حملت المعارك التي اندلعت في طرابلس وما تلاها من محاولات متعثرة لتثبيت وقف النار، مجموعة كبيرة من الدروس، أهمها إعادة بعض القوى الغربية النظر في مواقفها بشأن الاعتماد على سلاح الميليشيات كوسيلة لضبط الأمن في العاصمة، والبحث عن صيغة أخرى توفر درجة عالية من الهدوء وتسمح بدخول استحقاق الانتخابات المتعثر حيز التنفيذ. وتسارعت وتيرة التحركات خلال الأيام الماضية لإعادة تقييم الموقف على أسس تتجاوز المسارات السابقة، التي أدت إلى المأزق الحالي، وتبذل جهود على مستويات عدة للاستفادة من اللحظة التي توافرت فيها مبررات للتغيير الجذري. وأدى تضخم الكتائب المسلحة إلى صعوبة السيطرة عليها، من قبل من منحوها ثقلا العامين الماضيين، وقيام قادتها بفرض نفوذ اقتصادي وسياسي مع الأمني، ما جعلهم يتحكمون في مفاصل مؤسسات رسمية، ويعطلون الخطوات التي تقود إلى التخلص من حضورهم في المشهد العام، أو الحد من نفوذهم الذي بلغ حد الإضرار بما تبقى من هيبة للدولة. نفوذ الميليشيات استسلمت بعض القوى الغربية، مثل فرنساوإيطاليا، لرؤى غسان سلامة المبعوث الأممي، بخصوص الاعتماد على الميليشيات، وأمّنت على خطواته في تنفيذ مراحل التسوية، ووافق عليها مجلس الأمن في سبتمبر العام الماضي، إلى أن واجهت تحديات تحول دون تطبيقها. أخذت باريس تسير على ثلاثة خطوط متوازية، أحدها منح قدر من الثقة لسلامة للمضي في رؤيته، والثاني التحرك بمفردها في إطار دعم الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، في العمليات التي استهدفت إرهابيين في درنة والهلال النفطي وجنوب ليبيا، والثالث تدشين مؤتمر باريس في مايو الماضي والإعلان عن مبادرة سياسية تحوي إجراء انتخابات في 10 ديسمبر المقبل. لم تحقق السياسة الفرنسية ما تصبو إليه، فلا خطة سلامة تقدمت، ولا دعم حفتر تواصل لما هو أبعد من استهداف الإرهابيين، ولا مبادرة باريس أٌنجز منها شيء حقيقي على الأرض، لكنها وصلت في النهاية إلى قناعة تصب في مربع التخلص من قوة الميليشيات، والتفكير في توحيد المؤسسة العسكرية. لم يكن الوضع أفضل حالا بالنسبة إلى إيطاليا، وفشل رهانها على تغول الميليشيات، ووجدت نفسها أمام معركة سياسية مباشرة مع فرنسا، وحيرة إزاء أيهما يخطف المزيد من الثمرات الليبية، واضطرت في النهاية إلى التخفيف من خطة الاعتماد على الكتائب المسلحة، ويقينها أن الدخول في مواجهة مع فرنسا سوف يخسرها الجانبان. لذلك ظهرت ملامح تهدئة بين روماوباريس، ومن غير المستبعد الالتفاف حول صيغة يتم التفاهم حولها، قد تظهر ملامحها في مؤتمر صقلية يومي 12 و13 نوفمبر المقبل، بما يساعد على تقليص هامش المناورات الشخصية، لأن هناك دورا صاعدا للمؤسسة العسكرية النظامية. وانتهت سياسة الصبر والحذر وضبط النفس التي تحلت بها السياسة الأميركية في ليبيا، ومع تعيين السفيرة استيفاني وليامز في منصب نائب المبعوث الأممي في ليبيا، بدأت بصماتها تظهر في ملامح كثيرة، أبرزها السعي لتخفيف الاعتماد على الميليشيات، والتقليل من عمق الفجوة بين فرنساوإيطاليا، ومحاولة منع وصول الخلاف إلى الصدام مباشرة، وعدم الارتياح للتصورات السياسية والأمنية التي يحملها فايز السراج رئيس حكومة الوفاق. حاولت استيفاني الإمساك بخيوط كثيرة في الأزمة عبر الانفتاح على قوى إقليمية مؤثرة، والحوار مع قادة المناطق والقبائل في ليبيا، وتشجيع جهات مختلفة لخوض حرب ضروس ضد الإرهابيين والمتحالفين معهم، والتحذير من الانسياق وراء طموحات السراج، بعد أن أصبح خاضعا لنفوذ الميليشيات، وانصبت أهدافه في التخلص من خصومه، وتهيئة الأجواء لاستمراره في سدة السلطة بأي وسيلة. الانخراط الأميركي أفضت زيادة انخراط الولاياتالمتحدة في الأزمة الليبية إلى تخفيف حدة المنافسة فعليا بين باريسوروما، فكل طرف يحاول استمالة واشنطن إليه، والأهم أنها أصبحت مقتنعة بصعوبة رهن مصير الدولة بالكتائب والعصابات المسلحة، التي تضخمت بصورة يستحيل السيطرة عليها مع مرور الوقت. التقطت السفيرة استيفاني الخيط منذ ظهور اللواء السابع – مشاة في مشهد طرابلس يوم 26 أغسطس الماضي، حيث رفضت مطالبات السراج بمساعدته للتصدي له وقصفه بالطيران الأميركي، وغضت الطرف عن تقدمه المفاجئ من ترهونة نحو العاصمة، وقتها كانت واشنطن تتبنى سياسة توازن الضعف، بمعنى أن اشتباكات الميليشيات مع اللواء السابع، رأت أنها سوف تؤدي إلى إنهاك قوة جميع الأطراف، لكنها يمكن أيضا أن تجعل من عودة الأمل في الهدوء عملية