في أصل اللّغة: في العدد الأخير لشهر يونيو 2009 نشرت مجلّة فكر ونقد مقالا للأستاذة ربيعة العربيّ من كلّيّة الآداب بأكادير حول أصل اللغة، وهو مقال أشارت فيه الباحثة إلى أهمّيّة هذا الموضوع من حيث ارتباطُه بالمناحي التّطوّريّة التي خضع لها الإنسان عبر التّاريخ، وتعرّضت من خلاله للإشكالات المطروحة والمقاربات التي تناولت أصل اللّغة بالبحث حيث ركّزت في هذا السّياق على البعدين: البيولوجيّ والثّقافيّ للجواب عن التّساؤل الجوهريّ حول أصل اللّغة إن كان إشاريّا أم إصاتيّا، وميّزت عبر المقال بين ثلاث اتّجاهات أساسيّة هي: الاتّجاه التّشريحيّ الفزيولوجيّ بما تضمّن من أبحاث أركيولوجيّة وجينيّة الاتّجاه المعرفيّ والثّقافيّ الذي يميّز بين الدّماغ كوحدة فيزيقيّة والذّهن كآليّة كلاميّة ونتاج اجتماعيّ، ومن ثمّة التّمييز بين نمط التّفكير الإدراكيّ الذي يعتمد على الحواسّ، والتّفكير التّصوّريّ الذي يوظّف التّمثّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة مع التّركيز على التّعالق بين اللّغة والثّقافة في ارتباطه الوثيق بالتّعاون الاجتماعيّ الاتّجاه المقارن الذي يسعى إلى حصر المظاهر المؤسّسة للكلام وتحديد الخصائص المشتركة للّغة عند الإنسان وعند الكائنات الأخرى حيث تجري الرّوابط عبر صيغيّة (Cross-modal) أو ما يمكن وصفه بالتّحويل الوظيفيّ (Trans-functional) عمليّة الوصل بين الرّؤية والنّشاط الحركيّ، وتقوم بدور المحدّد والضّابط للقدرات اللّغويّة فتسهم بدرجة هامّة في إعادة تنظيم الدّماغ حيث يتزايد التّرابط بين مختلف أجزائه بما ينعكس إيجابا على عمليّة التّعالق بين البنية الدّاخليّة للّغة والعالم الخارجيّ. وللإشارة فإنّ هذه الاتّجاهات رغم تمايزها فهي تتجاهل نظريّة الخلق، وتعتمد نظريّة دارون في الأصل المشترك التي ترى أنّ النّوع البشريّ ينحدر من أسلاف شبيهة بالقردة العليا (Apes)، وتؤمن بأن ليس هناك ما يبرّر تميّز الإنسان الذي أصبحت دراسة تاريخه التّطوّريّ مبحثا من مباحث العلوم البيولوجيّة، ومع تداخل الصّفات المميّزة لمجموع الأحافير التي تمّ العثور عليها ما جعل تعريفها بأسماء علميّة أمرا بالغ التّعقيد حيث تمّ استنادا إلى اشتراكها جميعا في صفة انتصاب القامة ترجيح كفّة إدماجها في نوع بشريّ واحد أطلق عليه اسم إيركتيس (Homo Erectus)، فإنّ علاقة الإنسان الحديث بأسلافه المزعومين ظلّت قيد التّساؤل لكون الصّفات الدّقيقة التي تمّ تحديدها من دراسة ما عثر عليه من أحافير لم تؤهّل تلك الأنواع لأن تكون سلفا مباشرا له حيث ظهر أنّ هناك حلقات مفقودة بينها، أي بين (Neanderthal) و(Australopithecus Africanus) و(Homo Habilis) و(Homo Sapiens)، ثمّ بين هذه السّلالات وبين الإنسان الحديث لانقراض الخطّ التّطوّريّ بينها وافتقار صفاتها التّطوّريّة إلى التّجانس والتّميّز كما يزعم الباحثون . نحو مقاربة خاصّة للفهم: ولحسن حظّ الإنسانيّة، فإنّ طرق تفسير العالم تتداخل بين اتّجاه إيمانيّ واتّجاه فلسفيّ واتّجاه علميّ، لذلك فليعذرني المفسّرون وأهل العلم لإبداء الجرأة في محاولة