مع عزل الرئيسين بوتفليقة والبشير عن كرسي الرئاسة في كل من الجزائر والسودان، بدأت بوادر الأمل تعود إلى الشارع العربي مبشرة بموجة ثانية من الربيع العربي من أجل تصحيح أخطأ الموجة الأولى،، مع الخوف من فشل حراك الشعبين الجزائري والسوداني.. المغرب وصله جزء من ذلك الأمل، حتى أخذ البعض يحدد آجالا قصيرة لتصل رياح الموجة الثانية.. لا أريد أن أصدم المغاربة، وفي الوقت ذاته لا أشك أن رياح التغيير الجذري آتية لا محالة. ولكن ليس بالشكل الذي يتوقعه بعض الحالمين والعاطفيين من أبناء الوطن العربي عامة، وأبناء المغرب خاصة. أكيد أن التغيير حتمي وقادم ، ولكن لابد أن تتوفر جميع شروطه وأركانه حتى يحقق ما تصبو إليه قلوب الشعوب المقهورة، وتهفو إليه نفوسها المكلومة.. أول هذه الشروط والأركان، أن يوجد ذلك الشعب الذي يقوم بهذا التغيير ويستحقه. بمعنى أن يكون هذا الشعب من الوعي والنضج ما يجعله: — يدرك ضريبة المطالبة بالتغيير وما يستلزمه من تضحيات جسام وما سواجهه من تحديات عظام، إلى درجة أنه لن يتنازل قيد أنملة عن مطلب التغيير الجذري والحرية الكاملة… مهما كلفه ذلك من ثمن على مستوى الأرواح والحريات … — يحدد لائحة مطالب واقعية وجريئة وعلى رأسها: / حرية كاملة غير منقوصة، فالسلطة للشعب وحده، يختار من يحكمه ويسوسه، في إطار نظام ديقراطي حقيقي على أساس تداول فعلي للسلطة وانتخابات حرة ونزيهة، مع حق الشعب في ممارسة مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة عن طريق الاقتراع المباشر دون وساطة، إلا ما تمارسه السلطة القضائية في هذا المجال. / تغيير جذري وحقيقي على مستوى مؤسسات وهياكل الدولة بالشكل الذي يحقق الشفافية ومبدأ تكافئ الفرص، واعتماد الكفاءات بدل الولاءات في التعيينات على أساس معايير واضحة وضوابط صالحة يتساوى فيها جميع أبناء الشعب.. / عدالة اجتماعية يتساوى فيها جميع المواطنين من خلال استفادة الجميع من ثروة الوطن، كل حسب جهده لفائدة الوطن، وليس حسب قربه من لوبيات ومصاصي الوطن.. مع الحق للجميع في الترشح لجميع المناصب والمواقع على أساس الكفاءة العلمية والإدارية.. / كرامة إنسانية، وطن لا يعلو فيه شخص على آخر .. ولا تسمو فيه أسرة على أخرى .. يتساوى فيه الجميع على مستوى المواطنة والحقوق والواجبات، وطن يتسع للجميع، لا خوف فيه ولا مهانة ولا ” حكرة ” ، وطن ملاذا لأبنائه لا بلاء عليهم.. وطن يفتخر بالانتماء إليه .. لا يتبرأ منه.. وطن يموت من أجله .. ولا يموت هربا منه .. / محاسبة رموز وقوى الفساد الذين نهبوا البلاد وأذلوا العباد، تعهد هذه المحاسبة إلى المحاكم الشعبية، وكل من ثبت تورطه في النهب والفساد والاستغلال وتهريب ثروة الوطن وإتلافها يحاكم طبقا للقانون.. مع اعتبار أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ولا تغفر بالتفاهم .. — على هذا الشعب أن يعرف كيف يحافظ على ثورته ويخرج بها من المرحلة الحرجة إلى وضعية الاستقرار والاستمرار.. حتى لا تأكل هذه الثورة أبناءها وتضيع في حسابات الصغار ( ضيقي الأفق الذين يركزون على التفاصيل الصغيرة والتافهة )واستغلال الكبار ( اللوبيات المالية والسياسية الذين ينتعشون في ظل الفساد والأزمات ويستغلون الأخطاء والهفوات )، وتربص الأشرار من أبناء جلدتنا والاستعمار .. ليس من السهل أن تصل الشعوب العربية إلى هذا المستوى من النضج خلال السنوات العشر القادمة.. فنسبة الأمية ما تزال مرتفعة.. واهتمام غالبية الشارع العربي بالتافه من المجالات والأنشطة ( رقص غناء كرة القدم …) على حساب قضاياه المصيرية