحركة لجماعة الإخوان المسلمين. وانتشرت الأوامر الميدانية للفصل بين المرأة والرجل، في ميادين الحياة كافة، والتمييز بين «الحلال» وبين «الحرام»، وكأن القطاع، كان في ضلال وعاد إلى عالم الإيمان على يد انقلاب حماس. وسادت لغة وعبارات مستعارة من زمن الخلفاء الراشدين، ومحاولات لفرض الأحكام الإسلامية واللجوء إلى أحكام الحد من جلد وغيره. مما قدم للرأي العام صورة عن القطاع باعتباره بؤرة للقوى السلفية، تسود فيه مظاهر التخلف والوعي في الفكر والسياسة، وكل ذلك تحت عنوان «المقاومة»، علماً أن تاريخ المقاومة الفلسطينية يفترق عن هذا كله بأميال طويلة من الفارق الزمني. الأسوأ من هذا كله أن الانقلاب لقي ترحيباً معلناً من الأطراف «الحليفة» لحماس في الحالة الفلسطينية. (وإن كان البعض كان انتقد الانقلاب، في الجلسات الخاصة، ويخطئ ما قامت به الحركة الإسلامية. بل وسادت الخطاب السياسي الفلسطيني عبارات ومفاهيم وقيم تمجد الانقسام، والاقتتال، والصراعات الداخلية، والفرز السياسي بالحديد والنار، وتبرر هذا كله بأنه لا يستهدف فتح، بل يستهدف التيار الصهيوني فيها (والمقصود به محمد دحلان والمقربون منه). ثم اتسعت دائرة الصراع، ولم تعد تقف عند حدود دحلان ومؤيديه، بل امتدت إلى كل العناصر الفتحاوية، بكل ما ألحقه هذا، من تمزيق للبنية الاجتماعية في القطاع، والتي مازالت تقيم وزناً للعلاقات العائلية والعشائرية، وتحول الصراع من صراع سياسي إلى صراع أهلي داخلي، بحيث بات الضحايا محسوبين على عائلاتهم، وليس على فصائلهم السياسية فحسب. أما في الضفة الفلسطينية، فقد عاشت مؤسسات حماس، وقياداتها تحت وطأة ضغط مزدوج: السلطة الفلسطينية من جهة، وسلطة الاحتلال، من جهة أخرى. بما عمق الجرح النازف في الجسد الفلسطيني. كان من الخطأ الجسيم أن تقف القوى الوطنية الأخرى موقفاً متفرجاً. ورغم صعوبة الوضع، وتعقيداته، وهشاشته، ورغم التوترات التي طالت الجميع، تقدمت الجبهة الديمقراطية الصفوف، وبادرت، قبل غيرها، وبعد أيام قليلة من الانقلاب لإطلاق مبادرة سياسية لوضع حد لما جرى، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، وإنهاء الانقسام، ومعالجة ذيوله، وبلسمة جراحه، واستعادة الوحدة الداخلية للحالة الوطنية، واعتبرت الجبهة في حساباتها أن الضغط الجماهيري على الطرفين هو الذي من شأنه أن يحضرهما إلى طاولة المحادثات الوطنية لإصلاح ما دمره الانقسام. وللمراقب أن يدرك صعوبة مثل هذ الدور وتعقيداته، الذي نصبت الجبهة الديمقراطية له نفسها، في ظل أجواء حرب أهلية، بكل الأشكال المتاحة بين الطرفين. ثم انضمت إلى جهود الجبهة الديمقراطية جهود مماثلة من الجبهة الشعبية، وحركة الجهاد الإسلامي، فاتسع أفق المصالحة، وأفق الانفراج السياسي. وانتقلت الحالة الفلسطينية من حالة الصدمة، بفعل الانقسام، إلى حالة الوعي، بضرورة إنهائه، ومعالجة ذيوله، ووضع نهاية لمأساته.■ معتصم حمادة