لفهم الآية 30 من سورة البقرة حيث يقول عزّ وجلّ: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك، قال إنّي أعلم ما لا تعلمون، وعلّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فهذه مجرّد محاولة للفهم التّوفيق فيها من الله والخطأ منّي ومن الشّيطان، علما أنّ الدّكتور رمضان خميس زكيّ مدرّس التّفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر يشير في الجزء السّابع من سلسلة هذا هو الإسلام على الصّفحة 92 من كتيّب بعنوان \"مفهوم السّنن الرّبّانيّة\" إلى عبارات دالّة اشتهر بها أهل القرآن والتّفكّر في الكون يحسن التّوقّف عندها منها قولهم: كتاب الله إمّا مسطور أو منظور، أمّا المسطور فالقرآن الكريم الذي يمثّل كلام العليم وأمّا المنظور فالكون ويمثّل فعل الخبير، والمتأمّل للكون والقرآن يجد أنّ قوله لا يخالف فعله لأنّه مدبّر حكيم، إنّ ذلك التّطابق والتّكامل بين قوله سبحانه وفعله بشكل يلفت النّظر هو ما يبعث على الاعتبار بقوله تعالى في الآية 35 من سورة فصّلت: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحقّ، أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد)، فعند مراجعتي لتفسير أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن أبي بكر القرطبيّ وهو من أعلام مدرسة التّفسير بالمأثور وجدته يفسّر الآية المذكورة على الصّفحة 302 من الجزء الأوّل وهو بتحقيق الأستاذ الدّكتور أحمد عبد العليم البردونيّ فيذكر أنّ: (قوله تعالى: (وإذ قال ربّك للملائكة) فيه سبع عشرة مسألة منها أنّ خطاب الله تعالى للملائكة قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم وإنّما جاء عن سبيل الاستدراج إلى العبادة والتسبيح والتقديس، وأنّ قوله تعالى (إنّي جاعل) بمعنى خالق يقتضي التّعدّي إلى مفعول واحد، وخليفة قد يكون بمعنى خلافة من كان قبله في الأرض أو من كان قبله من الملائكة على ما روي، ويجوز أن يكون خليفة بمعنى مفعول أي مخلّف كما يقال ذبيحة بمعنى مفعولة والمعروف أنّ الخلَف بالتَّحريك من الصّالحين والخلْف بتسكينها من الطّالحين، وخليفة بالفاء قراءة الجماعة إلاّ ما روي عن زيد بن عليّ فإنه قرأ خليقة بالقاف، والمقصود بالخليفة أو الخليقة هنا في قول أبن مسعود وأهل التأويل هو آدم عليه السلام، ومع أن الملائكة لا تعلم قطعا إلاّ ما أعلمت ولا تسبق بالقول وذلك عامّ في جميعهم بدليل قوله سبحانه في آية أخرى: (لا يسبقونه بالقول)، فإنّ قولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء) إنّما هو على جهة الاستغراب بعدما رأت ما كان من إفساد الجنّ وسفكهم الدّماء فجاء قولهم محض استفهام إن كان هذا الخليفة على طريقة من تقدّم أم لا قاله أحمد بن يحيى، فبيّن الرّب تعالى أنّ فيهم من يفسد وفيهم من لا يفسد فقال: (إنّي أعلم ما لا تعلمون) وحقّق ذلك بأنْ علّم آدم الأسماء وكشف لهم عن مكنون علمه، وقال أبن زيد وغيره: إنّ الله تعالى أعلمهم أنّ الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء، فقالوا تلك المقالة إمّا لإظهار التّعجّب من