طبعت الحربان العالميتان العلاقات الأوروبية بالتوتر الشديد،وخلقت أزمات سياسية واقتصادية عميقة اكتوت بنارها الشعوب الأوروبية، وبدت أوروبا في صورة الخريطة السياسية المشتتة العاجزة عن الوقوف خلال فترة ما بعد الحرب. التدخل الأجنبي سيزيد الوضع تعقيدا، بحيث كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية المستفيد الأول من الحرب ستتدخل بقوة في ما سمي بإعادة بناء أوروبا، وستجد الشركات الأمريكية من ثم موطئ قدم لها بالديار الأوروبية. غير أنه ومع مرور الأيام، ستبادر مجموعة من الدول الأوروبية على رأسها فرنسا وألمانيا والبينيلوكس-بعقد لقاءات واجتماعات متتالية للتنسيق بين مواقف تلك الدول بخصوص بعض القضايا الداخلية والخارجية في ظل حرب باردة محتدمة ميزت العالم وقتئذ. هذا التنسيق سيتوج بتوقيع اتفاقية باريس لعام 1951 التي نتج عنها تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، التي أرست الخطى لبداية التفكير في شيء اسمه الاتحاد الأوروبي. وفي المقال التالي سنعرض أهم المحطات التي رافقت التأسيس الفعلي لهيآت وهياكل الاتحاد الأوروبي انطلاقا من معاهدة روما 1957 ونهاية باتفاقية نيس .2003 معاهدة روما عام 1957 سيشكل تاريخ الخامس والعشرين من مارس من عام 1957 منعطفا نوعيا في تاريخ القارة الأوروبية بأكملها، بالنظر إلى الدور الذي ستلعبه وقتئذ وبعد ذلك في توحيد أوروبا، بعدما خرجت مدمرة مشتتة إثر حربين عالميتين اثنتين. ففي هذا التاريخ ستجتمع ست دول من دول أوروبا الغربية وهي على التوالي كل من فرنسا وبلجيكا واللوكسمبورغ وهولندا حاليا وإيطاليا وألمانيا لتوقع ما عرف لاحقا باتفاقية روما عام .1957 وقد نصت هذه الاتفاقية على خلق المجموعة الاقتصادية الأوروبية ، إلى جانب تأسيس المجموعة الأوروبية للطاقة الذرية صزءشدح. وقد كان من أهم أهداف إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية خلق سوق أوروبية مشتركة، والإسهام بشكل فاعل ومتوازن في تحسين الوضعية المعيشية للشعوب الموقعة على الاتفاقية المذكورة حسب البند الثاني منها، والتي كانت تعاني كلها تقريبا من ظروف عيش متدهورة وإن بنسب مختلفة نتيجة الآثار التي خلفتها الحرب العالمية الثانية على البنية الاقتصادية الأوروبية على وجه الخصوص، ونتيجة دخول الاقتصاد الأمريكي المنتصر بقوة في أوروبا الغربية بكاملها. وقد نصت الاتفاقية كذلك -بناءا على اتفاقية باريس 1951 التي نتج عنها تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب على توسيع التعاون الاقتصادي بين الدول الأوروبية على مستوى تأسيس الشركات العبر-وطنية، وهو ما شكل الانطلاقة الحقيقية لبدء تكوين المؤسسات الأوروبية. وقد رافق تطبيق بنود الاتفاقية إلغاء تام للرسوم الجمركية على السلع المتبادلة بين تلك البلدان، كما رافقها حديث عن ضرورة إرساء أسس سياسة تجارية موحدة ترتكز على تشجيع المبادرة الفردية، وتحجيم دور الدولة في دعم المؤسسات ذات الطابع الاجتماعي