والخطيرة.. وللدولة العميقة في مختلف الأنظمة العربية دور كبير في إبقاء الشعوب في المستوى المتدني فكريا وثقافيا وتعليميا … حرصا على تدني مستوى وعيها ونضجها ومطالبها. لذلك .. فعلى القوى الحية والديمقراطبة التي تنشد التغيير والإصلاح وإنقاذ الشعوب من الظلم الاجتماعي والذل والفقر والتخلف… أن تشتغل على مجالات متعددة، أهمها : — المجال الثقافي : ذلك أنه من واجب المجتمع المدني ( جمعيات ثقافية واجتماعية وتربوية وحقوقية … ) أن يقوم بواجب التثقيف والتوعية دون تعب أو كلل.. مهما تعددت العراقيل وتنوعت العوائق والحيلولة دون الوصول إلى الشعب والتواصل معه.. إنه عمل سنوات .. وجهد مئات الأنشطة والمحاضرات والندوات.. مع استغلال أرقى وأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا التواصل والتفاعل مع الناس.. — لابد أن تشكل القوى الإصلاحية الحية توازنا اقتصاديا وماليا من خلال استثمارات كبرى يكون لها حضور مالي قوي على مستوى الوطن العربي ، إلى درجة أنه أي استهداف لها قد يشكل حرجا اقتصادية للدولة التي عليها أن تفكر ألف مرة قبل الإجهاز عليه أو إقصاءه… — المجال الإعلامي: لم يعد للإعلام الورقي التأثير الذي كان له من قبل، وأصبحت الغلبة للإعلام الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي… فهي سهلة الاستعمال .. سريعة الانتشار .. منخفظة التكلفة.. ولكن لا تخلو من ضرورة اعتماد متخصصين ومحترفين في المجال قصد تحقيق التأثير العميق والانتشار الواسع.. وغير ذلك من المجالات ذات التأثير على وعي الشعب ونضجه وتفكيره، لا يتسع المجال للتفصيل فيها .. في عصر التنوير العربي ( خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي ) بدل العديد من المفكرين والتنويريين الكثير من الجهد قصد النهوض بوعي الشعب العربي وتحريره من التخلف الفكري والخضوع السياسي، لكن ذهبت مجهوداتهم أدراج الرياح بسبب انغلاق الشعوب وارتكاسها إلى التخلف والقابلية للاستعمار الخارجي والاستغلال الداخلي ، فظهر المفكرون المؤطرون ، وابتعد المؤطَرين .. أما اليوم ، فكل هذا الحراك الذي عرفه الوطن العربي كان حراكا شعبيا عفويا دون تأطير فكري أو تنظيم سياسي… وحتى ينجح الربيع القادم ، لابد أن يجتمع تأطير قوى الفكر والثقافة مع قوى الشعب والشارع، فالفئة الأول تنظر وتأطر وتفكر وتنظم وتلهم .. والفئة الثانية تتحرك وتنتشر وتطلب وتضغط .. ويجتمع كل ذلك في نقطة التغيير التي تغير مسار الوطن إلى أهداف المطالب الشعبية وتحقيقها .. لابد أن الحراكين الجزائري والسوداني قد استفادا من الأخطاء التي وقع فيه الحراك في بعض الدول العربية، وحتما سيعمل الحراك الحالي على تفادي تلك الأخطاء من أجل الوصول بمطالب الشعبين إلى أرقى مستوى ممكن، مع تفادي الالتفاف على الثورة.. ولكن ذلك لن يتجاوز ما وصل إليه الشعبان من وعي ونضج.. لقد جاء هذا الحراك بعد ما يقرب من عشر سنوات.. ورغم ذلك فمستوى النضج العربي ما يزال دون المستوى الذي يرتقي بالمطالب والحفاظ على مكاسب الثورة وتحقيق كل مطالبه.. إلا أن هذا الحراك سيكون ملهما لشعوب أخرى تنطلق مما وصل إليه الشعبان الحزائري والسوداني … وهكذا حتى يكتمل النضج العربي العام ويفجر الثورة العامة بكافة أركانها وشروطها … وبالتالي فإن الحديث عن الربيع الثاني أراه سابقا لأوانه في ظل الواقع الثقافي والفكري لعموم الشعوب العربية، وإنما ستكون المجال مفتوحا للحركات احتجاحية هنا وهناك ، ذات طابع فئوي أو قطاعي أو محلي … وكل هذه الاحتجاجات من شأنها أن ترفع من منسوب الوعي العربي العام ….