الآن أسكن ذاتي التي طالما بعدت عنها، وابتعدت عني، كنت فيما مضى أعيش غربة مضاعفة، غربة في الذات، وغربة مع الناس...فبمقدار المسافة التي ابتعدت بها عن الآخر أتوغل في تجاويف الذات، أقاربها على مهل، وأنصت لكل الهمسات التي تسري بين طياتها. حقيقي أني كنت أحيا في قبر مظلم تعشش فيه الحشرات الليلية والنهارية، تتغذى على دمي وأنا الغافل بحسن نية، وترسم بما فضُل منه معالم الطريق لمن ظل السبيل...مدعية أن من شرايينها يتدفق. وكما يقال: على قدر عظمة البحر تتسع السواحل، ويبدو لي أني أشبه بالسندباد، أخوض مغامرة الإبحار بحثا عن كنوز الروح المخبئة بإحكام في دواخلي، لقد شغلتني أمور الحياة التافهة عن جوهر كينونتي الحقيقية، كنت أعدو وراء امتلاك الأشياء معتقدا أني سأنال بغيتي بالحصول عليها ومعها السعادة والطمأنينة والأريحية، وعَمِيت عن الثروة الحقيقية التي أحملها معي في الأعماق...الآن فقط تبدو لي الابتسامة المعطرة بالأنفاس الزكية وليس الابتسامة التي يفتر عنها فم بلا أسنان. لقد كنت محضوضا عندما غادرت مجتمعا متلاطم الأمواج قبل أن يبتلعني ويقذف بي نحو الشواطئ التي تنتشر فيها جثث البشر المتعفنة...فعندما تكون سيئ الحظ تجد نفسك في قلب عاصفة هوجاء داخل محيط بلا أفق، وليل بلا قمر ولا نجم، يصعب عليك الانفلات وأنت تسبح أملا في النجاة، وحين تتعب تطفو وتبتهل فربما رقت الآلهة وانتشلتك وأخذتك للساحل، تتهاوى أحلامك، ويعلق خلاصك في أفق الغيب، تلتفت هنا وهناك، وتدرك بعد وات الأوان أن كل المراكب قد غرقت، تتهاوى ويسقط آخر شعاع نور من عينيك، ولأن الدهشة والرعب يأخذان منك الشجاعة والحكمة فإنك تنسى القارب الذي تحمله معك، كان يكفيك فقط أن تمد اليد لتمتطيه وتخرج سالما من محنتك. في هذا اليوم اكتشفت أمرا ساحرا حقا، لم أكن أعرف أن في دواخلي أكثر من عين، عيون من نوع لا علاقة له بالعيون التي نحملها في رؤوسنا، هي عيون تتوغل في اللامرئي فتبصر ألوانا وأشكالا ما رأيتها قط، وما كنت لأراها أبدا...الآن عرفت لماذا حار النقاد والشعراء المبصرين في قول الشاعر الأعمى: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه وهو الذي لم ير الدنيا في حياته، إنه يرى بعين أخرى لا يرى بها غيره، وهي مصدر عبقرية العديد من العظماء من ولدوا عميانا..ومع ذلك تركوا للإنسانية تراثا عظيما في كل أصناف المعارف ... لقد غفل الناس عن هذه العين المختبئة فعاشوا كما تعيش القطعان ببلادة وبلاهة. فبهذه العين الداخلية يمكننا أن نرى بخار العطر يصعد من أوراق الزهر، تحملها تموجات النسيم وتنشره في الأرجاء، وبها نرى ظلنا يمشي معنا في عز الليل، ونرى همسات النجوم قادمة من عمق الكون في توهج أضوائها