فقط. هذا وتجدر الإشارة إلى أن المعاهدة حددت فترة انتقالية في 12 عاما قبل التطبيق الشامل لبنودها. لكن هذه الانطلاقة ستتميز بالبطء الشديد نظرا لعجز هذه الدول عن توحيد القرار السياسي المشترك بينها الأمر الذي شكل مصدر توتر بين الدول المذكورة. أما بالنسبة لالمجموعة الأوروبية للطاقة الذرية فقد كان الهدف من تأسيسها إنشاء وحدات للبحث في الطاقة الذرية الأوروبية من خلال برنامج موحد بين البلدان الموقعة على اتفاقية روما. غير أن أهم ما جاءت به اتفاقية روما هو تأسيسها لآليات عمل جديدة تهم الاتحاد الناشئ، حيث نصت على خلق لجنة أوروبية مستقلة عن حكومات البلدان المنشأة لها، وتتمتع بحق المبادرة الخالصة، ويتمتع مجلس الاتحاد الأوروبي داخلها بسلطة اتخاذ القرار الملزم. كما نصت أيضا على تكوين محكمة أوروبية للعدل الهدف منها مراقبة تطبيق بنود الاتفاقية وإلزام الدول الموقعة باحترام تطبيق القانون المشترك. وقد سمح تطبيق بنود اتفاقية روما خلال الفترة الانتقالية التي امتدت ما بين 1958 و1970 برفع المستوى المعيشي للأوروبيين بعدما تضاعفت نسبة المبادلات التجارية -حسب محللين أوروبيين-بست مرات، كما ارتفع متوسط الناتج الوطني الإجمالي بنسبة 70 % تقريبا. اتفاقية ماستريخت 1992 خلال الفترة الممتدة من بداية السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ستحاول بلدان أوروبا الغربية المشكلة للاتحاد الأوروبي ترسيخ ركائز القوة الأوروبية على الساحة الدولية، سواء عبر الحفاظ على المصالح الأوروبية في مختلف مناطق العالم مستغلة في ذلك ظروف الحرب الباردة، وكذلك عبر السعي نحو توسيع قاعدة الدول المؤسسة للاتحاد الذي أصبح يضم 12 دولة مع بداية التسعينيات من القرن الماضي. وخلال نفس الفترة سيعرف الأوروبيون توقيع اتفاقية مهمة في مسار ترسيخ مؤسسات الاتحاد، ألا وهي اتفاقية ماسترييخت التي كانت تهم العملة النقدية الموحدة. فقد وقعت اتفاقية ماسترييخت في السابع من أبريل من عام 1992 بالمدينة التي حملت الاتفاقية اسمها أي مدينة ماسترييخت الهولندية، وستشكل الثمرة الطبيعية لكل من المؤتمر الاقتصادي النقدي الذي أنشأ عام 1989 لمناقشة سبل توحيد العملة الأوروبية، ومؤتمر الوحدة السياسية الذي جاء نتيجة لمبادرة قام بها كل من فرانسوا ميتران وهلموت كول لتقوية الدعائم السياسية لأوروبا. وبعد سنة واحدة تقريبا من الجدل حول الموافقة على الاتفاقية داخل البلدان المشكلة للاتحاد، ستجري عدة استفتاءات حول الموافقة على المعاهدة الأوروبية الجديدة، وستعلن كافة شعوب الدول الأعضاء عن موافقتها باستثناء إنجلترا التي تحفظت على الشق الاجتماعي والمالي (إدخال عملة اليورو) من الاتفاقية. وعموما فإن معاهدة ماسترييخت ساهمت بدورها في ترسيخ مؤسسات الاتحاد الأوروبي من خلال الأهداف التالية التي جاءت لتحقيقها: تشجيع نمو اقتصادي وتوازن اجتماعي داخل البلدان الأوروبية. ترسيخ قيمة الشخصية الأوروبية على الساحة الدولية. حماية حقوق الدول الأعضاء. تكريس التعاون بين بلدان الاتحاد في مجال العدل، والحفاظ على آليات تطوير المنظمة الأوروبية. وإذا كانت تلك الأهداف هي المعالم الكبرى للمعاهدة، فإن نتائجها المباشرة تجلت فيما يلي: 1 خلق وحدة اقتصادية ونقدية أوروبية، تتحقق على أرض الواقع ما بين 1997 و 1999 تخضع لتسيير بنك مركزي مستقل. 