شبه مستحيلة. تدخلت الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت، وبدأت تفكر مع قوى أخرى في طريقة جيدة للترتيبات الأمنية، مع الحفاظ على تجربة اللواء السابع، لأن الخطة التي يحاول غسان سلامة فرضها لا تزال تمنح الميليشيات قدرا من الحضور والتأثير، وهناك اختراقات عديدة لوقف إطلاق النار. ظهور السفيرة الأميركية وتصاعد نفوذها الفترة الماضية، المقصود منه تنحية سلامة قليلا، وبدت غالبية الاجتماعات والأفكار التي يتم من خلالها التداول بشأن طرابلس، تجري بين استيفاني ودبلوماسيين وأمنيين من دول معنية بالأزمة الليبية تقيم في تونس، وربما يظهر سلامة على المسرح من حين إلى آخر، لكنه مقيد في إطار أدوار هامشية وممنوع من التمدد سياسيا، وباتت القضايا التي لها علاقة بالعصب في يد استيفاني شخصيا. من هنا بدأت تظهر ملامح استدارة حقيقية تعيد دفة الأمور إلى نصاب مختلف، تتعلق بالموقف الحاسم من الميليشيات. وكان أول حجر يُلقى في هذا المستنقع تسرب معلومات بشأن فرض عقوبات على قادة كتائب مسلحة. والحجر الثاني تمثل في الإعلان عن عدد من الأسماء تشملها القائمة، ضمن حرب تكسير العظام المستترة. والحجر الثالث تزايد ظهور حفتر وتعليقه على ما يجري في طرابلس مع أنه كان ملتزما الصمت حيال التطورات المسلحة في العاصمة. يدرك من اعتمدوا تصور العقوبات أن قيمته معنوية أكثر منها مادية، ويعرفون أن عملية فرضها على أشخاص من هذا النوع مسألة معقدة وقد تكون عديمة الجدوى، غير أن دلالتها ترمي إلى تهيئة الجميع إلى أن هناك فصلا جديدا على وشك أن يبدأ في ليبيا، وصفحة قاتمة تطوى ولن تتكرر مرة أخرى في الترتيبات المقبلة. نجم جزء مهم من التخبط السابق في التعامل مع الأزمة الليبية، عن الاستسهال في طرح الحلول الأمنية، وعدم الإلمام بالكثير من المعلومات الخاصة بالشعب الليبي، فضلا عن النهم في الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية من دون التفكير جيدا في الآليات التي تضمن الحفاظ عليها، حتى أدى الدوران في حلقات مفرغة إلى زيادة درجة التعقيد الذي أصبحت عليه الأزمة. لم تجد الولاياتالمتحدة وحلفاؤها سوى الخيار الذي كانت بعض القوى تتعمد تجاهله، وهو خيار توحيد المؤسسة العسكرية، والاستفادة من الدور المركزي الذي تلعبه عناصرها في الشرق والغرب، وهي الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الأمن في طرابلس وغيرها، وتأمين إجراء الانتخابات وضمان تنفيذ نتائجها، والحد من التوترات الدائرة بين القوى المتصارعة. يعتمد هذا الاتجاه على عدة مسارات حيوية، أبرزها حل الخلافات بين أجنحة المؤسسة العسكرية في الشرق والغرب، والاستفادة من المساحات المشتركة التي تجمع بينها، وتذويب الخلافات الشخصية، وتنحية النعرات التي سادت تحت لافتات من نوعية "أوفياء وخونة داخل المؤسسة"، أو "أتباع العقيد القذافي والمنشقون عليه"، أملا في الحفاظ على وحدة الدولة الليبية، والعمل على تأمين المؤسسات الرسمية عبر وحدات شرطية محترفة، وإبعاد الميليشيات المسلحة عن أي أمور عسكرية. ويسعى المؤيدون لهذا الطريق إلى حل مشكلة الميليشيات بسلاسة، من دون الدخول معها في صدامات أو التلويح بمحاكمات وعقوبات، ومحاولة طمأنتهم بتسليم أسلحتهم اقتناعا وليس إجبارا، وفتح أفق لاستيعاب المؤهلين منهم في المؤسسة الشرطية، وجعل المؤسسة العسكرية للمنتسبين النظاميين، وهناك العشرات من الآلاف يستطيعون القيام بهذا الدور. وفقا لهذا المسار، بدأت عملية استعادة الزخم لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية على أسس موضوعية، تجذب من رفضوا أو دخلوها جبرا لخواطر هذه الدولة أو تلك، أو مجاملة لهذه القيادة أو غيرها، فالمرحلة المقبلة سوف تشهد جدية كبيرة لوضع النقاط أعلى وأسفل الحروف، والتوصل إلى تفاهمات قابلة للتطبيق على الأرض. ويجري التفكير جديا في وسيلة لضمان التوافق في القيادة، فالرافضون لتمدد نفوذ المشير خليفة حفتر سوف تتم ترضيتهم على قاعدة الولاء للدولة الليبية، وهو ما يمهد الطريق لتكوين قوات عسكرية نظامية مشتركة يتم استدعاؤها لتولي حماية طرابلس، ووقف حكم الميليشيات. وهي عملية قد تواجه بعثرات من جانب بعض القوى الرافضة، لكنها باتت الخيار الوحيد الذي يمكن من خلاله إنهاء انتشار العصابات المسلحة، وتحظى بتوافق أكبر مما كانت عليه قبل ذلك، لأن الولاياتالمتحدة أضحت قريبة جدا من الأزمة، ولن تملك القوى المناوئة خيارات بديلة للفكاك من هذا الخيار.