أنا وخيالي وتستمر الدراسة بشكل عادي بعض الأسابيع في زاوية ايناس , ويتكيف المعلم الجديد مع هذا التغيير الجدري في حياته الخاصة , وبدا يتخلى عن بعض العادات والطبائع التي ألفها قبل ولوجه مهنة التربية والتعليم : الجلوس في المقهى مع الأصدقاء , مشاهدة شاشة التلفزة وتتبع برامجها , الاستحمام , القيام بالرياضة الجماعية ( كرة القدم مثلا , الهواية المفضلة ) ... وأصبحت اشعر وكأنني في معسكر , أقوم بأمور الجندية , واستعد لمحاربة العدو , المدير بعيد جدا من فرعيتي , ولكي يزورني , تلزمه مروحية , أو دابة قوية , وأنى يكون له ذلك ؟, هذا عن المدير , أما السيد المفتش , فانه لم يزرني بتاتا في هذه القرية الموجودة في عالم النسيان والتهميش . ورغم أنني تلقيت تكوينا لا باس به في مركز تكوين المعلمات والمعلمين بورزازات , إلا أن هذا الواقع المزري والقاسي الذي اصطدمت به , قلب موازين حب العمل , وأخذت أفكر في كيفية الخلاص منه , والاقتراب من مسقط راسي حيث الأهل والخلان والأحبة . وهانا اليوم بعد ثلاثين سنة من العمل في حقل التربية والتعليم , أجد نفسي أمام عصارة صافية من التجربة والاحتكاك بالواقع , لأكتب بالدم وماء الورد , بعضا من معاناة نساء و رجال التربية والتعليم الابتدائي خاصة , وباقي أنماط التربية والتعليم الأخرى أيضا كالإعدادي , والذي اشغله اليوم كمدير (مدبر) وان كان جميع نساء ورجال التعليم يدبرون أمور أنفسهم جميعا كل حسب تخصصه وواقعه و.... لنعد إلى ايناس القاسية الرائعة , وفي يوم لازلت أتذكره , فعلا كان يوم عاشوراء , صباحا , وأنا أقوم بانجاز حصة من الرياضيات لتلامذتي الجدد , إذا بامرأتين تدخلان قسمي المتواضع , حاملتان قفتان من الدوم : واحدة مليئة بالخبز الأبيض الجيد , وأخرى بالتمر الأسود والذي يدعى "بوفقوس" , وبدون استئذان مني , أخذن يوزعن قطع الخبز وبعض التمر على المتعلمين الجدد , وأنا انظر إليهن بدهشة واستغراب , ولما وصلن إلى مكتبي , وضعن نصيبي عليه , ثم خرجن . أمام هذه المفاجأة الغريبة والأولى في حياتي العامة والمهنية , خرج خيالي من جمجمتي , وانتصب متهكما كما العادة "هل هذه الحالة موجودة لدى بياجي , وعمالقة التربية وعلم النفس؟ " أجبته بالنفي , ولما رأى خيالي جميع الصغار يمضغون الخبز والتمر بشهية , امرني قائلا : ماذا تنتظر , ادمغ واهضم نصيبك , مثل تلامذتك , قبل أن يزورك المدير أو المفتش ؟ وكانت فعلا صورة غريبة , وأنا واقف أمام السبورة , ونحن في حصة عمليات المضغ والابتلاع والهضم , وتحول الدرس من درس الرياضات في (المعداد), إلى درس العلوم الطبيعية (الجهاز الهضمي) . محمد همشة . 17/08/2011 .