بعض الكتبة و"المكلفين بمهام" من لدن لوبيات مصلحية معروفة، لم يمسكوا من خطاب جلالة الملك أمام البرلمان الجمعة الماضي سوى "الزلزال السياسي"، وأصروا على أن الأمر يعني الإطاحة بمسؤولين أو منتخبين أو زعامات حزبية أو غيرهم، ثم إعداد من سيخلفهم، أي تبادل أدوار وتوزيع مناصب وتصفية حسابات أنانية وسياسية، وهم لم يتوقفوا مثلا عند الحديث عن تغيير النموذج التنموي، وبالتالي التفكير في هذا "الزلزال" الحقيقي، وفِي معناه ومستلزماته وهدفيته، ولم يتوقفوا أيضا عند علاقة كل ذلك بالأحزاب والسياسة وعمل المؤسسات، أي عند الديمقراطية، وهذا هو النقاش المطلوب اليوم في بلادنا. ما المقصود إذن بالنموذج التنموي؟ كيف يجري بناؤه؟ كيف يكون تغييره؟ ما الأطراف المعنية بكل هذا؟ هل الأمر يتعلق فقط بإجراءات أو آليات أو وسائل أو برامج حكومية قصيرة المدى أو بسياسات عمومية عادية، أم أن الأمر يهم الاختيارات الكبرى والركائز المهيكلة لمسارنا التنموي والمجتمعي؟ إن تحديد الفهم على هذا المستوى من شأنه مساعدتنا على اختيار الطريق الصحيح، وبالتالي القدرة على صياغة الأجوبة المناسبة لتحديات المرحلة الراهنة في المغرب. القصد هنا هو الاختيارات الأساسية ذات الصلة بتقدم بلادنا وبالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجتمعنا وشعبنا، وأيضا الشروط السياسية والديموقراطية لإنجاحها وتطبيقها على أرض الواقع. وهنا يجب وضع الكلام في مكانه الحقيقي، أي استعراض الاختيارات الاقتصادية والسياسية الكبرى التي سارت عليها بلادنا منذ الاستقلال إلى اليوم، ومعرفة من دافع عنها وفرض السير ضمن شروطها، وعلاقة مختلف الفاعلين بذلك، ثم تحليل ما أفضى إليه كل هذا من نتائج ووضعيات اليوم، ومن ثم التفكير، على ضوء واقعنا الوطني وتحولات العالم من حولنا، في اختيارات بديلة، وفِي التوجهات الكبرى الكفيلة ببلورة الأجوبة المناسبة لحاجياتنا التنموية والاستراتيجية. وبالمناسبة، فهذا المطلب كانت قد رفعته من قبل قوى سياسية، وكتب فيه مختصون وباحثون، كما أن بلدانا أخرى أقدمت عليه، بما في ذلك في السنوات الأخيرة، ولهذا نحن لسنا ننطلق من عدم على صعيد الأفكار والمقترحات ومنهجيات التخطيط والاستشراف. ومن جهة ثانية، لا بد من التنبيه إلى أنه من الوهم الاعتقاد أننا سننجح في تحقيق التنمية الاقتصادية من دون أي حرص على تقوية الديمقراطية السياسية والالتزام بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليه في كل الدنيا. إن النجاح في تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والنجاح في بناء الديمقراطية وتطوير الإصلاح السياسي والمؤسساتي، هما مهمتان يمشيان بشكل متواز ومتكامل، وفِي إطار جدلي. ولكل هذا، فلن يستقيم حديثنا وسعينا الجماعي لبلورة نموذج تنموي جديد من دون الانتصار على كل اختلالاتنا ومعضلاتنا السياسية والديمقراطية والمؤسساتية، وبالتالي الخروج من كل السلبيات التي تلف اليوم حقلنا الحزبي والسياسي، وتغرقنا في الجمود والانتظارية، بل وفِي العقم والعبث. تبخيس كل ما له علاقة بالسياسة والانتخابات والأحزاب، فرض زعماء على أحزاب واختلاق قادة من عدم وإحاطتهم بالكثير من القوة الوهمية، خنق أحزاب وفاعلين سياسيين، ومن ثم، الحيلولة دون وجود قوى سياسية مستقرة تنظيميا وموحدة داخليا وممتلكة للشرعية والإشعاع والمصداقية، أو بروز أي حوار سياسي عمومي تعددي ومنفتح من شأنه إعادة الثقة لشعبنا وشبابنا، وتوضيح الرؤى للمستقبل، كل هذا لن يساهم في إنجاح أي تفكير جدي بشأن النموذج التنموي المطلوب لبلادنا. من جهة أخرى، فضعف شروط العدل ودولة القانون والشفافية على مستوى الحقل الاقتصادي وعالم المال والأعمال، وغياب بورجوازية وطنية حقيقية، وسيادة عقليات وممارسات الريع على هذا الصعيد، علاوة على ما لحق بالبورجوازية المغربية نفسها من تحولات وتغيرات جوهرية، كل ذلك يجعل الحاجة ملحة أيضا لشجاعة كبيرة في رصد الأخطاء والخطايا التي اقترفت طيلة عقود، وتشخيص اختلالات واقع الحال، ثم فقط بعد ذلك بالإمكان صياغة مداخل لبناء المستقبل. نحن في حاجة اليوم، من أجل تفاعل صادق ومنتج مع توجيهات خطاب جلالة الملك في افتتاح دورة البرلمان، أن نطرح بوضوح وشجاعة الأسئلة الحقيقية المرتبطة بواقعنا الاقتصادي وحقيقتنا الاجتماعية وهشاشة حقلنا السياسي، وأن نعرض الحقائق وتجليات الفشل كما هي من دون أي إخفاء للواقع أو تستر على المتورطين الفعلين في إنتاج معضلاته في كل القطاعات. النموذج التنموي هو أمر جدي وأكثر عمقا مما يلوكه بعض ضيوف نشرات أخبار قنواتنا الوطنية، ويتطلب المعرفة والفهم، وأيضا الشجاعة والمصداقية ووضوح النظر السياسي. المغرب لا يمكن أن ينجح على هذا الصعيد إلا إذا أصر على مواصلة مساره الديمقراطي، وصان تعدديته، وأمسك بتميزه الديمقراطي الذي يجعله مختلفا في محيطه المغاربي والعربي. البداية إذن هي الديمقراطية و… تطبيق الدستور أولا. محتات الرقاص