استخلاف العاصين أو لاستعظام الاستخلاف والمعصيّة جميعا، قال قتادة: وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وأهل طاعة فقال: (إنّي أعلم ما لا تعلمون)، أمّا قوله تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلّها) ففيه سبع مسائل منها أنّ علّم قد تكون بمعنى عرّف والتّعليم هنا إلهام، ويحتمل أن يكون بواسطة ملك وهو جبريل عليه السّلام، قال الصّوفية: علّم الله آدم الأسماء بتعليم الحقّ إيّاه، وحفظها بحفظ وكّل فيه آدم إلى نفسه فقال: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) قال أبن عطاء الله: (لو لم يكشف لآدم علم تلك الأسماء لكان أعجز عن الإخبار عنها) وهذا واضح)، واستئناسا بما أورده الأستاذ الدّكتور محمّد عمارة في الجزء الثّامن من السّلسلة المشار إليها أعلاه على صفحات كتيّب بعنوان \"قراءة النّصّ الدّينيّ بين التأويل الغربيّ والتّأويل الإسلاميّ\" نقلا عن الشّريف الجرجانيّ في \"التّعريفات\" طبعة القاهرة لعام 1938 في مادّة التّأويل قوله: (التّأويل في اللّغة إدراك المرجع والمآل فيقال أوَّلَ الكلامَ إذا قدّره، وفي الاصطلاح هو صرف اللّفظ عن معناه الظّاهر إلى معنى يحتمله إذا كان موافقا للكتاب والسّنّة كقوله تعالى في الآية 95 من سورة الأنعام: (يخرج الحيّ من الميّت) فإن أراد به إخراج الطّائر من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد به إخراج المؤمن من الكافر كان تأويلا لأنّ التّأويل في جوهره ردّ المتشابهات إلى المحكمات)، فإنّي أزعم وبالله التّوفيق أنّ الآية الكريمة تتضمّن بطريق الإشارة العديد من الحقائق والملاحظات منها: * أنّ في حواره تعالى للملائكة تعليما للعباد وتذكيرا لهم بأهمّيّة الاستشارة في إثراء الفهم وإضاءة الطّريق وجدوى المشاورة في توحيد الجهود ورصّ الصّفوف وإشراك من يهمّهم الأمر في الفعل وفي اتّخاذ القرار، مع أنّ الأولى بطبيعتها غير ملزمة في حين أنّ الثّانية ملزمة لأنّها ذات صبغة مؤسّساتية كما يستفاد من فقه السّيرة النّبويّة. * أنّ في قوله تعالى (إنّي جاعل في الأرض خليفة) وفي قراءة زيد بن عليّ رضي الله عنه (خليقة) بالقاف إشارة إلى خلافة الآدميّين لسلالة بشريّة منقرضة لا يربطهم بها رابط، وذلك بدليل الوصف المتضمّن في تساؤل الملائكة الذين لا يعلمون الغيب بدليل قوله في الآية 65 من سورة النّمل: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيّان يبعثون)، وقوله في الآية 26 من سورة الجنّ: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا)، وإنّما هم يجرون قياسا للشّاهد على الغائب عند القول: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء)، فاتضّحت بسؤالهم أبرز صفات الخلق السّابق وهي التّوحّش والدّمويّة . * أنّ قوله تعالى (وعلّم آدم الأسماء كلّها) يبيّن أهمّ صفة ميّز بها المستخلِف الكائن المستخلَف، وهي الاستعداد اللّغويّ والقدرة على الكلام والتّعامل بالرّموز والمجرّدات، وهو ما يحيل إلى أنّ النّوع المنقرض لم يكن لديه لسبب من الأسباب هذا الاستعداد، فاللّغة ملكة فطريّة أهّلت