الخط : من المنتظر أن يصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الثلاثاء إلى تل أبيب في زيارة يلتقي خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، بحسب بيان صادر عن قصر الإليزيه. وهي زيارة، متأخرة للغاية مقارنة مع تحرك قادة الدول التي لها مواقع أو مواقف أو معرفة متقدمة بالأوضاع التي خلقتها هجمات «حماس» يوم سابع أكتوبر الجاري، ورد إسرائيل العنيف الذي يدوم منذ أسبوعين كاملين. فَقَبل ماكرون، سارع كل من الرئيس الأميركي جو بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إلى زيارة إسرائيل، واللقاء بزعماء الدول ذات الصلة بأوضاع غزة وبالقضية الفلسطينية، كما هو حال مصر والأردن وقطر، وكذلك فعلت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بعدهم بقليل. وقبل أن نلقي الضوء على حساباته وحسابات بلاده فرنسا من وراء الزيارة لا بد من التركيز أولا، أن ساكن الإليزيه يصل إلى منطقة الشرق الأوسط، بمعادلاتها المعقدة وهو مثقل بالنقط السلبية في جعبته، بناء على ما اقترفه من مواقف غير متوازنة من الحرب الدائرة اليوم في سماء غزة وفوق بيوت ساكنتها، بكل تداعياتها على منطقة مرشحة باستمرار للحرائق الواسعة المدى. أولا: كان ماكرون وحكومته قد عبرا عن ضيق الأفق وقَِصر النظر السياسي منذ الرَّشقات الأولى للصراع عندما تم الإعلان عن منع أي مظهر من مظاهر حرية التعبير في القضية الجارية أطوارها في الشرق الأوسط وداخل الحدود الفلسطينية. وكانت باريز، التي لا تتردد في التحرك ضد المغرب باسم حرية التعبير أول عاصمة يخرج الوزراء فيها، باسم ماكرون وحكومته، لتهديد كل من يخرج للتظاهر أو التعبير عن موقفه من مجريات الحرب ومن تقتيل المدنيين والتنكيل بالأطفال والشيوخ والمدنيين العزل. وهكذا قرر وزير الداخلية (الرجل الذي لا يخفي محبته لجنرالات الجزائر القمعيين)، جيرالد دارمانان حظر المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني في جميع أنحاء البلاد، بواسطة دورية تذكر بايام «فيشي»، تأمر باعتقال كل من يحتج ضد الحديد متساقط فوق رؤوس الأطفال وضد التنكيل بالمدنيين ولاسيما الأطفال، الذين تجاوز عدد القتلى منهم 1300 طفل!! كما ترافع وزير العدل «إيريك دوبون موريتي» بكل قوة وبجاحة أمام البرلمان دفاعا عن مذكرة تهدد بالسجن لكل من يتظاهر! وقد كانت وزارة العدل التي يديرها موريتي قد وجهت مذكرة وزارية إلى المحاكم الفرنسية تقول فيها إن «المظاهرات في الشارع العام الداعمة لفلسطين محظورة، ويعاقب عليها بالسجن لمدة ستة أشهر، وغرامة قدرها 7500 يورو». وكانت الخسارة الأولى لحكومة ماكرون هي خروج المتظاهرين إلى شوارع المدن للاحتجاج والتعبير عن تعاطفهم مع المدنيين أيا كان المعتدي عليهم. ولا سيما الأطفال العزل في حرب شرسة. وقتها لجأت دولة الحرية والمساواة والإخاء إلى القمع والمنع الرادع، وتداول العالم صور الشرطة الفرنسية وهي تواجه المتظاهرين في أحياء العاصمة باريس مستعملة خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع... ثم جاء الفشل الثاني عندما أصدر مجلس الدولة في فرنسا، أعلى محكمة إدارية في البلاد قراره يوم 18 أكتوبر برفض الحظر الممنهج للمسيرات. وبالتالي عدم مسايرة حكومة ماكرون في توجهها المناهض للحريات... وكان للفرنسيين موعد مع وجه ثالث من أوجه الفشل الذي أبان عنه ماكرون أمام حيوية المناهضين للحرب ولاغتيال المدنيين، وذلك يوم الأحد 22 أكتوبر الجاري، حيث تظاهر عشرات الآلاف في باريس للمطالبة بوقف العمليات العسكرية في غزة، بدعوة من ائتلاف يضم أربعين حزبا ومنظمة من بينها "الاتحاد العام للعمال" (سي جي تي) و"حزب فرنسا الأبية" و"تجمع مسلمي فرنسا" و"الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام"، مما زاد من عزلة ماكرون الداخلية. وهتف المشاركون في ساحة الجمهورية «ماكرون متواطئ».. أما على مستوى الزيارة نفسها فمن الواضح أن تردد ماكرون يعود إلى شعوره بأن الذين سبقوه يمكن أن يكون لهم تأثير ما، من السهل استغلاله من بعد!! وبالنظر إلى طبيعة الملفات التي صرح بأنها ستكون في جدول أعمال الزيارة، ومنها قتل ثلاثين مواطنا فرنسيا ووجود سبعة آخرين في عداد المفقودين، ويعتقد أنهم جميعا رهائن لدى حماس، فلا يبدو أنه يملك أوراقا سياسية أو جيوسياسية في يده يمكنه أن يستغلها! بدليل أن الملف اللبناني الذي يعد من ملفات السياسة الخارجية الفرنسية وضمن نفوذها الجيوسياسي مازال عالقا بالرغم من ظروف السلام، وما زال لبنان بدون مؤسسات حكم ضرورية، علاوة على وجود فاعل شيعي في الملف بين حماس وإسرائيل لا يقبل دورا فرنسيا! ثانيا: وضعت التحليلات السياسية الزيارة نفسها كامتداد لمواقفه المنحازة وغير الجدية والمتسرعة في الداخل، فهو يعلن منذ أسبوعين أن «العناصر المفيدة لأي زيارة، هي أمن إسرائيل ومكافحة المنظمات الإرهابية واحتواء تصعيد النزاع» في حين وضع «استئناف العملية السياسية الرامية لقيام دولة فلسطينية» في آخر الجدول. وفي السياق ذاته، لا يشعر قادة دول المنطقة أن ماكرون يمكنه أن يقدم أكثر مما قدمه من سبقوه وأن الرهانات التي ينوي النجاح فيها، لم تتجاوزها قمة السلام في القاهرة التي ضمت ثلاثين دولة، ومنظمات عالمية، وحضرها رؤساء دول وملوك وقادة ورؤساء حكومات بدون نتائج كبيرة! ولعل الحس السياسي المتعالي لدى ساكن «الإليزيه» حرمه من الحضور في الوقت المناسب. وهو مثل المسافر الذي عبرت عنه العبارة الشهيرة المكتوبة على تذكرة السفر المغربية قديما والتي تقول: « من لم يحضر في وقت السفر فلن تقبل منه شكاية»! علاوة على ماسبق، فإن ماكرون يصل إلى المنطقة ورأسماله من ثقة الأطراف المعنية، لا سيما في الجانب العربي يكاد يكون صفرا! وأخلاقيا لا يمكن أن تحصل من الذين منعت عنهم التضامن أن يمنحوك فرصة النجاح باسمهم في ملف من أعقد ملفات الدنيا لا السياسة فقط! النتيجة أنه خرج خاسرا، قانونيا وأخلاقيا وجيو سياسيا وإنسانيا...