شاءت الأقدار أن سافرت مرة في سيارة أجرة من بني ملال الى ازيلال الشامخة , وسط ازدحام الراكبين , شعرت باحتكاك جسم مسافر بجانبي, حاولت الابتعاد شيئا ما عنه , نظر إلي وابتسم ابتسامة عريضة , وكأنه يريد من وراء ذلك أن يقول لي , معذرة إني مرغم على الاحتكاك بك. كنت في وضعية غير مرتاحة بهذه السيارة , نظرا لكثرة الاهتزازات , أخذت رؤؤسنا تتلاعب كالكراكيز , أصوات مزعجة في داخلها تحدث ألما في أداننا , غبار يتطاير لان كل شيء في هذه السيارة عتيق جدا ; أو لان صاحبها - السائق – لا يهمه إصلاحها و لا يريد منها سوى كسب الدراهم المتواصلة ... ومنذ انطلاقنا من المحطة الخاصة بسيارات الأجرة , والتي تشبه سوقا أسبوعيا نظرا لكثرة الضجيج , وازدحام المسافرين , ورائحة طبخ اسماك السردين , وأصوات محركات السيارات , والمنادات على المسافرين للالتحاق بأماكنهم استعدادا للسفر , في خضم هذا المنظر الدرامي الرائع , طلب منا السائق ولوج سيارته , استعدادا للرحلة الطويلة ذات المنعرجات , التي قل ما يمر منها المسافر بدون إحساس الدوران والتقيؤ ,خاصة إذا تناول طعاما كثيرا ومتنوعا ...انطلقت السيارة بسلام , وكان الفصل ربيعا , أبدت لنا الطبيعة حلتها الخلابة , و ألوانها الجذابة المزركشة , مما يثير شهية إلغاء السفر من اجل القيام بنزهة بضواحي بني ملال الرائعة . كنا نحن الراكبين صورة مصغرة لمجتمع صغير , كنت امثل ميدان التعليم ,والراكب الذي وقع احتكاك جسمه بجسمي , اسكافي اكتشفت مهنته قبل أن يصرح بها من خلال أنامله الغليظة ذات الأظافر المعوجة من فرط استعمال مسك المسامير والمطرقة , بجواره نحيف أنيق ظننته مسبقا ممرضا , لكنه كان يتحدث بين الفينة و الأخرى عن أنواع الروائح والعطور وآلات الحلاقة العصرية , الشيء الذي جعلني اعرف بعد برهة انه حلاق عصري , بالقرب منه راكب معمم , يلتفت يمنة ويسرة , ومن كثرة تحريك رأسه تعبيرا عن الموافقة , كان يعيد استقامة عمامته فوق رأسه عدة مرات , وهو فلاح أمي من نواحي ايت بوكماز الرائعة .بالقرب منه جزار يتدخل حينا عندما يرتبط الموضوع باللحوم وجودتها و أثمنتها . أما الجالسون بألمقاعد الأمامية , بالقرب من السائق , يوجد مستشار جماعي , يثرثر كثيرا دون جدوى . له جثة ضخمة غير مرتاح في جلوسه يبتسم بين الفينة والأخرى لشابة بجواره أنيقة في زهرة العمر , شعرها يتقاذفه الريح كلما انعرجت السيارة أو ازدادت سرعتها ,ليلمس وجه المستشار الذي ازداد لغوا وإطنابا في الكلام . السائق معتز بنفسه وفخور جدا بهذا السفر إلى "كوكب المريخ" ,يلتفت كل مرة إلى أي حركة من الراكبين , خاصة الذين يريدون فتح نوافذ السيارة . إن أجمل ما شاهدته في جل أسفاري, الحوار الذي دار بيننا في هذه السيارة الغريبة . - "زادوكم في التعويضات " يا أستاذ ؟ يخاطبني السيد المستشار الجماعي . - لم نر اية زيادة إلى حد الآن , يقولون ستشمل جميع الموظفين التابعين للوظيفة العمومية . - بالله عليكم كم من أموال تصرف على أعضاء الغرفتين , لو قدمت للمعطلين لما بقي في بلدنا أي معتصم أمام أبواب الوزارات المعنية و البرلمان . يتدخل الحلاق بتهكم واضح . - اعتصم المطر أيضا لما سمع بمشروع " المغرب الأخضر " في الميدان ألفلاحي , ولم ينزل بالشكل المعهود به في مغربنا الغالي , يغير الفلاح مجرى الحوار , ويرفع كفيه لامساك عمامته المعوجة فوق رأسه . - وهل هناك اهتمام بالحرفيين من فضلكم ؟. وهو تدخل الاسكافي من اجل فرض ذاته في هذه السيارة الغريبة . - إن اغرب ما شاهدته في حياتي : هذه المدونة ؟؟؟ يصيح السائق , وكل مرة ينظر في المرأة الأمامية مخاطبا الجالسين في المقاعد الخلفية . - أتقصد مدونة المرأة ؟ : تخرج الشابة الأنيقة من صمتها . - مالنا والمرأة , ينتقد الحلاقة بقوة , لو بقيت المرأة في وظيفتها في الحياة , لعشنا حياة السعادة مثل أجدادنا الأولون . أي وظيفة تقصد ؟ . تعيد الشابة التدخل , وترتب خصلات شعرها الأمامية المترامية فوق محياها المتبرج . - إن الله سبحانه وتعالى , خلق المرأة لتبقى في البيت , تربي أبناءها , وتخدم زوجها , الذي يكد ويكدح كل يوم خارج البيت . - لقد ولى زمان الضغط والسيطرة , إن الحياة اليومية اليوم تفرض على الرجل والمرأة التعاون والمساواة في جميع الميادين , أظن انك لا تساير العصر يا أخي الحلاق , كان هذا رد الشابة الذي جعل صاحبنا يتلعثم في كلامه . - أي مساواة اليوم , اغلب النساء الموظفات , يصرفن حوالتهن "المانضا " على صباغة وجوههن . - إن المرأة في منطقتنا – يتحدث الفلاح- تعمل بكل حرية بجانب زوجها , ولا تضع على وجهها كل هذا الخليط من الدهون والأصباغ , تحصد الزرع , وتحمل الماء من البئر , وتشعل النار , وتطهي الخبز . و... - ولكنها مستغلة من طرف زوجها وأسرتها , ولا تخرج بعيدة عن البيت سوى خرجتين : خرجة إلى زوجها وخرجة إلى قبرها . يعود الصمت ليحد من انفعال الراكبين , ليزداد صوت محرك السيارة , كلما ازدادت الانعراجات, وبدا السفر شاقا , والمسافة أطول , إلى أن أخذت جبال "راث " و"ازوركي " شامخة , تبرز أننا نقترب من ازيلال الرائعة تحث ثلوم الثلج الأبيض الناصع القليل النظير . بدخولنا منطقة "تانوت " كان المنظر رائعا , الصغار والصغيرات , متجهين صوب مدارسهم , من اجل العلم والمعرفة . وهنا تذكرت قول الشاعر العربي : ربوا بنيكم علموا هذبوا فتياتكم فالعلم خير قوام ولم تطمئن نفسي إلا حين وقفت السيارة الغريبة , بجوار المسجد الكبير لازيلال الحبيبة .