الإنسان لوظيفة الاستخلاف ومهّدت له الطّريق لعمارة الأرض وإدراك ما حوله، وهدته إلى سبيل الانتفاع بمهامه فهيّأت له من وسائل العلم والمعرفة ما جعله أهلا لتلقّي أوامر الله وتنفيذ وصاياه، وكانت وجها من أوجه نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، وسببا من أسباب ذكره وشكره والتّسبيح له، فالقدرة على استعمال الرّموز بكثافة في الحياة الاجتماعيّة بتسميّة الأشخاص والأشياء بألفاظ منطوقة أو برموز ملموسة تجعلنا ندرك قيمتها حين نتصوّر ما قد يفرض غيابها من صعوبة على جميع مناحي الحياة وخاصّة منها تلك المتعلّقة بالتّواصل والتّعارف، والاعتراف والتّعايش، وتبادل الخيرات والخبرات، ولعلّ غياب هذه القدرة هو ما جعل تلك السّلالات السّابقة من المتوحّشين الذين يظلم بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا إلى أن أفضى بهم ذلك إلى الانقراض، وممّا يدلّ على وجود هذا الظّلم الذي يعدّ أشدّ معاول هدم الحضارات فتكا وصيّة الله لآدم وحوّاء بقوله: (ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين)، فالمؤكّد إذن أنّ الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يميّز الله الآدميّين بالكفاءة اللّغويّة والقدرة على التّفكّر والتّدبّر والاختيار، وبالاستعداد للتّعاون والتّواصل والتّكافل وحسن الجوار. تستحيل المدنيّة بغير الأخلاق: يشير ول دايزيل ديورانت في الصّفحات الأولى من المجلّد الأوّل من الجزء الأوّل من قصّة الحضارة بترجمة الأستاذ الدّكتور زكيّ نجيب محمود إلى أنّ المدنيّة نظام اجتماعيّ يعين كلّ مجتمع يتمسّك بالتّقاليد الخلقيّة، واستنادا إلى ما يتمّ إحرازه من استقرار في النّظم السّياسيّة ومن تنميّة للموارد الاقتصاديّة، وما يتمّ تحقيقه من تراكم في مختلف العلوم والمعارف والفنون على الزّيادة في الإنتاج الثّقافيّ لأنّ المدنيّة إنّما تزدهر في جوّ الحرّيّة والمسئوليّة حيث يختفي الاضطراب وينتهي القلق وينشأ التّطلّع إلى الإبداع فباستنهاض الهمم للعمل الذي يضفي المعنى على الحياة يحصل التّراكم في مجال الإنتاج الثّقافيّ عموما، وبالحضّ على فهم الحياة نفسها واستكناه أسرارها والكشف عن السنن الطّبيعيّة والاجتماعيّة النّاظمة للوجود يمكن المحافظة على الموارد الطّبيعيّة والتّنوّع البيئيّ ويكون السّعي على نحو جدّيّ إلى ما ينفع المجتمع الإنسانيّ، \"فلن تستحقّ الحياة أن تعاش إذا لم تكن موضوع تأمّل جيّد\" مثلما يوصي بذلك الفيلسوف اليونانيّ سقراط، فبهذا التّأمّل العميق يزداد الاهتمام المتبادل وتتقوّى الرّوابط المشتركة وتنمو الاعتماديّة الهائلة على بعضنا البعض في عالم أصبح أقرب ما يكون إلى قرية كوكبيّة، وبهذا التّأمّل تنتج الحياة الاجتماعيّة مجتمعا يعيش فيه الجميع دون إقصاء أو استبعاد أو تهميش، ودون قهر أو حرمان، وبه نستطيع أن نعرف أنفسنا بعلاقتنا بالآخرين على الصّفحة 62 من كتاب بعنوان \"لماذا ينفرد الإنسان بالثّقافة\" بترجمة الأستاذ الدّكتور شوقي جلال على العدد 229 من سلسلة عالم المعرفة يتساءل الأستاذ مايكل كاريذرس (MICHAEL Carrithers) الأستاذ بشعبة الأنتروبّولوجيا بجامعة دورهام فيقول: ( * مع التّسليم بتنوّع أشكال الحياة البشريّة، ما هو بالضّرورة الشّيء الصّادق والأصيل في البشر عموما؟! * مع التّسليم بخلق وإعادة خلق أشكال متنوّعة للحياة، ما هو الشّيء الصّادق والأصيل في البشر عموما؟! لقد تصوّرنا أنّ البشر ما هم إلاّ حيوانات لها ثقافات، ولهذا أجبنا عن السّؤال الأوّل بقولنا إنّهم حيوانات عاقلة مبدعة وقابلة للتّعلّم، وهم سلبيّون إزاء ثقل وطأة التّراث ومتطابقون معه. بيد أنّنا الآن نرى أنّ البشر أيضا قوّة فاعلة، إنّهم كذلك حيوانات ذات تاريخ، إنّهم حيوانات اجتماعيّة في الأساس وقادرة على الابتكار، يحيون في العلاقات بين بعضهم البعض، وبفضل هذه العلاقات مع بعضهم البعض، ولهم استجاباتهم وردود أفعالهم إزاء بعضهم البعض، بغية صنع علاقات جديدة وأشكال جديدة للحياة، وهكذا أصبح الآن كلّ من السّؤال والجواب أكثر صعوبة بكثير).. وعلى الصّفحة 394 من كتاب بعنوان \"نظريّة الثّقافة\" بترجمة الأستاذ الدّكتور علي سيّد الصّاويّ على العدد 223 من سلسلة عالم المعرفة يشير الأساتذة مايكل طمسن (MICHAEL Thompson) وريتشارد إيليس (RICHARD Ellis) وآرون ولدافسكي (AARON Wildavsky) عند مناقشة الخلاصة التي توصّل إليها الأستاذان غابرييل ألموند (GABRIEL A. Almond) في كتاب بعنوان (The Intellectual History Of The Civic Culture) وفيربا سيدني (SIDNEY Verba) في كتاب بعنوان (On Revisiting The Civic Culture) إلى: (أنّ تصميم البحث في الكتاب الذي يعتبر تفسيرا للمخرجات المؤسّسيّة في دول أوروبّيّة مختلفة هو الذي أملى على ألموند وفيربا تأكيد الاختلافات بين الأمم أكثر من الاختلافات داخل الأمم، ومع ذلك فإنّ إعادة تحليل بعض المقابلات التي أجرياها يوضّح أنّ الاختلافات داخل كلّ بلد اختلافات صارخة كالتّنوّع بين الأقطار، وبرغم أنّ تشخيص الثّقافات القوميّة بأنّها إمّا <<مغتربة>> أو <<موالية>> أو <<خضوعيّة>> أو <<مشاركة>> ليس مَعيبا كنوع من التّوصيف الموجِز لأكثر من نمط حياة بما يميّزه عن غيره، فإنّ ذلك الاختزال يحجب حقيقة أنّ جميع تلك الثّقافات السّياسيّة القابلة للنّماء توجد فعلا في داخل الأمّة الواحدة، وإن كان بمقادير متفاوتة، فضلا عن ذلك فإنّ هذا الاختزال يتجاهل التّغيّر في قوّة هذه الأنماط الحياتيّة المتنافسة عبر الزّمن، ممّا يجعلنا غير قادرين على تفسير انهيار الدّيمقراطيّة من جديد في القارّة الأوروبّيّة). بين التّطوّر والتّدهور: مع الإيمان بوحدة المجتمع الإنسانيّ والعمل بالتّضامن والتّعاون والتّكامل الاجتماعيّ يتحقّق الارتقاء على مدارج المدنيّة، فقد كان الاستقرار المعيشيّ الذي أحرزه \"الإنسان القديم\" في فجر التّاريخ بفضل الاعتماد على الزّراعة إيذانا ببداية الحضارة والسّيطرة على الطّبيعة ومقاومة الأمراض، لكنّ مع الأنانيّة والنّزوع للهيمنة على الآخرين والرّغبة في السّيطرة على مقدّراتهم تتكبّد الإنسانيّة خسارة فادحة في راحتها وتطوّرها المدنيّ وتدخل الحضارة طور التّدهور بسبب ما قد تبديه بعض الجماعات أو الفئات