تأكدت مجددا الرؤية الملكية الاستشرافية بعيدة المدى، في ظروف الحرب التي يعيشها العالم على الحدود الاوكرانية. وعادت الى الأذهان دعوة جلالته من أجل تحصين السيادة الوطنية بالاحتياطي الغذائي والطاقي والصحي. وإذا كانت دعوة الملك، في اكتوبر 2021، بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية، قد ارتبطت، ظرفيا بالشروط الوبائية التي ركَّعت العديد من الاقتصاديات الكبرى وخلخلت ثقة أخرى في نفسها، فإن دخول العالم الى زمن حربي شامل، وهو الخارج من الجائحة و بالكاد يتعافى، يعيد دقة وصواب ما دعا اليه الملك محد السادس عندما شدد على ضرورة «إحداث منظومة وطنية متكاملة، تتعلق بالمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية، لاسيما الغذائية والصحية والطاقية، والعمل على التحيين المستمر للحاجيات الوطنية، بما يعزز الأمن الاستراتيجي للبلاد». وليس صدفة كذلك أن الملك ربط بين هذا الهدف الوطني الاسمى وبين السيادة، ويذكر الجميع أن الملك محمد السادس قال «إن الأزمة الوبائية أبانت عن عودة قضايا السيادة إلى الواجهة والتسابق من أجل تحصينها، بمختلف أبعادها، الصحية والطاقية، والصناعية والغذائية، وغيرها، مع ما يواكب ذلك من تعصب من طرف البعض». نحن إذن أمام معادلة من ثلاثة مكونات اذا شئنا: 1 الاحتياطي الاستراتيجي 2 السيادة 3 التعصب الذي قد يصيب البعض في معالجة هذه الثلاثية. ويبدو واضحا، منذ اندلاع المواجهات بين روسيا من جهة والعالم الاطلسي ، بمستوياته المختلفة في خوض الحرب، من جهة أخرى تطرح القضايا الطاقية والغذائية بشكل ملح، بل بشكل تغلب عليه الأزمة والقلق وهما امران يكون لهما بطبيعة الحال اثار اجتماعية وصحية ومدنية طويلة الامد على الشعوب والدول التي ترتبط نوعا ما بصادرات الاخرين، ومنها المغرب. ولعل الآثار الاولى التي ستكون لهذه الحرب على المغرب، ستعقد وضعه الطاقي، كما هو حال العديد من الدول. ولا شك أن ارتفاع ثمن البرميل الواحد الذي تجاوز 105 دولارات للبرميل ، سيرفع فاتورة المغرب في هذا المجال بل قد يسبب في توترات اجتماعية ، وبعض التعثرات الصناعية والخدماتية، كما سيرهق الميزانية العامة ويعيد طرح قرارات استعجالية وأخرى ذات مدى متوسط. علاوة على ذلك، لا شيئ يدل أو يجزم بان الارتفاع الحالي سيتوقف عند هذا الحد، فقد شاهدنا أن الارتفاع يزداد مع تعقد المعادلات المرتبطة بالحدث الاصلي، وقد وقع ذلك في 2008، عندما بلغت الاسعار حدا رهيبا .... ففي يناير من تلك السنة و لأول مرة في التاريخ، وصلت أسعار مرجعي الذهب الأسود إلى أعلى مستوياتها في 11 يوليوز، عند 147,50 دولارا للبرنت و147,27 دولار ا لبرميل خام غرب تكساس الوسيط.. كانت السنة سنة الدخول الروسي إلى جورجيا وضم أبخازيا وجارتها «اوسيتيا» الجنوبية. وهو ما يفيد بأن الاسعار مرشحة للارتفاع، بالرغم من أن الدول المنتجة ،ومنها دول الخليج العربي الثرية.. ما زالت تترقب الاوضاع، وهنا عناصر اخرى قد تتدخل في الزيادة في الاسعار، غير الحرب الروسية الاوكرانية ومنها توترات اخرى مسايرة لها كما في ايران مثلا وفي سوريا ، ومع ارتفاع درجة الشعور بالخطر في البحر الابيض المتوسط ، والذي نعد جزء من محيطه. وقد شاهدنا انعكاس الاوضاع الطاقية على بلادنا، منذ بداية الازمة وقبل ارتفاع درجاتها واتساع رقعتها ومواصلة القتال واتخاذه ابعادا غير مسبوقة، وصلت حد التهديد بالسلاح النووي.. والى جانب الطاقة هناك المخزون الاستراتيجي الوطني من الحبوب. والفلاحة عموما، ومن الواضح أن الأمن الغذائي الذي شكل احد أعمدة الفكرة الملكية حول منظومة الاحتياط الاستراتيجي سيتأثر أكثر بفعل، من جهة ارتفاع أثمنة الحبوب ، والتي يستورد المغرب منها حاجياته، سواء روسيا او اوكرانيا، أو من جهة الجفاف الذي فاقم من الوضعية وزاد من تبعيتنا الظرفية الى الاستيراد الخارجي .. و المغرب على اطلاع بالكلفة الاجتماعية والغذائية لوضعية الاستيراد حاليا، ، لهذا اتخذت بلادنا خطوة احترازية مع بداية الازمة وارتفاع كلفة الجفاف، في دعم الفلاحين والموارد الزراعية المرتبطة بهم، كما انها قررت زيادة مخصصات دعم الطحين إلى 350 مليون يورو، وعلقت الرسوم الجمركية على استيراد القمح. وهي خطوات تحسب للحكومة غير أن استمرار الازمة بل ان دخول الحرب الى منطقة المجهول، مع كل الاسلحة التي يتم التلويح بها، قد يجعل من الصعب جدا ترتيب الرد المناسب في زمن قياسي. ولا شك أن آثار العقوبات الاقتصادية على روسيا، وتعثر الشحن الدولي واغلاق الاجواء و دفع روسيا للخروج من الانظمة البنكية العالمية سيحرم المغرب من مداخيل مهمة، نتيحة صادراته الى كل من روسياواوكرانيا معا. هذه الأوضاع ستحرم المغاربة من سوقين دوليين ضروريين ، كيما كانت درجة أهميتهما في المبادلات المغربية مع الخارج. ويعرف المهنيون تفاقم أزمة الشحن الدولي البحري، عبر الحاويات، والتي يستخدم المغرب جزء مهما منها سواء مع الصين أو مع روسيا، وهو ما سيزيد من الكلفة ويعرض التمويل الى مشاكل جديدة ، كما أن الأسعار وارتفاعها سترفع من نسب التضخم، وقد ارتفعت العمليات البحرية في الشحن الاستهلاكي الى نسب غير مسبوقة بسبب الجائحة، وسيزداد الامر مع ظروف الحرب ... امام الحكومة وكل المؤسسات الوطنية استعجالية وضع الخطة السيادية التي كان جلالة الملك سباقا الي الوعي بها والدعوة اليها وفرصة تنفيذ دعا اليه ملك البلاد من ضرورة تفعيل المنطمة الوطنية للتأمين الاستراتيجي.. وهذا أوانها..