2 ترسيخ مبدإ سياسة خارجية وأمنية أوروبية موحدة، الهدف منها تقوية الشخصية الأوروبية على الصعيد العالمي. 3 منح كافة حقوق المواطنة-حماية قانونية، ترشح،...-لكافة مواطنيي البلدان الاثنا عشر المكونة للاتحاد في أي بلد عضو وجدو فيها. 4 تقوية صلاحيات البرلمان الأوروبي، وتحديد آليات تمكن من خلق وحدة اجتماعية أوروبية متناسقة من خلال القضاء على الفوارق الاجتماعية بين الشعوب المكونة للاتحاد. اتفاقية أمستردام: وقعت هذه الاتفاقية في الثاني من أكتوبر من عام ,1997 ودخلت حيز التطبيق في الأول من ماي .1999 وترتكز الاتفاقية المذكورة على ثلاث ركائز أساسية: 1 توطيد أسس الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان داخل بلدان الاتحاد. 2 تحديد آليات العمل الأمني وتقوية أسس العدالة. 3 تطوير هياكل الاتحاد ومجالات نشاطه عبر إبداع مجالات جديدة للعمل. فالمعاهدة جعلت من رفع مستوى التشغيل والتخفيض من عدد العاطلين أولوية من أولوياتها. ووضعت لأجل تحقيق هذا الهدف خطة واضحة المعالم ارتكزت على وضع مشاريع اقتصادية مهمة تمول من صناديق الاتحاد، وتمنح كافة التسهيلات اللازمة لإنجاحها. يضاف إلى ذلك تقوبة مسطرة الحماية الاجتماعية عبر تنظيم العمل، ووضع حد للإقصاء والتهميش. كما نصت الاتفاقية على أهمية الحفاظ على الحقوق الأساسية للمواطن الأوروبي، ومنع كل نزعة عنصرية، مع التأكيد على ضرورة الدفاع عن حقوق المستهلك الذي يشكل القاعدة الأساسية للاقتصاد الأوروبي. وأكدت الاتفاقية أيضا على ضرورة توفير الشروط الأمنية لضمان حقوق المواطنين الأوروبيين، مع تقنين الهجرة وضبط آلياتها، والتفكير لإيجاد حلول جذرية لظاهرة الهجرة السرية التي تقض مضجع الأوروبيين. كما أن الاتفاقية نصت على ضرورة أن تسعى بلدان الاتحاد مجتمعة إلى وضع حد للظواهر السلبية في المجتمع الأوروبي عبر محاربة ترويج المخدرات، ومحاربة الاعتداءات الجنسية على الأطفال بالخصوص، ومحاربة الجريمة المنظمة والإرهاب. ومن أهم ما أكدت عليه الاتفاقية هو إعادة هيكلة مؤسسات الاتحاد الداخلية قبل توسيعه، بحيث ستمنح صلاحيات قوية للبرلمان الأوروبي الذي سيصبح على قدم المساواة مع مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي الذي يقرر كل ما يتعلق بالميادين المحورية التي تهم المواطن الأوروبي من تشغيل وبحث علمي، وحماية الحريات وتنشيط الاقتصاد وغيرها من المجالات المهمة. كما حثت على التفكير في خلق آلية تمكن من تبسيط مسطرة اتخاذ القرار الأوروبي في حالة توسيعه حتى لا تعقد قاعدة ممثلي الدول الأعضاء الواسعة عمل مؤسسات الاتحاد، وهو ما نصت عليه اتفاقية نيس