من حرص على تدبير حروب هنا أو هناك لتحقيق \"أمن قوميّ\" مزعوم أو حماية \"مجال حيويّ\" مفترض، لذلك فلا غرابة في أن يحتدم التّنافس على استنزاف الموارد الطّبيعيّة في ظلّ سيادة \"قانون الانتخاب الطّبيعيّ\" بين الأمم، ومع متساوية \"البقاء للأقوى\" يغدو السّباق نحو التّسلّح مُشْرَعًا ومَشْرُوعًا، وتطلق القوّة المنفلتة من كلّ قيد أخلاقيّ الارتكاس إلى التّوحّش والهبوط بإنسانيّة الإنسان إلى مدارك قردة الأورانجوتان (Les Orangutans) فتكرّس )قانون الغاب/(La loi de la Jungle بشكل لا يفيد معه المسار التّطوّريّ للمجتمع البشريّ الارتقاء في مطلق الأحوال ذكر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ على الصّفحة 140 من المجلّد الأوّل من كتاب الحيوان: أنّ شبه ظاهر القرد بظاهر الإنسان يرى في طرفه وتغميض عينيه، وفي ضحكه وحكايته، وفي كفّه وأصابعه في رفعها ووضعها وكيف يتناول بها، وكيف يجهّز اللّقمة إلى فيه وكيف يكسر الجوز ويستخرج لبّه، وكيف يلقَنُ كلّما أُخِذَ به وأُعِيد عليه، وأنّه من بين جميع الحيوان إذا سقط في الماء غرق مثل الإنسان وأورد كمال الدّين محمّد بن موسى بن عيسى الدّميريّ في الجزء الرّابع من كتابه حياة الحيوان الكبرى أنّ القردة قد تلد في البطن الواحد عشرة ويمكن أن تزيد عن ذلك، وأنّ لها قابليّة خاصّة للتّعليم والتّدريب حتى إنّ أهل اليمن كانوا يعلّمون القردة القيام بحوائجهم وقضاء أغراضهم، ولذلك تعرّض الفقهاء في فقه النّوازل لجواز أكل ثمن القرد وعدم قطعه عند السّرقة لأنّه لا اختيار له فيها إذا ما درّب، كما أورد في عن المتنبّي قوله: يرمون شأوي في الكلام وإنّما **** يحاكي الفتى فيما خلا المنْطِقَ القردُ وساق من جمهرة الأمثال قول بعضهم: أزنى من ذبابة وأفسد من فأر وأقبح من قرد، ومن مجمع الأمثال قول بعضهم: أحكى من قرد، لقدرته على أن يحكي (Singer) أفعال الإنسان، وفي أيّامنا هذه اشتقّ بعضهم من اسمه لفظ القرديّة (La Singerie) للدّلالة على الإيغال في المحاكاة دون تمحيص بعدما سلخ قوم حياءهم بسلخ ثيابهم، وسلخوا دينهم بسلخ حيائهم إلى أن صاروا مسوخا أشدّ دمامة وقبحا من القرود، قال تعالى في سورة الكهف: (قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالا، الّذين ضلّّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا، أولئك الّذين كفروا بآيات ربّهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا( عود على بدء: البيان ضدّ العُجْمَة والإخفاء قال عليه الصّلاة والسّلام: (إنّ من البيان لسحرًا(، وذكر الرّاغب الأصفهانيّ في غريب القرآن على الصّفحة 69 من الجزء الأوّل بتحقيق محمّد سيّد كيلانيّ عند تفسير قوله تعالى في الآية 101 من سورة الأعراف: (تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين( أنّ البيان هو الكشف عن الشّيء وهو أعمّ من النّطق اختُصَّ به الإنسان دون غيره من المخلوقات، ويسمّى ما يبيّن به الشّيءُ بيانًا، قال بعضهم: البيان ضربان، الأوّل أن يكون بالتّنجيز أي بالإتيان بالأشياء التي تدلّ على حال من الأحوال أو أثر