أثارت محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا نقاشا ذكيا حول المداخل الممكنة لفهم ما جرى. من ذلك استحضار حدث استقالة رئيس الوزراء داوود أوگلو من منصبه قبل ثلاثة أشهر تقريبا. نتيجة خلاف داخلي مع طيب رجب أردوگان في تدبير جملة من الملفات الساخنة، وفي صدارتها الحسم في طبيعة النظام السياسي الذي يحكم تركيا. هذا المشكل وَلَّدَ نقاشا كبيرا في الموضوع كما مَرَّ في أوانه داخل قواعد العدالة والتنمية التركي وسياسييه وأطره وخارجها. ولعل أهم ما رشح عن هذا النقاش هو استقالة داوود أوگلو من مهامه السياسية الرسمية. وهي استقالة لا علاقة لها -في تقديري- بما حدث من محاولة الانقلاب الأخيرة في 15 يوليوز 2016، إلا من جهة استغلال الانقلابيين لظرفيتها بالاعتقاد أن حزب "العدالة والتنمية" يعيش أزمة داخلية قد تساعد على تنفيذ ما عزموا عليه. ولعل أهم ما ميز فترة ما بعد داوود أوگلو، هو استمرار شد الخناق على تركيا، من خلال تذكية تأزيم الأوضاع فيها. ولهذا شهدنا مواصلة حرب التفجيرات التي ضربت البلاد هنا وهناك. وحرب التصريحات التي تضع التجربة الديمقراطية التركية في خانة البخس. وفي غضون ذلك أيضا تقوى طابور المؤامرة على تركيا. وبدأ هذا الطابور في تسريع البحث عن رأس أردوگان. بل البحث عن استرداد "الثور التركي" الذي فر من الحظيرة. وأتصور أن طيب رجب أردوگان وجماعته لم يكونوا في عداد من يجهل ما يجري وما يحاك. بل لقد كانوا على دراية بأن غرفة عمليات ما مُعدة للتأديب تشتغل بلا كلل. لذا قِيمَ بحزمة إجراءات سريعة ربما نُظر إليها على أنها وقائية. منها حل التوتر مع روسيا بعد أزمة إسقاط المقاتلة سوخوي 24. ومنها أيضا التقارب التركي الصهيوني بعد قطيعة سنوات. هذا إلى جانب التصريح (يلدريم) بضرورة إصلاح العلاقات مع دول الجوار بما فيها سوريا، وهو ما اعتبر وقتها إعادة من تركيا لترتيب حساباتها بمنطق المغنم والمغرم... إلخ. هذه الإجراءات كما نعلم فُهمت على أوجه عديدة كاتهام حكام تركيا بالتراجع والانبطاح بين يدي الدب الروسي وخيانة القضية الفلسطينية بالتحاف مع الكيان الصهيوني... بيد أن رأس المشكلة يرجع إلى جرثومة الانقلاب التي كانت وربما ما تزال مستوطنة في مجاري عروق قادة من الجيش التركي منذ زمان. فتركيا وُصفت بأنها من أكبر دول الشرق الأوسط تعرضا للانقلابات. كما أن الجيش التركي في الفترة المعاصرة ليس له منافس في الانقلابات العسكرية إلا جيش موريطانيا الذي يتصدر قائمة الانقلابات العسكرية في البلدان العربية والإسلامية. وغني عن البيان، أن هذه الجرثومة الانقلابية في تركيا تقوَّت منذ وصول العدالة والتنمية لسدة الحكم. فلا ننسى هنا الخريطة الجديدة التي فُرضت على الجيش حين حدَّت من ضلوعه في الحياة السياسية لتركيا. لذا بات –في تقديري- التخطيط لقلب الطاولة على النظام التركي والأردوگاني مسألة حياة أو موت. هذه الرغبة الانقلابية أوجدت لها مساندين من الداخل على شكل أفراد وجماعات يرون في الانقلاب المصلحة المفقودة. كما غذَّاها التواطؤ الدولي والإقليمي على الحكام الجدد لتركيا. ولذا فمحاولة الانقلاب نُفذت بأيد تركية وبإدارة وتخطيط في غرفة عمليات دولية وإقليمية.