كنت أتفقد بعض المواقع الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية علني أجد ما يشفي غليلي و يثلج صدري و يغذي غريزة المطالعة عندي, فإذا بي أجد سؤالا أشعل في فتيل البحث و حب الإجابة لا لغرض السبق الصحفي-كما عند الصحفيين- بقدر ما رغبت في إفادة هذا السائل, لكثرة هذه الأسئلة و قلة الردود الأكثر منطقية. و كان مضمون السؤال: إذا كان الإله موجودا فعلا فإنه ليس بعدل, لأنه خلقني ليعذبني و لو أنه استشارني ما قبلت الإختبار و ما كنت لأختار الحياة أصلا فضلا على أن تكون إختبارا لي؟ و كان هذا السؤال موجها إلى المسلمين في موقع لاديني من طرف شخص ذو توجه علماني إلحادي, لا لغرض المعرفة و إعمال الفكر بقدر ما هو لغرض الإعجاز و الجدال و المراء في الله بغير حق. من خلال السؤال المطروح و لأول وهلة يتضح أن السائل يجهل تمام الجهل الحكمة الإلهية لخلق الإنسان, و يبين مدى سوء الظن بالله الذي يتخبط فيه السائل, و ذلك أنه تيقن أن الله تعالى معذبه, فغلب عليه اليأس و القنط من رحمة الله التي وسعت كل شيء, و من جهة أخرى طلب أن يأخذ الله تعالى إذنه ليختبره, فكيف يستأذنه الله تعالى و هو لم يخلق بعد, ثم إن الله تعالى لما خلق الإنسان دله على طريق الخير, كما وضح له طريق الشر حتى يميز بينهما ليختار أيهما يسلك بمحض إرادته حتى لا تكون على الله فيه حجة. إن الله تعالى خلق الإنسان من عدم و هو الغني عن العالمين سبحانه و ذلك لتحقيق غاية إلهية تكمن في عبادته تعالى لا لغاية مصلحية مرتبطة بالخالق جل و علا بل لمصلحة العبد نفسه, فالعبادة طقس من طقوس الفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها, و لا يتحقق التوازن الروحي و الجسدي بدون العبادة, كما أن الذي يدين بالإسلام إنما يدين به لراحته ثم لمرضات الخالق جل و علا, فالعبد هو المستفيد الأول و الأخير, إذ لا راحة بغير العبادة, فإما أن يعبد المرء الإله الحق أو أن يعبد إلاها مزيفا, فلينظر أيهما يتخذ وليا, ذلك أن الإنسان مجبول على العبادة و لا غنى له عنها. فقديما كان الإنسان يصنع آلهته بنفسه فيوهم نفسه و ينسب لها القدرة على تدبير الشأن البشري, حتى يعبدها دون الإلتفاف إلى وخزات الضمير الباطن الحي, و لا إلى صرخة الفطرة السليمة, حتى يحس باطمئنان القلب و انشراح الصدر. لذلك فإن الله تعالى لما خلق الإنسان أناط به مهمة العبادة لله تعالى كدليل راحة و حسن سيرة في هذه المرحلة الدنيوية, التي سوف تفنى بحلوها و مرها فلا أهمية لها غير استغلالها لربح ما وراءها. إن الله تعالى يعامل عباده معاملة الرحمة فيزيدهم من فضله, فمن يعمل من الحسنات يضاعف له الأجر الجزيل و من ينوي الخير يوفي إليه أجره حتى و إن حال مانع بين العبد و عمل الخير, أما من يعمل من الشر نقير فإنه يجزه به جل و علا من غير مضاعفة في العذاب و العقاب, بل أنه تعالى يعفو عن كثير, فالعبد الكيس من يعبد الله تعالى وحده و لا يكون من عبدة الهوى, و لا الشيطان. و إنه من عدله تعالى هذه المعاملة المبنية على إوفاء الأجر مع جز الذنب و غفرانه لمن تحسن نيته و يخلص عمله لله, كما أن الذي لا يؤمن بالله و لا الآخرة و ما فيها من نعيم مقيم, و هول عظيم, لا يستطيع التوصل إلى مفهوم العدل الحقيقي ذلك أنه يؤمن بهذه المرحلة الدنيوية القصيرة كعمر أقصى للإنسان في الكون, و لا يعتبره قنطرة نحو العيش الرغيد و جنة الخلد و النعيم المقيم. فالدنيا مرحلة ضمن مجموعة من المراحل و هي عبارة عن قنطرة يمر منها كل من تنفس هواء الحياة, و شرب بذرتها, إلا أن البعض يعمر في هذه المرحلة زمنا طويلا و البعض الآخر يمر سريعا و ذلك لحكمة إلهية قد يستعصي علينا فهمها أحيانا, و ذلك لقلة علمنا و محدودية عقولنا. إنه من السفه و نقصان البديهة و قلة التركيز, أن يظن المرء أن الحياة كنز الإنسان و أن فناءها فناء له إلى غير رجعة, فإن كان الأمر كما يزعم فأين العدل فيما يظن, أليس الإنسان يربط المسؤولية بالمحاسبة في قوانينه الوضعية, حتى يحقق العدل بين بني البشر, فكيف برب الكون أن ينسب المرء إليه صفة الظلم- تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا- و هو أعدل العادلين. أليس من العدل محاسبة الظالمين و إوفاء الأجر للمفلحين, و ذلك لا يحصل بزعم الكافرين بالجنة و النار, ذلك أن الحياة تنتهي بانتهاء عمر الإنسان على الأرض, فكيف تتم معاقبة الظالمين الذين أكلوا أموال الناس بالباطل و انتهكوا حرمات البسطاء, و عاثوا في الأرض فسادا, ألا يقتضي المنطق السليم وجود مكان و زمان يتم فيه رد المظالم إلى أهلها, و معاقبة المفسدين في الأرض؟ أم أن منطق هؤلاء يمر مرور الكرام ناحية الحق, مجابها الصواب, لأن الذي يتخذ الكفر بالجنة و النار منطقا, لا يمكن أن يصل إلى التعريف الحقيقي للعدل, إذ أن كل أعماله موزونة برضى الناس فإن رضي الناس عليه استمر في هذيانه حتى و إن خالف سبيل الحق, و إن سخط الناس عليه أمسك عن متابعة الطريق حتى و إن سار على درب الحق. إن الذي يكفر بالدين الإسلامي الذي ارتضاه الله جل و علا لخلقه, لا معيار لوزن الأعمال عنده, فالسرقة عنده تستوي مع القناعة كما تستوي العفة و الكرامة عنده مع الفسق و الميوعة, فلا تعريف للفضيلة و لا الرذيلة في قاموسه فكل متساو عنده لا يفرق بين الحق و الباطل, لأن الكل عنده داخل في إطار الحرية المطلقة التي قد تستلزم الفوضى العارمة. فأي منطق هذا الذي يتساوى فيه القبيح مع الجميل, و تتساوى فيه الرذيلة مع الفضيلة. ثم إن الصفة مهما بالغت في تحسينها و تجميلها, و مهما أكثرت التغريد بحسنها و إطرائها في حدائق الوصف الأدبي فلن تجد لها مقدرا و مراعيا لها إن لم يرى تنزيلها واقعا و أرضا, فكذلك إن لم يشهد المرء بتقصيره حقا في أداء واجبه الكوني سواء أكان مع ربه أو مع بني جنسه أو غيره من سوف لن يشهد بعدل الله تعالى, و مهما جهلت النعم كثر الطعن في المنعم. فقبح الله رأيا بمنطق الجهل و الهوى