من آثار الصّنع، والثّاني أن يكون بالاختبار إمّا نطقا أو كتابة أو بطريق الإشارة، فممّا هو بيانٌ بالحال قوله تعالى في الآية 62 من سورة الزّخرف: (ولا يصدّنّكم الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين(، وممّا هو بيانٌ بالاختبار قوله تعالى في الآيتين 43 من سورة النّحل و07 من سورة الأنبيّاء: (وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون(، وسمّي الكلام بيانا لكشفه عن المقصود وإظهاره، وسمّي ما يشرح به المبهم ويفصّل به المجمل بيانًا قال تعالى في سورة الرّحمن: (الرّحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان(، قال القرطبيّ على الصّفحة 152 من الجزء السّابع عشر من التّفسير المشهور: (قال سعيد بن جبير وعامر الشّعبيّ الرّحمن اسم يتألّف من فواتح سور إذا جمعن صرنّ اسما من أسماء الله تعالى، الأولى وهي \"الر\" فاتحة سورة يونس وسورة هود وسورة يوسف وسورة إبراهيم وسورة الحجر، والثّانية \"حم\" وهي فاتحة سورة غافر وسورة فصّلت وسورة الشّورى وسورة الزّخرف وسورة الدّخّان وسورة الجاثية وسورة الأحقاف والثّالثة \"ن\" وهي فاتحة سورة القلم، قال الزّجّاج: علّم القرآن، سهّله للذكّر كما قال تعالى في الآية 17 من سورة القمر: (ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر(، خلق الإنسان، قال ابن عبّاس وقتادة والحسن رضي الله عنهم جميعا يعني آدم عليه السّلام، علّمه البيان أي الكلام والفهم وأسماء كلّ شيء، وعِلْمَ الحلال والحرام، وبيانَ الهدى والضّلال والخير والشّرّ وهو ممّا فُضِّلَ به الإنسان على غيره(، وعلى أساس هذه الحقيقة القرآنيّة والتّفسير الإيمانيّ نستطيع أن نقرّر أنّ الإنسان خلقا عالما ناطقا متديّنا على صورته كما هو. في مؤلّفه: (La Planète des singes) استخفّ الرّوائيّ الفرنسي (Pierre Boulle) من ذلك الإعجاب بالمركزيّة الأوروبيّة محذّرا المجتمع الغربيّ من عواقب النّظرة المتعالية ومن احتقار الثّقافات المغايرة، مسائلا العقلانيّة المعاصرة عمّا تكرّسه العلاقات الغريبة والمختلّة مع الدّول النّامية والشّعوب المستضعفة التي لم تمتلك بعد قدرا كافيا من التّقدّم التّقنيّ من ظلم فظيع، ومبرزا بطولة الإنسان الحرّ والمتضامن في مواجهة الأخطار المحدقة والكوارث والمعاناة، وقد حقّقت هذه الرّواية التي تميّزت ببعد نظر ورؤية مستقبليّة نجاحا عالميّا منقطع النّظير أهّلها لأن تترجم إلى عمل سينمائيّ ضخم وممتع من توقيع المخرج الأمريكيّ (Franklin J. Schaffner) سنة 1968 تحت نفس العنوان (Planet of the Apes)، ولا زلت أذكر ولعا قديما بالفنّ السّابع حثّني على مشاهدة هذا الفيلم الرّائع رفقة صديق حميم من أصدقاء المرحلة الثّانويّة هو الأخ أبو شعيب بلحوس رحمه الله، حيث كنّا نعيد مشاهدة الفيلم كلّما سمحت لنا الفرص بذلك، وكان رحمه الله يردّد في مزاحه مع الأصدقاء قولا حكيما لقردوح مؤدّاه: (Ou il y a du feu il y a de la fumée)، وفعلا (لا دخّان بدون نار) والله المستعان وهو أرحم الرّاحمين عبد ربّه تعالى: محمّد بن محمّد بن عليّ بن الحسن المحب