التي دخلت حيز التطبيق في الأول من فبراير من عام .2003 اتفاقية نيس 2002 أصبح واضحا أن مبدأ تقوية المجال الاجتماعي أصبح قويا بصفة عامة بعد بداية تطبيق اتفاقية أمستردام عام .1999 وقبل توسيع قاعدة الاتحاد التي كان من المفروض أن تضم حوالي ثلاثين بلدا أوروبيا، وجد الأوروبيون أنفسهم ملزمين بإيجاد صيغ عملية تضمن السلاسة اللازمة في اتخاذ القرار المشترك، دون الدخول في التفاصيل البيروقراطية المعقدة. من ثم جاءت اتفاقية نيس التي بدأ العمل بها في فاتح فبراير .2003 وعموما فإن هذه الاتفاقية ترتكز على ثلاثة أسس: 1 تحديد مكونات المؤسسات الداخلية للاتحاد. 2 تحديد آليات عمل تلك المؤسسات. 3 ستوضيح آليات اتخاذ القرار داخل مختلف الهياكل المكونة للاتحاد، خاصة منها المجلس الأوروبي. فقد تم كما سبقت الإشارة إلى ذلك توسيع صلاحيات البرلمان الأوروبي، عبر منحه اتخاذ القرارات الخاصة بالهجرة السرية، ومحاربة الظواهر السلبية في المجتمعات الأوروبية، والحفاظ على التناسق الأوروبي في المجال الاقتصادي والاجتماعي، وفي مجال منح التأشيرات،... كما وفرت المعاهدة الجديدة الأساس القانوني للأحزاب الأوروبية للجوء إلى البرلمان الأوروبي لأجل مناقشة سبل تمويلها. ويتراوح عدد مقاعد البرلمان حسب وثائق الاتحاد ما بين 626 و732 مقعد، يتم توزيعها اعتمادا على قاعدة الدول الأعضاء، والدول المرشحة للانضمام للاتحاد. ويخضع نظام التصويت داخلها لقاعدة : الإجماع، ولقاعدة الأغلبية. ومن الهياكل الأخرى المكونة للاتحاد نجد اللجنة الأوروبية التي سيتمتع رئيسها ابتداءا من عام 2005 بصلاحيات واسعة لتمكينه من أدوات العمل الضرورية للأداء الصحيح، ونجد كذلك محكمة العدل الأوروبية التي تتكون من ممثل عن كل دولة، كما نجد أيضا مجلس الحسابات الأوروبي الذي يتكون بدوره من ممثل عن كل دولة. كما رسخت معاهدة نيس قيم حماية حقوق الإنسان عبر خلق آليات تنبية ومحاسبة دول الاتحاد لدى خرقها لمبدإ من مبادئ الحريات العامة، وروابط تقوية العلاقات الداخلية لبلدان المكونة للاتحاد عبر تبسيط مسطرة تقوية التعاون وعدم اشتراط الأغلبية لتحقيق هذا الهدف من جهة، وعبر إلغاء حق النقض الفيتو الذي جاءت به اتفاقية أمستردام. خلاصة يوضح تتبع مسار تأسيس الاتحاد الأوروبي أمرين أساسين: أولهما أن توحيد بلدان القارة تطلب وقتا طويلا ومازال كما تطلب تنازلات كبرى من طرف العديد من البلدان القوية المكونة للاتحاد. وثانيهما هو أن القوة التي نتجت عن إنشاء الاتحاد سمحت للأوروبين بتبوء مكانة متقدمة في العالم الحالي الذي ذابت فيه الدولة الوطنية في إطار التكتلات الكبرى الاقتصادية والسياسية. وإذا كانت بلدان أوروبا تتميز باختلاف كبير على المستوى الإثني و اللغوي و الديني والإيديولوجي والسياسي، ومع ذلك استطاعت تكوين وحدة شاملة، فيبدو من المستغرب أن لا تفكر الأمة الإسلامية في لم شملها، خاصة وهي تتوفر على كل شروط التوحد التي تتمحور حول الدين الإسلامي الحنيف. أحمد حموش